الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الفن ولو كلَّفَكَ العالم

الفن ولو كلَّفَكَ العالم
29 سبتمبر 2016 13:06
صالحة عبيد «بما يهمك رأيي؟، إن كنت فنانة حقيقية، فإنك ترسمين لأنه لا يمكنك العيش من دون الرسم، ترسمين ولو كلفك ذلك حياتك»، كانت هذه العبارة هي أول حوار عميق دار بين الفنانة المكسيكية «فريدا كالو» وزوجها لاحقاً والفنان المكسيكي أيضاً «دييغو ريفيرا»، عندما عرضت عليه أول مجموعة قامت برسمها بعد حادثها الكبير الذي جعلها طريحة الفراش لفترة طويلة، أعادت فيها تأهيل مشاعرها لتخرج بشكل شديد الإتقان على الورق.. وهذه العبارة كانت أول وأكثر ما دار في بالي بكثافة وأنا آخذ درس النحت الأول في محترف فلورنسا الفني، ذلك الاستديو الفني الصغير في حجمه المادي، والضخم في معناه الفني لكل من يحسن استدراك التفاصيل، المكون من ثلاث غرف رئيسة تطل على إحدى حارات مدينة فلورنسا الإيطالية، ورغم قرب هذه الحارة من مركز مدينة فلورنسا حيث الكاتدرائية الكبرى، والمزدحم عادة بجميع الأعراق من سياح العالم، إلا أنها تعزلك عن ذلك الزحام بسلام وصولاً إلى ذلك المرتكز الفني، حيث الزوجان الفنانان النحات فرانك روكرت، والتشكيلية لاورا تومبسون، الكنديان الأصل، والمقيمان منذ العام 2010 في مدينة «فلورنسا»، حيث عزلتهما المشتهاة التي تتمحور حول الفنون ممارسةً وتعليماً. نحات استفزه «مايكل أنجلو» لماذا فلورنسا؟ سألت «فرانك روكريت» وهو يأخذنا لنبدأ ممارسة النحت مباشرة، مؤمناً بأن النحت هو انغماس تام في ممارسة صناعة التفاصيل، ليجيبني من دون تردد «لأنني أشعر بالسلام هنا حيث الأعراق تسير جنباً إلى جنب لتستكشف تاريخ هذه المدينة بشغف، كما استمتع بكون كل ما حولي بشكل أو بآخر يحرضني على تضخيم ما حولي من أشكال لتتحول إلى مواضيع نحت، ربما هو شيء من روح هذه المدينة، حيث أعمال مايكل أنجلو ودوناتيلو وغيرهما.. تبقى لتتحدى أي فنان، لتقدم له تلك اللمحة الماكرة والمبهرة معاً، التي تستفز فيه إمكانية أن ينتج عملًا خالداً كالذي سبق وأنتج». يعيدني كلامه هنا إلى ذلك الاستفزاز العظيم، المؤلم والمحرض معاً، لكل ما يرتبط بالنتاج الإبداعي على مر العصور، حول إمكانية أن يقال أكثر مما قيل، ويرسم أكثر مما رسم، أو ليبتدع أكثر مما ابتدع بالمجمل، ورغم أنني كنت أعمل في درسي الأول ذاك، وأنا أحاكي نموذجاً لجسد بشري كان فرانك قد عمل عليه مسبقاً، إلا أنني أخذت أشعر بالتدريج بأن هناك الكثير ليقال بعد، وأن كل ضربة لبشري ما، على هذا الوجود، تحتمل الاختلاف أكثر مما تمتلك التجانس، كان النحت في ذلك المحترف، إمكانية جديدة للإجابة على الأسئلة، للتمازج مع القلق بهدوء، فيما يأتي «فرانك» بين لحظة وأخرى ليقوم ما يُصنع، بأسئلة جديدة حول ما نراه مناسباً، لتكون هذه المنحوتة الآيلة للتشكل، أشبه باستجابة إنسانية لإمكانية أن يجرب الكائن الحي معنى تكوينه البسيط الأول.. وما يمكن أن يتعدى ذلك ليعيد تدعيم هذا العالم الهش، بكل أسباب الهدم الممكنة من تمزق أخلاقي، وتدميرية آلية تصنعها آلات الحرب والتعطش للسيطرة والهوس الجيني بصناعة كائن لا يتعب ولا يمرض ويعيش خالداً للأبد. لم أحاول أن أحاكي ردة فعل «مايكل أنجلو» بعد أن انتهى من نحت «داوود» قائلاً له تكلم، بعد أن أنهيت المنحوتة الأولى، لكنني رحت أعيد التأمل فيما حولي من أعمال حاضرة «لفرانك روكريت» شارك بها في معارض سابقة، إضافة لأعمال نحتية كثيرة لطلابه، تحيط بها في أنحاء متفرقة من المحترف أعمال زوجته التشكيلية التي كان صوتها يأتي منساباً مع الموسيقا من الغرفة المجاورة، حيث كانت تعطي درساً في طريقة رسم الظِلال لآخرين من أماكن أخرى مع العالم، ورحت أفكر عما تخلى عنه هذان الفنانان هنا من حياة قريبة من العائلة والنمط السريع، لقد لفظا العالم الاعتيادي بطريقتهما الخاصة، وصنعا عالماً آخر، قائم على كل التفاصيل الفنية الممكنة، حيث يعيدان التعرف على الكائنات البشرية التي تشبهما من خلال هذه الدروس والمعارض التي ينظمانها عن قصد، وهما في خضم ذلك، يدركان عن الحياة أكثر مما تأتي به نشرات الأخبار المعلبة، والشبكات الافتراضية المتشنجة، لأنهما يتناولانها طازجة من الانطباعات التي يشكلها دارسوهما عن الأماكن التي جاؤوا منها، وما تحفل به من أحداث مشعة في أحيان ومعتمة في أحيان كثيرة، وهو الأمر الذي يأخذهما لاحقاً لإسقاطها على أعمال صادقة.. قائمة على القلق من الاضطراب البشري العظيم الذي يمور به الكون. في نحته يميل «فرانك» إلى تطويع الفراغ إلى حد ما، مازجاً دائماً بين التباين الذي يقدمه الفراغ المسطح حول المنحوتة وبين التفاصيل المكثفة التي يصنع منها أعماله، وهي في مجملها محاولة لإعادة استجلاب أشكال الانفعالات البشرية مع العالم في منحوتات نحاسية ورخامية متنوعة، تستهدف إعادة صب الوجوه والأجساد وهي تحاول أن تروي حادثة ما، هو ألم مفرط تتعرض له أو بهجة غامرة تستشعرها. تصنع من التفاصيل أجنحة أعود مرة أخرى إلى «فريدا كالو» التي أسرتني منذ مدة لدى قراءتي لكتاب مذكراتها الفنية.. ذلك الرسم الذي باشرته فور بتر إحدى ساقيها التي أصيبت بالغرغرينا، حيث ترسم ساقاً مع قدمها المدماة إلا أن عروقاً مخضرة تخرج منها.. لكأنها وعاء للأزهار بشكل ما، مدونةً أسفلها «قدمان»؟، ما حاجتي بهما، لدي الأجنحة، ولاورا تومبسون، الطرف الآخر من تلك الشراكة الفنية والإنسانية في ذلك المحترف، تعيد تذكيري بتلك العبارة، هي التي راحت تحاول اختزال ما تفاعلت معه في هذه العزلة الفنية البعيدة عن ما لا يمت به بصلة، لتصنع عيوناً أخرى محلقة، مبتكرة لغة بصرية خاصة بها، نرى فيها التنوع الهائل للجنس البشري، فهي ترسم فيما ترسم العالم من خلال كائناته، تحملها ملامحهم كأجنحة، لتستدرك ما قد لا تقدمه لها ألف رحلة ورحلة، قد تأخذها آلاف الكيلومترات حول العالم، إلا أن الفرشاة فيها قد لا تكون حاضرة، ورغم أنني بحكم تركيزي في ذلك اليوم وما تلاه على دروس النحت، لم أخض في حوارات طويلة مع لاورا حول هذه العزلة الاختيارية ولماذا فلورنسا تحديداً، كما وجهت سؤالي لفرانك، إلا أنني استطعت أن أستشعر نكهة فنها حاضرة بقوة حتى في بعض تفاصيل منحوتات فرانك، التي تناولت في بعض منها بورتريهات بشرية، تتفاعل مع المحيط العام بطريقة لاورا، التي ترتكز على واقعية العرض في ما يتناول الملامح الخارجية، مع مسحة خفيفة من الخيال الفني الخاص الذي يجعلك تشعر بأن لاورا تقدم من خلاله قصة خاصة لكل وجه أو جسد ترسمه، وهي غالباً تعود لذات ما يقدمه فرانك من حيث السطوع الذي يقدمه العالم الخارجي الذي تعاكسه لوحاتها غالباً بألوان عميقة وداكنة، كما في لوحة السيدة، التي تعطي ظهرها للمرآة بأسى، لكأنها تريد أن تهرب مما قد يستجلبه انعكاس ملامحها من ذكريات أو من صدمة، إذ يعكس هذا الجو النفسي تلك الخلفية السوداء الداكنة التي تشابه ما اختارته المرأة من ملابس داكنه ستسحبك عميقاً أيها المتلقي متى ما عرضت على ذلك الحائط الأبيض في أي معرض فني. إذاً، شغفك قد يكلفك العالم أحياناً، لكنك دائما يجب أن تنتصر له.. هذا ما يقوله ذلك المحترف بشكل ما، لأن انتصارك له، انتصارٌ لخلودك الخاص، الخالي من وهم الكمال، لأنه الضعف أمام الفن الخالص والرهافة، وهو في ذلك يؤكد أن ما سيحمي هذا الإنسان من الفناء المتربص به، هو عودته لإنسانه الهش الأول، ملتقطاً إياه ما استطاع إلى ذلك السبيل، بكل الأشكال الإبداعية الممكنة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©