الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اليابان وألمانيا: عِبرٌ للاقتصاد الأميركي

اليابان وألمانيا: عِبرٌ للاقتصاد الأميركي
30 يوليو 2010 22:29
في خضم الركود الاقتصادي القاسي الذي تعاني منه الولايات المتحدة والمصاعب العديدة المترتبة عليه من ارتفاع معدلات البطالة التي باتت تلامس العشرة في المئة، وتزايد الفوارق في الدخل وانتشار الفقر بين شرائح واسعة من المجتمع وافتقاد 47 مليون أميركي لتغطية صحية تقيهم من ذل المرض وغلاء العلاج، إلى تراجع آفاق المعاشات لأعداد كبيرة من الطبقة الوسطى الأميركية، وتصاعد الشعور بانعدام الطمأنينة إزاء الوضع الاقتصادي العام وعجز السوق العالمية باضطراباتها الكثيرة عن تقديم العلاج المناسب للخروج من المشكلات الاقتصادية، يتعين الانتباه إلى أي نموذج عالمي مضيء يبعث في النفوس القلقة بعض الأمل علنا نستفيد من تجربته ونستقي منه الدروس المفيدة. فكيف ننظر مثلاً إلى بلد لم تتجاوز فيه نسبة البطالة 5 في المئة، ويعرف أدنى مستوى للفوارق في الدخل وبين طبقات المجتمع فيما تستفيد جميع فئات الشعب من تغطية صحية تضمن العلاج للجميع، وهو مع كل تلك الاستحقاقات، التي يوفرها لمواطنيه حافظ على قدراته التصديرية باعتباره واحداً من أكبر مصدري العالم ومن أبرز مصنعيه؟ والأكثر من ذلك حقق هذا البلد إنجازات أساسية أخرى أصبحت مع مرور الوقت من الثوابت الراسخة في وعي الشعب وقادته مثل أرقامه العالية في متوسط الحياة، والمعدلات المنخفضة لوفيات الأطفال، بالإضافة إلى سجل طلبته المتفوق في مجالي الرياضيات والقراءة تعترف بها منظمات وباحثون مرموقون مثل البريطانيين "ريتشارد ويلكينسون" و"كايت بيكيت" اللذين أشارا في كتابهما المهم "مستوى الروح المعنوية" أن نسبة الجريمة والاعتقال في هذا البلد هي الأدنى على الصعيد العالمي، علاوة على أدائه الجيد في مجال احترام البيئة، حيث يعتبر مواطنوه الأقل استهلاكاً لثاني أكسيد الكربون، وباختصار لا شك أنكم أدركتم بأننا بصدد بلد يتفوق على أميركا في جميع المجالات ويسبقها بأشواط كبيرة. لذا نتساءل: ألا يبدو أننا إزاء بلد تحتاج الولايات المتحدة لدراسة تجربته والاستفادة من مساره علها تخرج من عثرتها وتنهض من كبوتها؟ هذا ما يفترض، لكن ليس إذا كان هذا البلد الذي عددنا مزاياه وأحصينا إنجازاته هي اليابان بسبب النظرة المسبقة والأحكام الجاهزة لدى فئات عريضة من الاقتصاديين الأميركيين للتجربة اليابانية، فحتى بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية الحالية، وبروز شروخ وتصدعات واضحة في صرح النموذج الرأسمالي الأميركي الذي صار فشله على لسان الجميع لم تتعرض التجربة الاقتصادية لبلد ما في العالم إلى التشهير والتبخيس مثلما تعرضت له التجربة اليابانية. وللتأكد من مدى استخفاف خبراء الاقتصاد الأميركي غير المبرر بالنموذج الياباني رغم ما يحفل به من نقاط مضيئة قد تشكل معالم طريق حقيقية للخروج من الأزمة الاقتصادية، ما علينا سوى البحث عن "اليابان والاقتصاد" في "جوجل" لنحصل على كل النعوت والأوصاف السلبية للاقتصاد الياباني بدءاً من انغلاقه وركود حركيته، وليس انتهاء ببطء قطاعه البنكي وتعثر نموها الاقتصادي، الذي لا يتحرك بالوتيرة المطلوبة. وفقط خلال الأسبوع الجاري نُشر مقال حول اليابان يتناول معضلة انخفاض الأسعار فيها واحتمال دخول أميركا في الدوامة نفسها، بل إن هذه المشكلة تحولت في نظر الصحيفة إلى مرض خطير قد ينتقل إلى الولايات المتحدة عندما عبرت عنها بـ"متلازمة اليابان"، وكأننا إزاء وباء معدي قد ينتهي بنا الأمر إلى الإصابة به إذا لم نتفاد النموذج الياباني المعتل. ولو بحثنا عن الخبراء الذين يروجون لهذه المقولة، ولا يكفون عن تحذير صناع السياسة الأميركيين من أخطار السقوط في الفخ الياباني، لوجدن أبرزهم على الإطلاق الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل "بول كورجمان". فعلى مدى التسعينات وإلى غاية اليوم لم يوفر "كروجمان" انتقاداً، أو هجوماً إلا وشنه على الاقتصاد الياباني وعلى قادتها السياسيين، بل إنه في أواخر عقد التسعينات كتب سلسلة من المقالات القاتمة اعتبر في إحداها أن "الدولة اليابانية... تعمل بأقل من قدرتها الحقيقة على الإنتاج فقط، لأن مستهلكيها ومستثمريها لا ينفقون بما فيه الكفاية". لكن وبعيداً عن الأحكام المسبقة على التجربة اليابانية التي تحركها النظريات الاقتصادية المنفصلة عن الواقع، والتي لا تعكس حقيقة الإنجازات التي بلغتها اليابان، ولا السبق الذي أحرزته على النموذج الأميركي لنلقِ نظرة على بعض الأرقام حتى يتبين مدى التباس المفاهيم عند المحذرين مما يسمونه "العقد الضائع" في اليابان، فكيف يكون عقد اليابان قد ضاع في تسعينات القرن الماضي ونسبة البطالة لم تتجاوز على مدار تلك السنوات 3 في المئة، وهي نصف معدل البطالة في الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها، كما أنه في المرحلة ذاتها التي يطلق عليها المنظرون الأميركيون العقد الضائع تمكنت اليابان من تعميم التغطية الصحية على جميع مواطنيها في وقت تعاني فيه فئات عريضة من الشعب الأميركي من غياب نظام صحي فعال يضمن العلاج لذوي الدخل المحدود، بل إنها أيضاً استطاعت التقليل من الفوارق والوصول إلى أعلى معدلات للحياة، فضلا عن تقليص نسبة وفيات الأطفال وتحجيم معدلات الجريمة والاعتقالات، وبالنظر إلى هذه المنجزات لا يمانع العديد من الأميركيين الدخول في عقدهم الضائع إذا كان سيأتي بنفس المكاسب التي أتى بها عقد اليابان الضائع. والحقيقة أن الهدف من فتح ملف اليابان ودراسة الانتقادات التي يوجهها لها المنظرون الأميركيون ليس هو عقد المقارنات بين التجربتين الأميركية واليابانية والوقوف عند جوانب الشبه والتباين، بل الهدف هو طرح سؤال محوري يتعلق بالغاية من الاقتصاد والأولويات التي يضعها باحثون أميركيون مثل بول كروجمان عندما يدرسون الاقتصاد، فكيف يحددون معايير الاقتصاد الناجح على سبيل المثال؟ وإلى أين يتعين توجيهه في النهاية؟ وهل يفترض بالاقتصاد أن يخدم المجتمع من خلال توفير الازدهار والأمن والخدمات الضرورية التي يتوق لها أفراده مثل الوظائف والتعليم والصحة، أم أن الهدف هو إثبات صحة النظريات والنماذج الاقتصادية التي يصوغها الخبراء؟ هذا الانغلاق ضمن الحدود الضيقة للنظريات الاقتصادية هو ما يظهر جلياً اليوم في النقاش الدائر حول الخروج من الأزمة الاقتصادية والذي يكاد ينحصر في ثنائية التحفيز المالي مقابل تقليص العجز، مع انحياز واضح إلى الأولى كما يتضح من الانتقادات التي وجهها كروجمان على سبيل المثال إلى ألمانيا لأن الألمان في نظره لا ينفقون أو يستهلكون بما فيه الكفاية لتنشيط الاقتصاد، وهي الانتقادات ذاتها التي توجه إلى اليابان. لكن وبالعودة إلى بداية التسعينات عندما كانت الولايات المتحدة تعاني من عجز كبير وركود حاد كان لافتاً أن إدارة كلينتون لم تتبنَ لإصلاح الوضع الوصفة التي يبشر بها حالياً كروجمان والقائمة على المزيد من الإنفاق، بل ركزت الإدارة على وقف العجز في الميزانية. وبحلول نهاية العقد حققت أميركا فائضاً مالياً مهماً كما شهد الاقتصاد فترة من الازدهار غير مسبوقة، إذ يبدو أن الواقع على الأرض يتحدى النظريات الاقتصادية ويتغلب عليها، وهو أيضاً ما أثبتته التجربتان الاقتصاديتان في ألمانيا واليابان اللتين لم يحتاجا إلى معدلات نمو كبيرة جداً كي يحققا الرفاه لشعوبهما باعتباره الهدف الأسمى لأي اقتصاد عكس ما يحاوله الخبراء على الجانب الأميركي بجريهم وراء النمو الاقتصادي الذي تجسده الأرقام بصرف النظر عن استفادة المواطنين مادام همهم الوحيد هو إثبات صحة نظرياتهم، ومع الأسف هناك جانب منطقي يفرض نفسه وسط العناوين الكثيرة التي تطالعنا في وسائل الإعلام يكشف لنا درسين أساسيين أولهما أن الفقاعات الاقتصادية لا تعمر طويلا، والثاني أن التداعيات البيئة للنمو غير المنضبط تكون وخيمة لنخلص في النهاية إلى إخفاق النموذج الاقتصادي الأميركي وتهافته. وبعبارة أخرى لم يعد الأمر يتعلق بالنمو الاقتصادي، بل بالاستدامة وتعلم إنجاز الكثير بالاعتماد على القليل، فعلى العالم اليوم أن يتعلم كيفية تسخير الاقتصاد لتوفير احتياجات الناس دون الاستناد إلى النمو القائم على الفقاعات، أو الاضطرار إلى العمل في ظل درجات حرارة شبيه بتلك الموجودة على سطح كوكب المشترى، وبالطبع لن يكون ذلك سهلاً لكنه الطريق الذي اختارته اليابان وألمانيا وعلينا نحن الأميركيين التعلم منهما والاستفادة من تجربتهما. ستيفين هيل خبير اقتصادي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم سي تي إنترناشونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©