الإثنين 6 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

آمال تموت ببطء

آمال تموت ببطء
4 أغسطس 2010 20:35
فتحت عنود خزانة ملابسها المتزاحمة، متأملة إياها برهة من الزمن.. ثم مرت أصابعها المرتجفة عليها تحاول انتقاء الأفضل.. وقع بصرها على ذلك الفستان الأحمر المطرز بالفصوص المذهبة واللؤلؤ.. أخرجته، ثم وضعته على جسدها، وأخذت تتأمل نفسها لحظة في المرآة، ابتسمت راضية عن اختيارها، معجبة بشكلها.. رمته على السرير، ثم أقفلت الباب، وجلست أمام مرآتها تتطلع إلى نفسها.. تنظر إلى ذلك الوجه الذي خطت عليه الثلاثون عاماً آثاراً لا تخفى.. تنهدت تاركة لفكرها أن يسبح بعيداً.. قبل خمس عشرة سنة، حينما أخرجها أبوها قسراً من المدرسة، كي ترعى أختها الصغيرة بعد وفاة أمها.. لم يكن هناك مجال للتفاهم أو الرجاء، فقد كان أمراً، وعليها التنفيذ.. وتآكلت أحلامها جزءًا جزءاً خلف جدران ذلك المنزل الخانق، وتحت ثقل المسؤولية التي لا يقوى عليها عودها الغض الطري.. ومرت الأعوام إثر الأعوام. وفقدت عنود معنى الحياة الحقيقية بين أب متعجرف قاسٍ، وزوجة أب لاهية، وأخت بريئة لا ذنب لها سوى أنها نشأت يتيمة.. لم يكن ينقذها من واقعها سوى تلك الأحلام التي تعيشها.. تتخيل نفسها تارة طبيبة.. تارة شخصية مشهورة.. وتارة زوجة ولها أسرة دافئة حنونة.. كانت الأحلام هي بصيص النور الوحيد في حياتها.. وكان هذا البصيص يخبو رويداً رويداً كلما مرت الأيام، وتتابعت السنون. تبسم لها الحظ يوماً حينما طرق بابهم أبو أحمد يخطبها لابنه أحمد، ذلك الشاب المتزن البار بوالديه، المشهور بدماثة خلقه، وأدبه الرفيع، فرحت واستبشرت بحياة جيدة سعيدة.. ولكن الطلب رفض، لأن أحمد كان متوسط الحال، ليس ذا مال.. وخرج أبو أحمد، وخرج معه أمل كانت تنتظره تلك المسكينة. وعرفت عندها أن أباها يريدها سلعة لمن يدفع أكثر.. وتوالى الرفض مرات ومرات، وأطل شبح العنوسة يقتل آمالها، ويحطم كل أحلامها.. استيقظت عنود من ذكرياتها على صوت طرق خفيف على الباب.. دخلت عليها أختها هدى، ثم نظرت إليها بخبث وقالت: ماذا تفعلين؟ ابتسمت عنود بخجل وقالت: ـ لا شيئاً فقد كنت أختار الفستان الذي سوف ألبسه.. ـ طبعاً، طبعاً، فاليوم يزورنا أبو أحمد وأم أحمد، ولا بد أن تكوني بأبهى هيئة. ـ ماذا تقصدين؟ ـ دعيني أنظر إلى عينيك لأرى بريق الفرحة فيهما.. أنت تعلمين سبب الزيارة، فاتصالهم بنا وزيارتهم لا تعني إلا شيئاً واحداً، وهو خطبتك لأحمد.. أقصد الدكتور أحمد. ـ لا أعتقد، لعلها زيارة عادية، كزيارته السابقة لنا. ـ لا.. لا لقد قالها أبو أحمد بالحرف الواحد: سنأتيكم لنأخذ عروساً لابننا أحمد. ضحكت عنود ثم قالت: ولكن هل تعتقدين أن أبي سيقبل به هذه المرة؟ ـ ولم لا، لقد رأيته البارحة يرحب بالزيارة كثيراً.. أعتقد يا عنود أن أبي قد عرف أخيراً خطأه، وأحس أنه أضاع حياتك من دون طائل، حينما رفض الكثيرين، ولكن هذا لا يهم الآن.. إن شاء الله سيكون أحمد من نصيبك، خاصة وأنه الآن ذو منصب مهم.. ـ بصراحة يا هدى لا أتصور نفسي عروساً بعد هذه السنين الطويلة.. لا أصدق أنني أخيراً سأكون زوجة، وربة بيت، وأماً لأطفال.. ـ يا حبيبتي.. لكم كنت أنتظر هذا اليوم الذي أرى فيه أحلامك تتحقق. ـ ولكن ماذا سيقول الناس عني، وأنا أتزوج في هذه السن..؟! ـ سيقولون أنك أجمل وأحلى عروس في الدنيا.. هيا هيا لا وقت لدينا، فالضيوف قادمون الآن.. وما هي إلا لحظات حتى طرق الباب، فتسابقت الأختان إلى باب غرفتهما، تسترقان النظر من ثقب ضيق بالباب، لاستطلاع ما يحدث في الصالة، وكل منهما تخفي ضحكة مكتومة. أنزل أبو أحمد كوب الشاي من يده، ثم اعتدل في جلسته ململماً أطراف ثوبه، ثم قال: ـ طبعاً يا أبا عنود أنت تعرف الموضوع الذي جئت أحدثك به.. ولدي أحمد الآن والحمد لله أصبح دكتوراً كبيراً، ويجب أن يستقر في حياته بعد هذه الدراسة الطويلة، لذلك أردت أن أبحث له عن عروس تناسبه، ذات خلق وأدب، وعائلة نفتخر بها.. وطبعاً لم نجد خيراً من بيتكم، نختار منه عروساً لولدنا.. ـ الله يخليك يا أبا أحمد. ـ ولهذا الأمر جئنا اليوم لنخطب ابنتكم هدى لابننا أحمد. ـ ماذا؟! هدى؟! ـ نعم هدى.. ما شاء الله لقد كبرت البنت، وصارت عروساً وابني أحمد لا يعيبه شيئاً. صحيح أنه أكبر منها بعض الشيء ولكن هذا لا يهم. ـ ولكن.. كنت.. كنت أعتقد أنكم تقصدون عنوداً؟ تلعثم أبو أحمد قليلاً ثم قال: ـ صحيح، كان هذا سابقاً، ولكن كما تعرف يا أبا عنود أن الدنيا تغيّرت، وابني الآن أصبح دكتوراً، وهو بحاجة لإنسانة في مستواه نفسه، وعنود بصراحة لم تكمل الإعدادي، بالإضافة إلى أنها أصبحت كبيرة عليه الآن.. وبإذن الله سوف يأتيها نصيبها عن قريب، ونفرح بها مثل أختها.. ها، ماذا قلت يا أبا عنود؟ نظر أبو عنود بعين منكسرة هناك.. صوب تلك الفتحة من الباب التي تطل منها عينان سقطت منهما دمعة، كأنها صرخة.. وإعلان لموت بطيء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©