الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

لم أعد أسمع المطر

لم أعد أسمع المطر
18 نوفمبر 2008 02:00
صباح يوم الأحد، حين استكملت طقوس يقظتي، نظرت من نافذتي التي بحجم نصف الجدار، لأجد البيوت والأشجار مغسولة بالمطر، انتابني شعور بسيط جداً، ألا أذهب للعمل، هو الإحساس ذاته الذي كان ينتابني في الصغر، ألا أذهب للمدرسة· الفارق بين الزمنين يكمن في أنني كنت أسمع المطر في الصغر، وهو يتحرش بالسقف والنوافذ والأشجار والبشر، بينما الآن يداهمني خلسة، يباغتني بعد أن أكون قد استكملت طقوس يقظتي، ومستعد للخروج من صومعتي، وبات من الصعب شد أطراف اللحاف والتكور أكثر تحته، لسبب بسيط، لم أعد أسمع المطر، ولهذا تداعيات ما لها مستقر· لم أعد أسمع المطر، ذاب صوت حبيبتي التي هطلت ذات يوم كالمطر، وهمست لها: إنها تمطر في داخلي، وبي رغبة للغناء، فقالت: غن، وابتعدَت، لم يعد هطول المطر يثير حنينها في تراب سهلي، ولهذا تداعيات: صرت أكتب الشعر المطعم بالأسئلة والقضايا الوجودية، صار شعري يتوق للخلود، وتجاوز الاحتراق أمام هيبتها، فالنساء يمتن حين يخرجن من قصائد الشعراء· لم أعد أسمع المطر، لم أعد أغني مع السياب، فالدمار وشرفة المطر ورعشة القمر تستوي في لحظة كلحظة غياب موسيقى المطر، التي تعني غياب المد والجزر والتيارات في الجسد، غياب السخونة والبرودة من الشرايين، وهذا يعني تبلد الحنين، وانطفاء النار في غياب المطر· لم أعد أسمع المطر، تناءت أهازيج الطفولة، وهواجسها، وقلقها، وأحلامها وطموحاتها، وتناءت رغبة السفر، فأنا على سفر، كل ما يحيط بي مؤقت، مكتبتي، أثاث بيتي، جيراني، أصدقائي، سيارتي، منفاي، مثلما كنا مؤقتين لغيرنا، غادرونا دون أن يلتفتوا مرة واحدة لعيوننا، أو يلوحوا بيد واحدة لوداعنا، كانوا على سفر سريع، كمشهد مريع، مشينا خلفهم تحت المطر، بكينا كالمطر، وتواروا، كما يتوارى عن قلوبنا المطر، رحلوا في غمرة المطر، وأورثونا المؤقت المرتجف المنهمر، والآني المرتعش المستعر، والخوف من المطر· لم أعد أسمع المطر، لم يعد يطرق نافذتي الخشبية حالم ضل الطريق، يحمل بندقية وقصيدة، وتحضنه ثياب مموهة، افتقدت دهشتي رصاصه، أشعاره، وثيابه المموهة، تماهى بها حتى اختفى، ويحتفي باختفائه كل صباح، كأنه يفرح بالتلاشي، والتلاشي يفرخ التلاشي، يصبح جيشاً من المواشي، ويتركنا (الحالمون بالحواشي) قابضين على جمر المطر، لم يسألوا عن غياب دهشتي، وذبول فرحتي، فغابوا من أسئلتي وأجوبتي، وغابوا عن المطر· لم أعد أسمع المطر، لا شيء يحرضني للنهوض في الصباح كي أستكمل الأفكار، فلا كتاب بدأته في الليل، ويغويني لمعانقته في الصباح، ولا أبطال رواية في انتظاري، ولا أحداث ساخنة تحرضني أو تثير ترقّبي، الوجوه ذاتها منذ عقود، والهزائم ذاتها، والحصار ذاته للمطر، نشكر الله أنه لا يزال ينهمر·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©