الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مطرقة الجحيم وشامة النار

مطرقة الجحيم وشامة النار
28 مايو 2014 22:23
لينا أبو بكر بين المرأة والمدينة، وشائج حوائية يغزلها حراس الجحيم بنول الأبالسة... جسدان من عطر ودخان، يتواريان بالرائحة من عود غادرينيا، أو من أصيص ثقاب، وبين قشة الرماد وزهرة السعادة يبرعم الجحيم! إنه المبدع وحده الذي يستطيع أن يصلب مدينة فوق هيكل امرأة، ووحده من بمقدوره أن يميط لثام الشمس عن وجه الآلهة، ووحده من يتقن الشعوذة في ملكوت التفاح.. (أنا إنسان مريض، شنيع الطبائع)... يقول الشاعر! صلصاله ناري، كأنه خلق من نبت شيطاني... في حقل من (أزهار الشر)، هو مخلوق داندي، جُبل من لغة تذرعت بالتعاسة كي تؤدي طقوس التكوين في مخدع الجحيم.. بينما صاحب “الخبز الحافي” مريض من جوع، يحس بغثيان دائم، ودوار كلما هم بالوقوف لالتقاط نجمة عارية، لا يتقيأ سوى معدته الفارغة، المرة الوحيدة التي أكل فيها فوق الشبع كان بأمر من أبيه الذي حشا أمعاءه بفائض من الطعام انتقاما منه، ليصحو على نفسه بالمشفى وقد أجريت له عملية تنظيف معدة.. متسكع يتناول السمك النتن، عن قارعة الطريق، ويأكل ريحان المقابر، والجيفة... الوضوح والمجاز مبدعان أحدهما مختبئ في وضوحه، كائن مجازي لا يرى نفسه، ولكنه ينتقم من وضوحه بطاقية الإخفاء: اللغة! اعترافه بثمرتيه المشوهة يبرر مسخه اللغوي، وهذا المسخ تحديدا هو من أضفى جمالية قائمة بذاتها لا تتوسل التشبيه بقدر ما تجنح إلى استعارة مكنية تشي برفض مطلق لدور الضحية، بتقمص سياطية الجلاد، كأنه تعذيب نفسي ملؤه التشعوذ، والسحرنة.. الشاعر في عرف الشعوب القديمة هو مشعوذ، حتى عند عرب الجاهلية، كان يتلقى اللغة على يد جنية في وادي عبقر، واللغة بهذا المفهوم تصبح قرينة، أكثر منها إلهاما. أما الراوي، فهو ابن قاتل أخيه، لا يكره أمه ولكنه لا يحب أباه، يحاول أن يفك طلاسم القسوة التي لا يجد لها مبررا في شخصية الأب الإله، يقتله ولكن في مخيلة مشعوذة ترتكب الجريمة والمعصية بحرية مطلقة هي مجرد تعويض عن كبت قهري يؤدي إلى متلازمة الاحتراق النفسي، وهو توصيف لحالة وجدانية منهكة يفقد بها المصاب دافعيته للاندماج بواقعه، تصيبه بنزلات برد، أرق، واضطرابات معوية وهضمية... يحاول مواجهة الضغوط ولكنه في اعتمالاته الداخلية منقطع عن ذاته الحقيقية.. تفنن البودليري بادعاء الذاتية، ليمحو ما يقع خارج فلكها، لأن مداراته الشعرية مرهونة ببؤرة كوكبية تدور حولها جميع الأفلاك، في حركة دورانية متقطعة، ليست نمطية ولا منتظمة لأنها تحتكم إلى التوترات النفسية اللاهثة، في الأنا الشعرية قبل الأنا الإنسانية، لأن الأولى ليست انعكاسا للثانية ولا هي برهانا عليها إنما هي أنا إلغائية، تُمَجْوِز الأصلية وتتحيز للقرينية، ومن هنا أتى الادعاء! الذات بالمطلق مرضية، ولكنها تستشفي بتعويذات لغوية، تعينها على رفض العقاقير الاجتماعية السامة عند شكري وبودلير معا... وهما بالتالي كائنان لغويان معجونان بدم الشياطين، بما أن مراسيمهما الإبداعية تعقد في محكمة الجحيم، التي تستدعي النساء في “مطرقة الساحرات” لتعمدهن بماء النار.. في حقدهما على المدينة طزاجة بكر، يرعيانها في معبد السحرة، ويريقان فوقها خلطتهما السحرية، كي تشب شجرة تفاح آثمة في جنة الأبالسة! المعادلة الوجودية في التركيبة الداندية عندهما مرتبطة أولا وأخير بنقمتهما وضجرهما من الوجود، وهو حدس إبداعي يشكل نواة أساسية لكل جوارجهما اللغوية الأخرى.. ولذلك تكمن حاجتهما إلى قارئ شرير يليق بالإثم. في “سأم باريس” هناك امرأة هي المدينة، يتلذذ بودلير بصلبها وهو يعلن موته في اليوم التالي بميقات اللغة، صراعاته النفسية حمّلته تابوته، وأمشته في جنازة المدينة الشاحبة، التي تفر من الحواري والبيوت والحوريات والمرايا، لقد اختار موته كقرين للغة، تبادل معها الأدوار بخفة قلم، وهو يستحضر قول نيتشه: “النوابغ يموتون شبانا لأنهم طيبون أكثر مما تستطيع هذه الأرض أن تتحمله”، بالنسبة إليه يأخذ الشر طابع الخير لأنه إبداعي بحت، ولن تسأل ساحرا مثلا عن شرعية السحر ما دامت الشعوذة أحد طبائع إبداعه لا استبداده.. اللغة ذؤابة الروح، التي يخرج منها الجسد في صلصالية فنية تعيد خلق الهيكل المجازي للشاعر بمطرقة الساحرات، ومعول الأبالسة، كما أنها عملية خلق معكوسة، تتشقلب فيها الدلالات على حبال اللهب، وفي مواضع معينة من ذاك الهيكل عليك أن تبحث عن اللغة كشامة سرية معجونة بماءات النار.. لغته جمرة سوداء في حبة القلب مع فارق بسيط يجعل من الشعوذة ترتيلة نورانية تنبذ الخمرة لتسعتذب ريق القهوة العربية من دلة القمر... بودلير المفتون بالشر، يصاحب السأم لكي يتقن اصطياد المدن بنسيج عنكبوتي واهن على باب مغارة احتياطية يسكنها الميت ـ شاهد القبر والحي الوحيد بين الأموات.. في حين أن شكري يندم لأنه لم يمت صغيرا كأخيه، ورغم أنه اختار العالم السفلي ليعربد في أقبيته انتقاما من عالم أبيه إلا أنه كان في قرارة مجونه وثورته على قدريته مشبعا بالأسطورة الدينية.. وبين البودليريين أو الشكريين لغة كَفَنِيّة تؤمن بالخلاص: يقول البودلير المغربي: “لقد فاتني أن أموت ملاكا” لأن الكبار يموتون شياطين.. و”الناس يحترمون أنفسهم أمواتا أكثر مما يحترمونها أحياء”... و”الحب دائما يحعلني أفكر بالموت”... أما شكري الباريسي فيرثي نفسه على طريقة مالك بن الريب ـ ولكن بعد موتها: “نم أيها الحي البهي، وسط الأحياء الأموات”... و”قد يتفرع الحب عن شعور سخي هو البغاء..”. الحجر النيئ بودلير فعليا ميت في نظر ذاته، وما بقي منه هو لغته.. إلا أنه شاماني يحضر روحه وهو يقرع صلصال النار بمطرقة ذات رأس واحدة هي اللغة.. أما المجاز فهو حجره النيئ، الذي يعود إلى نشأته الأولى بإزميل امرأة يستمد نقمته عليها من حبه لها، إنها أمه التي ترتدي ظله... إنه يستوي على عرش النار، والجدار الهيولي في رحم أمه لم يكن مائيا كبقية الخلق إنما ناريا، فالبئر بمعناه المقدس في الأساطير الجاهلية أو المصرية يمثل عالما سفليا يعيد الخلق إلى أصله المائي، بينما عالم بودلير السفلي “عالم الخلق” هو عالم تغرف المرأة منه جمر اللغة في دلال الأبالسة.. حسب حنكة الخلق البودليرية.. انزياحات بودلير الشعرية في دلالة الخلق الإبداعي، تحركها عقيدة الشر، التي يشق بها شعلة الشمس ليخرجها من عين حمئة... أجمل ما في القرينتين اللغويتين عند صاحبينا إذن شرههما المشعوذ، فكل الشحنات الإبداعية المتأججة تغذت على انكسارات مدوية في ملكوت النساء والمدن.. في “الخبز الحافي” لمحمد شكري أيضا مطرقة للجحيم، تعبر بك إلى حضيض الألم، حيث يشرب الأبطال من أباريق الدم ويأكل الفقراء من مزابل طنجة التي تعج بأغنياء أوروبيين تدل قمامتهم على ثرائهم، ثم الحشيش، رجال البوليس والإسبان، المهربين، الشواذ، البغاء، كله مرتبط بعراء روحي تجسد في ثنائية المدن والنساء.. القهر عند شكري وشم لغوي أسود على وجه المدينة كأنه شامة محترقة، وتشرده أحد أوجه هذا القهر، الذي تبدت تفاصيله الأولى في الريف، ثم مضى يحمل جوعه على ظهره مهاجرا إلى تطوان مع عائلته، وبعدها إلى وهران عند خالته، ولكنه هرب من كل الأمكنة ليحط رحال تسكعه في طنجة “المنغرسة في زمن زئبقي”، هناك شتات ذاتي يخترق إحساس الكاتب بالمكان في ذروة ارتباطه به، فالنيجاتيف الذاكراتي في ذهنيته المصقولة بشفرة حلاقة يفرز مواجهة قوامها الهرب، تملصه من المكان، وتخلصه من الظرف ليس حيلة للخلاص فقط، إنه بحث تجريبي عن قرينه اللغوي في حقل إجاص أو دور بغاء أو ألبوم صور لمونيك الفرنسية، أو شجرة خشب نحت منها امرأة من فاكهة النار.. الشر الذي يسوق إلى أكل قلب الأم حين يستبد الشح، يحيلك على صاحب “أزهار الشر”، فالجوع واحد، مادامت الجيفة على قارعة الطريق والأطفال جراء سائبة، لا تملك من أمرها شيئا سوى أنها ضحية رجل وامرأة تزوجا كما تقتضي الأعراف ـ لكي يتعاركا صباحا وينجبا المزيد من الجوعى ليلا، تماما كما يرى بودلير أنه ثمرة فاسدة من قران ملعون بين امرأة عشرينية ورجل في الستين... يبحث شكري عن مفلس يصادقه في المدينة المتاهة، ويراهن على حياته فإما يربح أو يخسر في مدينة ممسوخة، وهو إذ يحسد صاحبه “التفرسيتي” لأنه محظوظ ما دامت له امرأة تأتيه متى يشاء ويضربها متى يشاء، ويرى في عذراء حقل الإجاص جسدا يرقص في هيكله الشيطان، يعبر عن قلق وجودي يتقاسم حصته فيه مع الداندي الفرنسي، فالشيء عنده يبدو جامدا ما لم يشبه قليلا من التشويه، حتى المرأة في العرف البودليري تصبح قالبا لا يبدعه سوى الشاعر تماما كالمرأة الشجرة عند شكري، الذي اكتشف أن البكاء اكتمال وجودي للنساء، وهو ذاته الإنهاك والحزن الذي اجتذب بودلير إلى عالم حواء، في ذات الوقت الذي رأى فيه المرأة مكانا لقضاء الحاجة... إنها مسوخ تصورية، وفانتازيات وجودية، تنحت طين التكوين بمطرقة الجحيم، وتبصم على لحاء الجسد بشامة من نار هي: اللغة!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©