الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معطّلات العَلمَنَة

معطّلات العَلمَنَة
9 أغسطس 2017 19:46
سؤال العلمانية، مثله مثل سؤال الديمقراطية، سيظل ماثلاً أمام الأذهان في العالم العربي، ومع هذا أو ذاك، سيظل التقدم والتطور والنهضة الجديدة، من التحديات التي استهدفها التعطيل فأخّر زمانها، وستبقى من المهمّات الواقعية، الحاضرة والمستقبلية، التي لا ينال منها الفوات الزمني ولو تأخّر أوانها. وحسناً يقال إن الأزمة عربية، ففي تعميم الوصف وتحليل واقع الحال، استبعاد لإمكانية النجاة الفردية. عند الإشارة إلى أزمة العلمانية في دنيا العرب، سيكون من الأدق القول إن «العروبة» مأزومة علمانياً، فالعلمانية لم تتحقق على أرض الواقع العربي ليكون متاحاً الوقوف أمام أزمتها، والتدبير العلماني لم يتجسد في «كينونة» قانونية أو سياسية أو فكرية، بصفته العلمانية «المحضة»، حتى يكون يسيراً معاينة مظاهر الوهن العلماني، ومتابعة مراحل عجزه أو شيخوخته. هذه الإشارة تنقل مسألة العلمانية المتعثرة في الديار العربية إلى عنوان واقعي آخر هو: ما هي المعوقات العامة التي حالت دون العرب وعلمانيتهم؟ وما هو السياق أو السياقات المتعرجة التي جعلت السير العلماني متعثراً أو متعذراً أو شديد العسر؟ وضمن أية بنية عربية عامة وخاصة، سالت تلك العملية المجتمعية المديدة، روافدها الفكرية والثقافية والمجتمعية والإيديولوجية والسياسية..؟ عائق البنية العودة المتكررة إلى الوقوف أمام مسائل البنية العربية، مهمّة لا يمكن الوصول إلى واحة الاقتراحات والحلول، من دون اجتياز مفازة تعقيداتها، فالبنية هذه، شكلت وما زالت ميدان الاختبار للتجارب ذات المشارب الفكرية المختلفة، وهي، أي البنية، تحتفظ لذاتها بتعريف الإطار، الذي لا صورة للذات العربية خارج حدوده، وبتعريف الحقل، الذي لا غرس ولا زرع ولا جنى، خارج معرفة خصب تربته، أو التأكد، بالملموس، أن لا بقاء لنماء وسط طبيعة هذا الحقل القاحل، في هذا السياق، ما زالت البنية العربية، في حاضرها وفي ماضيها غير الموغل في القدم، مرآة لانعكاس التراث التاريخي العام، الذي تشكل في أطر سلطوية مختلفة، والذي اتخذ لسيرورته منحنيات بيانية مجتمعية واجتماعية متباينة. التراث البنيوي هذا حضر بالتلازم مع الوضع السياسي العام، وكان له في كل حقبة تاريخية عربية سمات أنتجتها علاقة الداخل بالداخل، وعلاقة الداخل العربي بالخارج. حضور التراث المندغم بالسياسي اندغاماً تفاعلياً تبادلياً، كان طاغياً في فترات معينة، وفاعلاً ومتدخلاً ومعطِّلاً في فترات أخرى، ومحايداً وباهتاً في بعض الفترات العربية الانتقالية، من قبيل نهايات حقبة السيطرة العثمانية، وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب العالمية الثانية، فمراحل الاستقلال العربية المتفرقة، وما تلاها من أنظمة انقلابية أعلنت عن برامج لتغيير البنية العربية، ثم عادت البنية لتغيّر طموحات الانقلابيين، وتتابع مسيرة سيطرتها. في امتداد ذلك، بل كتتمة طبيعية لمعاندة سائد البنية العربية وموروثها، راوح الوضع العربي في تحلّقه حول مركزة ذاته وتنظيمها، وكان الأبرز في السلوك التنظيمي والانتظام الإقامة بين وضعين، الأول هو الذي اتخذ صفة ما دون الدولة، أي الشكل السلطوي الذي لم يتجاوز عتبة تعريف الدولة للولوج إلى رحاب مضمونها الحديث الذي صار إليه، أما الثاني فهو الذي وضع تشكيله الأيديولوجي والسلطوي ما فوق الدولة، فقفز شعارياً إلى القومية أو إلى الإسلامية أو إلى الاشتراكية الأممية، فالتقى بذلك مع ما يفترض أنه نقيضه، أي وضع ما قبل الدولة، وشاركه في منع استقامة الشأن الوطني الساعي إلى بلورة علاقاته وتنظيم اجتماعه وفق دستور معلوم، وعلى قواعد مجتمعية جديدة فيها العقد الاجتماعي والاختيار الفردي الحر، وفيها المساءلة والمحاسبة وفصل السلطات واستقلالها أي فيها ما تطلبه العلمانية، أو ما تهدف إليه هذه الأخيرة من تدابير عملية وقانونية تضمن حسن سير العملية المجتمعية، وتفتح قنوات انسيابها انسياباً سلساً واضحاً لا لبس في أحكامه. في الخلاصة، قصّرت البنية العربية عن بلوغ الفضاء العام ليكون إنجازاً نهائياً لا رجعة عنه، وبعد تقصيرها عمدت إلى إلغاء العمومية الوطنية الدامجة، وأنتجت حالات من الفئويات الإقصائية باسم الأقلية النخبوية أو المذهبية، وباسم الأكثرية القومية أو الدينية، وسيجت عمليتها المجتمعية المبتورة، بأنظمة استبدادية قاعدتها الفئوية والاستئثار والزبائنية السياسية، ووسائلها الأيديولوجيا التي فقدت محتواها الحيوي بالعجز وبالفشل وبالتقادم وبالخروج الحقيقي من دائرة التاريخ الفعلي، رغم استمرارها في زمنها الخاص المتخيل الحافل بالأوهام وبإعادة إنتاجها، وبتقديمها كمادة سياسية ودعائية يومية لمجموع الجمهور. مما تقدم، يبين بما لا يدع مجالاً للظن، أن البنية العربية شكلن بما هي عليه، عائقاً أساسياً أمام مسألة العلمانية، بما هي اقتراح لتطوير تعابير هذه البنية، وبما هي خروج لاحق على أحكامها وعلى تدابيرها المتوارثة. عائق التأسيس الثقافي في مواجهة البنية هذه، أو بشكل أدق، من رحمها وبين جنباتها، نشأت ونمت حالات ثقافية شاء أصحابها استيلاد ثقافة أخرى تأخذ لها مكاناً إلى جانب الثقافة البنيوية &ndash السلطوية السائدة، مثلما أرادوا وبدرجات متفاوتة إحلال ثقافة جديدة مكان الثقافة القديمة، أو إدخال تعديلات على جوانب من المعطى الثقافي المعروف في كل حقبة مجتمعية عربية، أو إصلاح وتجميل ما يمكن إصلاحه من قسمات الثقافة المسيطرة. لقد غلب على الحالات الثقافية تلك وجهتان، إحداهما نادت بالقطع مع التراث لأن القطع شرط لا بديل منه لدق باب الجديد الثقافي، والثانية قال دعاتها بابتكار مواءمة بين التراث بعد تأويله، وبين الجديد بعد توطينه وتنسيبه إلى بيئته، بصفته امتداداً تطويرياً لتراث البيئة، وتتمة منطقية مقبولة لخصوصيات الذات العربية، التي تشكلت من حاصل الدمج المتين بين فترتي الحضارة العربية، ما قبل ظهور الدين الإسلامي وما بعد ظهوره. لقد عرفت الثقافة العربية سجالات ومناظرات حول التراث العربي وقابليته للتطور أو العصرنة، أو امتناعه على العمليتين، مثلما اتخذت السجالات مناحي قصووية أحياناً، بحيث نُعت بعضها بالغربنة والاستلاب، ووُصف بعضها الآخر بالتوفيقية والميل إلى الماضي، عندما لم يصب أصحاب الملاءمة والمواءمة توفيقاً في إيصال نظراتهم إلى جديد راهن، مطعم بتجديد وإصلاح لجوانب أساسية من التراث العربي في المجالين الديني والدنيوي. الحصيلة في المجالين، لم تكن ذات فعالية في السيرورة المجتمعية العربية، وعلى وجه عام، لم تتحول الثقافة العربية الجديدة إلى مؤسسة «مفاهيمية»  قادرة على تثبيت مجال ثقافي عام، وعلى ترسيخ دلالات فكرية جديدة، وعلى إشاعة وتداول مصطلحات وتعريفات ثقافية غير مسبوقة، والأهم، أن مثقفي الثقافة هذه، اكتفوا بوضعيتهم النظرية الأكاديمية، أي ارتضوا مقام النخبة فاستراحوا فيه، هذا في حين أن الجديد الثقافي نجح حيث نجح، عندما كان عملياً وميدانياً، أي عندما جرى تسييله وتسهيله جماهيرياً في صيغة شعارات وبرامج وأهداف وقيم وسياسات وأخلاق... خارج هذه العملانية ما كان للثقافة أن تتبرج بكل زينة الحياة. عزلة المستوى الثقافي، أو انقطاعه عن «العامة»، جعله أكثر ضعفاً في مواجهة المؤسسة الثقافية السائدة الرسمية والشعبية، وابتعاد المستوى إياه عن الاقتراب من وضعية مستوى «الثقافة العضوية» حجز الإنتاج الثقافي العربي في زاوية الانفعال بالإنتاج الثقافي الغربي أكثر مما جعله واسع التفاعل معه، وعلى ذلك، سادت ثنائية ثقافية قوامها مع أو ضد، فكان لمن آزر ثقافة «مع» وضع الالتحاق بثقافة الخارج على وجه غالب، وكان لمن ثبت في موقع ثقافة «ضد» وضع النكوص نحو الهوية وتعريفاتها والانغلاق عليها، على وجه أعم. كحصيلة عامة، لم تراكم التجربة الثقافية العربية تأصيلاً ثقافياً، لذلك لم تتشكل عموماً ثقافة معروفة من ألفها إلى يائها، ومعرّفة بمفاهيمها ومصطلحاتها وشروحها وتفسيراتها وتعليلاتها وأسانيدها وابتكاراتها. هذا لا يعني نفي الاجتهادات النظرية لبعض المثقفين العرب، وهم قلة قليلة بالقياس إلى مجموع التحديات والمسائل الثقافية العربية، بل إن المقصود من كل ذلك هو أننا لا نقع حتى الآن على تأسيس ثقافي ناجز وواضح وضوحاً متيناً وثابتاً يتناول ثقافة الفرد وثقافة المواطن وثقافة المجموع، ويغيب عن البناء التأسيسي مفهوم الحرية والوطن والسياسة والأخلاق في السياسة وفي المجتمع، وبعد ذلك، لا أثر لنضال ثقافي من أجل الدفاع عن الثقافة كمعطى وكحيِّز اجتماعي عام مستقبل، ذي كيان معنوي وذي تجسيد مادي في الدستور المعمول به في كل بلد عربي على حدة، وفي القوانين التي تحميه وتتيح تفتحه وتطوره، كذلك فإن الثقافة لم تصل إلى الحد الذي تطرح فيه على الفضاء العربي العام «ميثاق شرف ثقافي»، يقتضي حماية المثقفين، ورعاية الإبداع الثقافي، وتطوير مفهوم قبول الآخر، والعودة إلى الحوار بديلاً من التكفير أو العقوبة المعنوية والجزائية التي تنتظر الكثيرين ممن يغردون خارج سرب الثقافة السائدة. في ختام حملتها انكفأت الثقافة الجديدة، فما كانت معيناً لنفاذ «العقلانية»، وموجباتها، وعليه، فقد ظلت العلمانية اقتراحاً معلقاً على شجرة الرغبة، فلم يتوفر للاقتراح من يعينه على النزول إلى أرض الواقع. العائق المعرفي إلى عائق البنية وعائق التأسيس الثقافي، يضاف العائق المعرفي. فقد بات من تحصيل الحاصل القول إن انتكاسة الثقافة في مجالات إنتاجها وإثبات حضورها المجتمعي، هي في الوقت ذاته انتكاسة معرفية، خاصة في مجال إنتاج المعارف، وفي مجال تعميمها وجعلها مادة في يد الجمهور وفي ذهنه. لقد حوصرت المعرفة الجدية والنقدية، وكان ذلك في الوقت عينه حصاراً للحرية، إذ كيف تستقيم مقومات الفرد الحر من دون معطى معرفة بما يُعرض عليه، وبما يتوالى أمام ناظريه. في غياب شرح العلم «بالشيء»، وفي حجب المعلومات اللازمة عن هذا الشيء عن الجمهور، تصاب القدرة على الاختيار، ويصاب معنى الحرية في هذا الاختيار، وتتقدم مسألة الأحادية، بحيث تصبح معادلة الثنائية هي معادلة المفاضلة بين السائد والسائد، وبين اللون السلطوي القاني واللون السلطوي الباهت، وتضيق إرادة الاختيار لتختزلها ثنائية «نعم أولاً»، التي تبرعت أنظمة عديدة في تسويقها كآية من أسمى آيات الممارسة الديمقراطية. لا يخفى أن المعرفة والوصول إلى المعلومة وإتاحة المقارنة في سوق المعروض السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، هذه الإمكانية في المقارنة والمقابلة شرط ديمقراطي، وشرط حرية لا غنى عنه في العملية الاجتماعية، تلك المتسمة بالعلمانية والعقلانية، أو تلك التي تحاول نهضة وتقدماً على طريق تحصيل هاتين المسألتين اللازمتين لكل عملية تطويرية أو إصلاحية. ما حصل عملياً في المجال المعرفي، إنتاجاً ونشراً وإيصالاً إلى الملأ، كان التصدي للجديد المعرفي، ومساندة القديم البائد في معركته ضد الوافد الجديد الذي يملك وعوده المجتمعية، والتمكين للسائد بأبعاده الماضوية، وبإجراءاته النظامية القمعية، وبقوانينه المحمية بقوة تحالف السلطتين الزمنية والتراثية. في ما تقدم عرضه، يتاح للمتابع قراءة تعثر المحاولات النهضوية العربية، مثلما يتاح له الوقوف على أسباب هذا التعثر في المجالات التي قرعت أبوابها هذه النهضة. لقد عرفت البلاد العربية نهضويين خاطبوا العقل العربي مخاطبة علمانية، تأثراً بالنهضة الغربية، أو تشبهاً بها، ولم يغب عن مسرح محاولات النهضة من نادى بالإصلاح الديني والإصلاح اللغوي والإصلاح السياسي... لكن المحاولات تلك ظلّت أصواتاً مفردة عندما بالغ أصحابها في الدعوة إلى الفصل والقطع، مثلما كان الأمر مع عدد من دعاة العلمنة الشاملة، وكان الخفوت والانسحاب من ميدان الفعل من نصيب أصوات أخرى حبست نبراتها في قمقم الرهبة من الخروج من ثوب التراث خروجاً متجاوزاً لا يقع في خطأ القطع، لكنها عاندت في «خطيئة» التمسك بالتوليف بين «العقل والنقل»، في كل الحالات وفي كل المجالات، الزمنية وغير الزمنية. على هذا الصعيد الإضافي، ترنح التطلع النهضوي وكبا، ومع كبوته رَسَفَ الوضع العربي في قيوده التي كبلته وأقفلته، على مسألة العلمانية وعلى سواها من المسائل. على سبيل إيجاز ما جرى التطرق إليه، من المفيد القول إن مسائل العصرنة والحضارة المعاصرة، لم يتح لها التمكين عربياً، فسَهل اقتلاعها عملياً من البنية السلطوية والمجتمعية، وهي وإن ظلّت نابضة في جوانب من المستوى الثقافي، فإنها ظلت غير مسموعة النبض إلا في ردهات السجالات النظرية. على هذه الواقعة، واقعة التخلف عن اللحاق بالركب الحضاري العام، أصاب التأخر الاقتصادي مجمل الأوضاع العربية، وكما هو معلوم بات الفقر معرّفاً بصفته واحداً من عوامل الحد من امتلاك الحرية الفردية، وليس من المبالغة القول إن التقديمات الاجتماعية شكل من أشكال الديمقراطية والحرية، ومثلها الوصول إلى الرفاهية والسعادة الفردية والمجتمعية، والفرق واضح وجليّ بين دوران الفرد والجماعة في دوامة تأمين الحاجات «الغريزية» الأولى، وبين الانطلاق في فضاء تحرير الذات من عبء تأمين مقومات استمرارها على قيد البقاء البيولوجي. لم تغب عن الأنظار مشاهد الانصراف إلى الكدح اليومي الذي يجعل كل الذهن منصرفاً إلى حساب عائده الغذائي أولاً. على هذه الأحادية في قدرة الإنسان على التصرف بذاته، أي على أحادية سلوك تحصيل المأكل والملبس، قامت مؤسسات سلطوية استغلت حلم الشبع الجماهيري، وأسست على التطلع إلى الانفكاك من قيد الفقر الثقيل، فحاربت باسم الخبز كل جديد علماني أو إصلاحي، وقاتلت بأفواه وسواعد المفقرين، كل نظرية سعت إلى إطلاق حرية العقل كمقدمة لا بديل منها لإطلاق التطور في كل المجالات، وسوّغت الانتظار الخلاصي لجموع المحكومين باسم الدين حيناً، وباسم القومية القادمة، أو الاشتراكية غير البعيدة، في كل الأحيان. الغرب أيضاً عائق   ما سلف من ذكر لبعض المعوقات التي أعاقت سبل العقلانية وتدابيرها الوضعية، من علمانية وسواها، هو الجانب الداخلي من المشهد العربي العام، لكن الصورة، ولكي تكتمل في السرد والعرض وذكر المعوقات، تقتضي الإشارة إلى ذكر العامل الخارجي الغربي الذي لعب دور إعاقة هو الآخر، فكان حاسماً في تدخله إلى جانب السائد من وعي ومن سياسة ومن تدابير مجتمعية واقتصادية، وكان فاعلاً في تصديه للمحاولات التي سعت إلى استقلالية داخلية في تدبير شؤونها، وفي التصرف بمقدراتها، وفق ما تمليه المصالح الوطنية، والعربية. لقد عرفت البلاد العربية الخارج الغربي كمستعمر، وعرفته كمتلاعب بمصالحها وبتاريخها، وتعرفت إليه ومقص الخرائط في يده، يقتطع من الجغرافيا العربية فيوزعها على الجوار، ويهب منها ما يشاء إلى وافدين ومطرودين ومنبوذين يسميهم شعباً، وينفي التسمية عن شعب موجود ليبرر وجود الشعب المفقود. خلاصة السياسة هذه، أن الغرب تخلى عن القيم والأخلاق التي دعا إليها، وخطابه عانى من انفصام بحيث صار خطابين، واحد يعمل به في دياره، وآخر مفصّل لديار الآخرين. ما النتيجة من ذلك؟ وضع الغرب عموماً في خانة الخصم والعدو، وهذا انسحب على ما نادى به الغرب من ثقافة بتأثير ما أقدم عليه من سياسة. لقد بات، والأمر ما هو عليه، سهلاً رمي الداعي إلى العلمنة مثلاً بتهمة العداء للهوية، مثلما صار هيِّناً اتهام الاقتصادي الجديد أو السياسي الجديد أو المثقف الجديد، بالتبعية. على ذلك، فإن الغرب وما يحمله من ثقافة، وضع نفسه، قبل أن يضعه الآخرون، في موقع مناوأة الجديد، وغضّ النظر عن بعض التحديث التجميلي، فكان من شأن هذه الوضعية الغربية المتفوقة أن تضع الذات العربية في موضع الدفاع عن هويتها، وفي معرض الدفاع عن الهوية لا تشكل العلمانية أو الحداثة الغربية، سلاحاً ماضياً، بل إن الموروث المجتمعي، والبنية ومكنوناتها، والشخصية العربية وسيرتها، تشكل مجتمعة السلاح الأمضى في معركة الدفاع الهويّاتي. باختصار، احتفظ الغرب بحضارته لبلاده، ولعب دوراً مانعاً أمام محاولات التقدم الحضارية العربية، وعليه، ظلت العقلانية والعلمانية والديمقراطية مواد خارجية مستوردة، وما كان مستورداً، بحسب المدافعين عن الداخل العربي، لا يلائم المصلحة العربية. مما تقدم نستبين أن مأزق العلمانية في العالم العربي هو مأزق سياق بنيوي تاريخي، ونقع على عوائق متفرعة من عائق البنية الأصلي. فالبنية المتينة الرسوخ في تاريخيتها، قاتلت على جبهة تجاوزها ثقافياً ونجحت في إفشال ما يخرجها من سدة السيادة الثقافية، والبنية ذاتها، قاومت في ميادين تغييرها نهضوياً وإصلاحياً وثورياً، فربحت معاركها، واستأنفت بعد كل معركة مسيرة إعادة إنتاج سلطاتها، في بزّة حاكم عسكري، أو تحت جلباب ثوري خاب بعد «خطوتين» من إنجاز ثورته. ولم تتأخر البنية إياها عن التبعية للخارج باسم الأصالة، ففازت في معركة التصدي لمن حاولوا علاقة ندية مع الخارج، بمساعدة هذا الأخير الذي ارتضى الأصالة حيث شاء، وجعلها نعوتاً سياسية خطيرة، عندما أراد، أي على شاكلة ما يفعل اليوم وصفاً للعرب، وتوصيفاً لثقافتهم. وفي غياب كل ما من شأنه أن يجعل السير إلى التدابير العصرية ممكناً، صارت العلمانية تهمة إلحاد، فالبنية وأهلها، ترفض الفصل بين أقنومي السلطة، السيف والنص، وترفض أن تعطي «ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، وتقاتل من أجل ألاّ ينعتق الفرد، ومن ثم الجماعة، من أسر التفسير الأحادي الذي يقرره صاحب السيف وصاحب السلطان. وسط كل ذلك، باتت العلمانية وصفة من فوق، بعد أن أحجم المثقفون عن خوض غمار الدعوة إليها في أوساط «تحت»، وصارت أيضاً نصاً جاهزاً منزوعاً من سياقه، يكفي أن تقدمه النخبة إلى أولي الأمر ليستقيم أمر الخاصة والعامة... والحال أن العلمانية وتيسير مسالكها أمران يقعان في أمكنة أخرى. بين عجز الداخل وارتباكه، وبين تخلي الخارج عن قيمه واستمرار هجماته، لا يستطيع العربي العادي إدارة الظهر إلى ضرورات تدبير شؤون حياته، تدبيراً يجعله شريكاً في العصر وليس على هامشه، مما يستلزم ابتكار الثقافة والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، ابتكاراً يقوده العلم، وتمكّن له المعرفة، وتكون العلمانية بمضمونها الإنساني والسياسي الحر، واحدة من وسائله العملية. خبز الفقراء.. خبز السياسيين على هذه الأحادية في قدرة الإنسان على التصرف بذاته، أي على أحادية سلوك تحصيل المأكل والملبس، قامت مؤسسات سلطوية استغلت حلم الشبع الجماهيري، وأسست على التطلع إلى الانفكاك من قيد الفقر الثقيل، فحاربت باسم الخبز كل جديد علماني أو إصلاحي، وقاتلت بأفواه وسواعد المفقَّرين، كل نظرية سعت إلى إطلاق حرية العقل كمقدمة لا بديل منها لإطلاق التطور في كل المجالات، وسوّغت الانتظار الخلاصي لجموع المحكومين باسم الدين حيناً، وباسم القومية القادمة، أو الاشتراكية غير البعيدة، في كل الأحيان. للدخول في العصر بين عجز الداخل وارتباكه، وتخلي الخارج عن قيمه واستمرار هجماته، لا يستطيع العربي العادي إدارة الظهر إلى ضرورات تدبير شؤون حياته، تدبيراً يجعله شريكاً في العصر وليس على هامشه، مما يستلزم ابتكار الثقافة والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، ابتكاراً يقوده العلم، وتمكّن له المعرفة، وتكون العلمانية بمضمونها الإنساني والسياسي الحر، واحدة من وسائله العملية. حصار المعرفة النقدية بات من تحصيل الحاصل القول إن انتكاسة الثقافة في مجالات إنتاجها وإثبات حضورها المجتمعي، هي في الوقت ذاته انتكاسة معرفية، خاصة في مجال إنتاج المعارف، وفي مجال تعميمها وجعلها مادة في يد الجمهور وفي ذهنه. لقد حوصرت المعرفة الجدية والنقدية، وكان ذلك في الوقت عينه حصاراً للحرية، إذ كيف تستقيم مقومات الفرد الحر من دون معطى معرفة بما يُعرض عليه، وبما يتوالى أمام ناظريه. في غياب شرح العلم «بالشيء»، وفي ظل حجب المعلومات اللازمة عن هذا الشيء عن الجمهور، تصاب القدرة على الاختيار، ويصاب معنى الحرية في هذا الاختيار، وتتقدم مسألة الأحادية، بحيث تصبح معادلة الثنائية هي معادلة المفاضلة بين السائد والسائد، وبين اللون السلطوي القاني واللون السلطوي الباهت، وتضيق إرادة الاختيار لتختزلها ثنائية «نعم أولاً»، التي تبرعت أنظمة عديدة في تسويقها كآية من أسمى آيات الممارسة الديمقراطية. بين القطيعة والمواءمة في مواجهة البنية هذه، أو بشكل أدق، من رحمها وبين جنباتها، نشأت ونمت حالات ثقافية شاء أصحابها استيلاء ثقافة أخرى تأخذ لها مكاناً إلى جانب الثقافة البنيوية &ndash السلطوية السائدة، مثلما أرادوا وبدرجات متفاوتة إحلال ثقافة جديدة مكان الثقافة القديمة، أو إدخال تعديلات على جوانب من المعطى الثقافي المعروف في كل حقبة مجتمعية عربية، أو إصلاح وتجميل ما يمكن إصلاحه من قسمات الثقافة المسيطرة. لقد غلب على الحالات الثقافية تلك وجهتان، إحداهما نادت بالقطع مع التراث لأن القطع شرط لا بديل منه لدق باب الجديد الثقافي، والثانية قال دعاتها بابتكار مواءمة بين التراث بعد تأويله، وبين الجديد بعد توطينه وتنسيبه إلى بيئته، بصفته امتداداً تطويرياً لتراث البيئة، وتتمة منطقية مقبولة لخصوصيات الذات العربية، التي تشكلت من حاصل الدمج المتين بين فترتي الحضارة العربية، ما قبل ظهور الدين الإسلامي وما بعد ظهوره. بضاعة مستوردة احتفظ الغرب بحضارته لبلاده، ولعب دوراً مانعاً أمام محاولات التقدم الحضارية العربية، وعليه، ظلت العقلانية والعلمانية والديمقراطية مواد خارجية مستوردة، وما كان مستورداً، بحسب المدافعين عن الداخل العربي، لا يلائم المصلحة العربية. استبداد وفئويات قصّرت البنية العربية عن بلوغ الفضاء العام ليكون إنجازاً نهائياً لا رجعة عنه، وبعد تقصيرها عمدت إلى إلغاء العمومية الوطنية الدامجة، وأنتجت حالات من الفئويات الإقصائية باسم الأقلية النخبوية أو المذهبية، وباسم الأكثرية القومية أو الدينية، وسيجت عمليتها المجتمعية المبتورة، بأنظمة استبدادية قاعدتها الفئوية والاستئثار والزبائنية السياسية، ووسائلها الأيديولوجيا التي فقدت محتواها الحيوي بالعجز وبالفشل وبالتقادم وبالخروج الحقيقي من دائرة التاريخ الفعلي، رغم استمرارها في زمنها الخاص المتخيل الحافل بالأوهام وبإعادة إنتاجها، وبتقديمها كمادة سياسية ودعائية يومية لمجموع الجمهور.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©