السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحواس أبواب المعرفة

الحواس أبواب المعرفة
10 مايو 2012
يظل البحث عن معادل نظري لعملية الإبداع الأدبي والفني شاغل النقاد والباحثين، ومنذ القديم ارتبط تفسير هذا الإبداع بالتنظير والمحاكاة، كقيمة مدركة تجلّي فاعلية الحس الإنساني، وقدرته النظرية على استلهام الظواهر البيئية والتعبير عنها بمختلف الأساليب، والإنسان كما يقول أرسطو: “يفترق عن سائر الأحياء بأنه أكثرها محاكاة وأنه يتعلم أول ما يتعلم بطريق المحاكاة، ثم ان الالتذاذ بالأشياء المحكية عام للجميع”. لأن الشعر ضرب من ضروب الإبداع، اتجه النقاد في أحكامهم إلى تنظير لغته بمحسوسات جمالية، فُتن الإنسان بها، كالصناعة والصياغة والنقش والنسج والتصوير... ولقد كان من شدة عناية النقاد العرب في تمييز لغة الشعر أن ناظروه ـ منذ وقت مبكر ـ بسائر أصناف الصناعات، وفي هذا يقول ابن سلاّم: “وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان”. ومن خلال هذا المنظور الحسي للشعر قرن ابن سلاّم صنعة الشاعر بصنعة البنّاء، قال “والشعر يحتاج إلى البناء”. ولمثل هذا: “وصفوا كلامهم في اشعارهم فجعلوها كبرود العَصْبِ والحلل والمعاطف والديباج والوشي وأشباه ذلك”. وقد حفلت كتب البلاغة والنقد ـ منذ البواكير الأولى للتدوين ـ بمقولات وصفية لماهية التعبير الأدبي وتمثيل تلك القيم من خلال مناظرتها بمحسوسات إدراكية توحي بتصورها وتشخيصها، (والحق أننا لا نكاد نعثر على ناقد لم يولع بعقد الصلة بين فن الشعر وفن التصوير أو النسج أو الصياغة). ولعل الجاحظ في مقولته الأثيرة في كتب النقد “فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير” قد نبّه النقاد الى أهمية التنظير الحسي في تقرير الأحكام النقدية وبلورتها في الأذهان، وعلى هذا فإن الكثير من الاعتبارات التي أخضعت القيم النقدية للتقرير الأصطلاحي ـ وأعني المجاز بكل صيغه النقلية تنم بوضوح عن جذورها الحسيّة، ذلك أن الصيغ التي تلون التعبير الشعري كالتشبيه والاستعارة والكناية وسواها من المحسنات البلاغية ـ هي المادة الأولية للناقد وهي في حقيقتها تعبير عن تفاعل الإنسان بين حسّه وإدراكه من خلال معاناته الحيوية التي تملي على الشاعر تلك الصيغ البلاغية وبقدر ما تسعفه لغته على استلهام خصائص الأشياء الحسيّة يناظر قيمها الوصفية، بألفاظ قادرة على احتواء انفعاله والإفصاح عنه. المصطلحات الحسيّة من هنا تتاح للناقد إمكانية تقويم لغة الشعر، بإسقاطها على مكامن الإدراك الحسيّة واستخلاص أصولها النظريّة، لتكون معايير مقنعة في مجال النقد التطبيقي. وفي هذا الصدد يقول ابن طباطبا العلوي: “والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي يرد عليه، ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله... إن كل حاسة من حواس البدن إنما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له، إذا كان وروده عليها ورودا لطيفا باعتدال لا جور فيه وبموافقة لا مضادة معها، فالعين تألف المرأى الحسن وتقذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب ويتأذى بالمنتن الخبيث والفم يلتذ بالمذاق الحلو ويمج البشع المر، والأذن تتشوق للصوت الخفيض وتتأذى بالجهير الهائل”. وهكذا تتمثل الحواس الكلام وتؤشر في النفس انعكاساتها فتطلق أحكامها الوصفية: “فإذا كان الكلام قد جمع العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة، مع السلاسة والنصاعة واشتمل على الرونق والطلاوة، وسلم من حيف التأليف، وبعُد عن سماجة التركيب وورد على الفهم الثاقب قبله ولم يرده..”. فالعذوبة والجزالة والسهولة والسلاسة أوصاف لظواهر حسيّة تعبر عن معان عامة وإرادة الناقد منها هو ضرب من ضروب التنافذ بين خصائص الأشياء، ويفسر الآمدي هذه الإرادة بقوله: “فأما قولهم فلان حلو الكلام وعذب المنطق أو كأن الفاظه فتات السكر، فهذا كلام الناس على هذه السياقة، وليس يريدون اللسان ولا عذوبة في الفم وإنما يريدون عذبا في النفوس حلوا في القلوب”. أي أن المناقلة في الصفات تشكل باعثا أصيلا وراسخا في تقرير الأحكام النقدية.. فعندما نقول كلاماً عذباً أو سلساً، نشغل الحس بمعان قارة في النفس هي عذوبة الماء وسلاسته.. وهكذا في قولنا كلام رصين وجزل كلها معان دالة على المتانة والتماسك.. تتقرر قيم الكلام الموصوف من خلال تصورها، وكل ذلك: “تشبيه وتمثيل يرجع الى امور واوصاف تتعلق بالمعاني دون الالفاظ، فمن حقك ان تعلم ان سبيل النظم ذلك السبيل”، على حدّ قول عبد القاهر الجرجاني. ويفسر المحدثون دوران هذه الاصطلاحات الوصفية وشيوع ظاهرة التنظير الحسي في النقد القديم.. بأنها أحكام ذوقية ومصطلح “الذوق” في النقد الأدبي اصطلاح مجازي.. وأصله من ذوق الطعوم والشراب.. فالمصطلح إذاً قيمة حسية والذي سوّغ إطلاقه في الحكام النقاد، أن الكلام أيضا ملكة لسانية وقد علل “ابن خلدون” ذلك من قبل بقوله: “إن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان ـ ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان ـ ولما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه.. كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق”. وذهب بعض المحدثين إلى تعليل القيم الذوقية بعد أن خالطت الأحكام النقدية والبلاغية فقال: “إن هذا التذوق هو أشبه بحالة من التقمص الوجداني، إي محاكاة باطنية للعمل الأدبي من خلال صاحبه”. وقد ألهم هذا التذوق الحسي النقاد رؤية بيانية نافذة لرسم أبعاد نظرية الكلام ابتداء بالحرف وانتهاء بالنظم. التنافر والتلاؤم ومن أوائل الذين عنوا بهذا الجانب من القدماء: الجاحظ، فرصد بالتنظير ظواهر الشعر الصوتية واصطلح لها التلاؤم والتنافر ودلل على ذلك ماساقه من شواهد يُتمثل بها إلى اليوم في كتب البلاغة والنقد... قال: “ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر، وإن كان مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض الاستكراه فمن ذلك قول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر ولعل من اظرف تنظيراته لاختلال السياق اللفظي في الشعر تمثله بقول الشاعر: وشعر كبعر الكبش فرق بينه لسان دعي في القريض دخيل واستخلص الجاحظ من جلالة التنظير في شاهده هذا قيمة معيارية لما يدل عليه من معان نقدية قال: “وأما قوله “كبعر الكبش” فإنما ذهب الى ان بعر الكبش يقع متفرقا غير مؤتلف ولا متجاور”. وكذلك حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر، تراها متفقة ملسا ولينة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة، ومتنافرة مستكرهة، تشق على اللسان وتكده، والأخرى تراها سهلة لينة، ورطبة مواتية، سلسة النظام خفيفة على اللسان حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد”. وألح الجاحظ على متابعة نقد السياق اللفظي للشعر بصيغ تنظيرية تجلي الظاهرة التي يريد معالجتها وابرزها، مستغلا تلك الصيغ للوصول الى المعيار النقدي لشواهده: فقد وجد الجاحظ ان عدم انسجام الألفاظ في السياق الذي نظمت فيه يفقدها التوافق والتلاؤم في الشعر، فيحس السامع وكأن بعضها يتبرأ من بعض والستشهد فلى ذلك بقول ابن يسير: لم يضرها والحمد لله، شيء وانثنت نحو عزف نفس ذهول قال: “فتفقد الأخير من هذا البيت، فإنك ستجد بعض الفاظه يتبرأ من بعض”. ونقل هذا التنافر بين الألفاظ الذي رصده في هذا البيت الى حالة منظورة مستشهدا بقول خلف الأحمر في هذا المعنى: وبعض قريض القوم اولاد علة يكد لسان الناطق المتحفظ قال الجاحظ معلقا على ذلك “فإنه يقول اذا كان الشعر مستكرها، وكانت الفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض، كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلّات، وإذا كانت الكلمة ليس موقعها الى جنب اختها مرضيا موافقا كان على اللسان عند انشاد ذلك الشعر مؤونة “وأولاد العلّات: الأخوة من أمهات مختلفة”. أجود الشعر ثم قال: “وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج فتعلم بذلك انه قد افرغ افراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان”. فانظر كيف نقل الجاحظ صيغ الوصف المحسوسة، الى قيم نقدية مدركة، فأشخص علّة التنافر الصوتي في السياق الشعري بمناظرتها بأولاد العلّات، وأشخص التلاؤم والانسجام بالدهان يجري على اللسان. وتعد هذه المعايير الصوتية التي استخلصها الجاحظ من الأصول المعتمدة في تأليف الكلام ونقده، وقد شغل هذا التناظر الحسي جانبا مهما في تقرير الأحكام النقدية والبلاغية فقالوا: إن وضع اللفظة موضعها في السياق يكسبها مزية الحسن، كما يكسبها اختلال موضعها سمة التنافر والثقل وحكم ذلك كما يقول ابن الأثير: “حكم اللآلئ المبددة فإنها تتخير وتتنقى قبل النظم، ومن ثم نظم كل كلمة مع ما يشاكلها لئلا يجيء الكلام نافرا من مواضعه، وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كل لؤلؤة منه بأختها المشاكلة لها”. وهذه الألفاظ التي تتسق في النظم كاتساق اللؤلؤ في العقد “نجد لها في السمع حسنا ومزية على غيرها”. وهذه المزية هي القيمة النقدية المدركة بحاسة السمع، فما يستلذه السمع يصعّد الخيال ويداعب الأذهان فيتراءى كالصور الجميلة المنظورة وصوّر هذا ابن رشيق بقوله: “الألفاظ في الاسماع كالصور في الأبصار”. وتأسيسا على مثل هذه المقولات النقدية المبكرة نقول: إن الناقد العربي نفذ الى مكامن الذات والإنسانية فعبر عن إدراكه الحسي من خلال ما يعتري الهواجس النفسية من قبول للحسن ونفور عن القبيح.. “والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي يرد عليه ـ ونفيه للقبيح منه واهتزازه لما يقبله.. إن كل حاسة من حواس البدن انما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له، اذا كان وروده عليها ورودا لطيفا باعتدال لا جور فيه، وبموافقة لا مضادة معها”. فالانفعال الذاتي بالظواهر الحسية، بالاعتدال مرة، وبالشدة والتضاد مرة اخرى، يشكل باعثا أصيلا في تكوين القيم النقدية، ومنذ القديم كان التأثر بمكونات السياق الشعري الصوتية والدلالية، منقذا للتنظير والتشخيص ومن ثم تقرير تلك القيم النقدية كأصول في النقد الادبي. الحداء والحادي وعلى هذا فقد وجد الباحثون في نشأة الشعر، أن الايقاع الصوتي كان باعثا لنشوء الايقاع العروضي، وسوغ لهم هذا الإحساس أن يربطوا بين ايقاع خطى الإبل وتناغم الألفاظ في (الحداء) فقالوا: “إن أول من أخذ في ترجيعة (الحداء) (مضر بن نزار) فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده فحملوه وهو يقول: وايداه... وايداه... وكان (مضر) هذا أحسن خلق الله صوتا فأصغت الابل إليه وجدَّت في السير فجعلت العرب مثالا لقوله يحدون به الإبل وكأن التوافق بين صوت الحادي وحركة الإبل؛ ولّد تناظر صوتية الألفاظ في سياق النظم الشعري، حتى كانت الاراجيز كما يقول ابن رشيق؛ ومن ثم قصّدوا القصائد الطوال... ومهما تكن درجة التسليم بهذا الرأي فإنه يتيح لنا منفذا للقول: بأن القدماء أرادوا بمقولتهم هذه ان يربطوا بين تناغم الصوت وتوالي التفعيلات في العروض الحرفي أي أن التصويت المنغم في الحداء يخلق استجابة حسية يقوم عليها تناسق الألفاظ في الشعر فقالوا: “مقود الشعر الغناء به” وقالوا في مناظرة الغناء بلغة الشعر “قائل الشعر الحوشي بمنزلة المغني الحاذق بالنغم، غير المطرب الصوت”. وقد ذهب بعض النقاد إلى مناظرة التوليد الصوتي في الألفاظ بالأنغام التي يطلقها عازف الناي بقوله: “شبه بعضهم الحلق والفم بالناي، فإن الصوت يخرج فيه مستطيلا أملس، ساذجا كما يجري الصوت في الألف غفلا بغير صنعه، فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة، وراوح بين أنامله اختلفت الأصوات، وسمع لكل حرف منها صوت لا يشبه صاحبه، كذلك إذا قطّع الصوت في الحلق والفم، باعتماده على جهات مختلفة من اللسان كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة”. النظرية الصوتية ويعد ابن جني من اوائل الباحثين الذين قرروا قيم النظرية الصوتية في نشأة اللغة، واعتمد في تقريراته قدرة الألفاظ الايحاء بمعانيها فقال: “وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات ألمسموعة كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي ونحو ذلك”. ودلل على ذلك بقوله: “فإن كثيرا من هذه اللغة وجدته مضاهيا بأجراس حروفه الأفعال التي عبر عنها، ألا تراهم قالوا “قضم” في اليابس و”خضم” في الرطب، وذلك لقوة القاف وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الاقوى للفعل الأقوى، والصوت الأضعف للفعل الأضعف”. ولعل الجاحظ كان أسبق الذين ذهبوا هذا المذهب حيث قال: “الصوت آلة اللفظ، والجوهر الذي يقوم به التقطيع وبه يوجد التأليف، ولن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا ولا منثورا إلا بظهور الصوت”.على أنه لم يقف عند قيمة الألفاظ الصوتية المحضة، وإنما شخص هذه القيم بما توحيه من معان حسيّة تؤثر في النفس وتثير كوامنها الإنسانية كما يثير الغيث كوامن التربة الخصبة لذلك قال: “وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه.. فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا وكان صحيح الطبع بعيدا عن الاستكراه، ومنزها عن الاختلال مصونا عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة”. وجماع أدوات التأثير في العبارة الأدبية لتصنع صنيع الغيث في التربة الكريمة يقتضي على حد قول ابن طباطبا: “إيفاء كل معنى حظه من العبارة، وإلباسه ما يشاكله من الألفاظ حتى يبرز في أحسن زي وابهى صورة” ويقتضي أيضا: “لزوم العدل وإيثار الحسن، واجتناب القبيح ووضع الأشياء مواضعها”. ويرى بعض الباحثين في مقولة ابن طباطبا في الاعتدال هذه مذهبا جماليا في النقد، وذلك ان العلّة الجمالية تعرف بأنها “الاعتدال” دون اي عامل آخر. فالقيم الجمالية ليست في لفظ الصوت المحض إنما هي تعامل مدرك بين الصوت وما يوحيه من معنى يبرز في أحسن زي وابهى صورة.. “فيلتذ الفهم بحسن معانيه كالتذاذ السمع بمونق لفظه” وعليه فسمة الاعتدال هذه هي “ديناميكية” الإيقاع الذي: “هو جنس للشعر موجود فيه، وهو حروف خارجة بالصوت متواطأ عليها”. وجنس الشعر هذا يحمل في طياته تفاعلا ذاتيا يرتبط بطبيعة “المتلقي” في تمثله للمعنى؛ فيصفه بالحلاوة والطلاوة والسهولة والسلاسة وحسن الرونق، كما يصفه بالكزازة والوعورة والتعقيد قال القاضي الجرجاني: “وانت تجد ذلك ظاهرا في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجاف الجلف منهم كز الألفاظ، معقد الكلام وعر الخطاب حتى أنك ربما وجدت ألفاظه في صورته ونغمه وفي جرسه ولهجته”. ولأن الالفاظ تحمل في سياقها التعبيري ذات الانفعال الإنساني الذي يعانيه الشاعر فإنها تتأثر بطبعه وتتميز بغرضه لذلك “ترى رقة الشعر أكثر ما تأتيك من قبل العاشق المتيم والغزل المتهالك فإن اتفقت الدماثة والصبابة وانضاف الطبع الى الغزل فقد جمعت لك الرقة من أطرافها”. وينعطف التنظير الحسي عند القاضي الجرجاني الى تشخيص يجمع فيه خيوط الظاهرة الحسيّة ويسقطها على قيم معلومة الوصف تشترك وتلك الظاهرة بماهية جمالية متميزة في المعرفة الإنسانية، فالحلاوة في الشعر هي نظير الحلاوة في الأشياء المذاقة ولكن التمييز بين ماهية الشعر وغيره من ألأشياء هي المعرفة النقدية التي تتعدى الذوق الفطري؛ يعرفها أهل العلم بها قال: “والشعر لا يحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجة، ولا يحلّى في الصدور بالجدال والمقايسة وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة ويقربه منها الرونق والحلاوة، وقد يكون الشيء متقنا محكما ولا يكون حلوا مقبولا، ويكون جيدا وثيقا وإن لم يكن لطيفا رشيقا، وقد يجد الصورة الحسنة، والخلقة التامة مقليّة ممقوتة، واخرى دونها مستحلاة مرموقة ولكل صناعة أهل يرجع إليهم في خصائصها ويستظهر بمعرفتهم عند اشتباه أحوالها”. التشبيه والمحاكاة وعلى هذا فإن التفاضل بين الشعراء لا يكون بتداولهم المعاني المشتركة أو (المعاني المطروحة في الطريق) وإنما تكون المفاضلة بحسب مراتبهم بصنعة الشعر والانفراد بلفظة تستعذب أو ترتيب يستحسن، أو تأكيد يوضع موضعه، أو زيادة اهتدى لها دون غيره، فيريك المشترك المبتذل في صورة المبتدع المخترع... ويدلل القاضي الجرجاني على هذا بقوله: “ولم تزل العامة والخاصة تشبه الورد بالخدود، والخدود بالورد نثرا ونظما وتقول فيه الشعراء فتكثر كقول علي بن الجهم”: عشية حياني بورد كأنه خدود اضيفت بعضهن إلى بعض وكقول ابن المعتز: بياض في جوانبه احمرار كما احمرت من الخجل الخدود ثم قال أبو سعيد المخزومي: والورد فيه كأنما أوراقه نزعت ورد مكانهن خدود فلم يزد على ذلك التشبيه المجرد، ولكنه كساه هذا اللفظ الرشيق، فصرت إذا قسته إلى غيره، وجدت المعنى واحدا، ثم احسست في نفسك هِزة، ووجدت طِربة تعلم لها أنه انفرد بفضيلة لم ينازع فيها. فالمعاني هنا مشتركة لا مفاضلة فيها، إنما المفاضلة في الصياغة أي في فنيّة الشاعر، وهو رأي يقول به المحدثون: “الفن يجمل الطبيعة”. وعّدوا التشبيه (جوهر الفن الشعري) وفسّروا مفهوم المحاكاة عند “أرسطو” بالتشبيه، ويرى عصام قصبجي في دراسته “نظرية المحاكاة” أن هذا المفهوم يقضي على طلاقة الخيال ويربطه بالحس، متناسيا أن الفلاسفة النقاد من العرب هم الذين طوروا مفهوم الشعر الأرسطي وربطوه بالخيال؛ وليس بعيدا عنه حازم القرطاجني قال: “إن الأشياء منها ما يدرك بالحس، ومنها ما ليس إدراكه بالحس، والذي يدركه الإنسان بالحس فهو الذي تتخيله نفسه، لأن التخييل تابع للحس، وأن مدركات الحواس هي مدار الأحوال المستطابة في الشعر”. وعليه قول أبي تمام: إن ريب الزمان يحسن أن يه دي الرزايا إلى ذوي الأحساب فلهذا يجف بعد اخضرار قبل روض الوهاد روض الروابي وواضح أنه ليس ثمة علاقة منطقية تحتم إسراع الرزايا إلى ذوي الأحساب؛ على نحو إسراع الجفاف لروض الروابي، ولكن اعتذر له عصام قصبجي قال “إنما هي صورة حسيّة تقرب إلى الذهن فكرة الشاعر بمقتضى مذهب التخييل الذي يصور الأفكار” ومن ذلك تصوير الربيع بقوله: رقت حواشي الدهر فهي تمرمر وغدا الثرى في حليه يتكسر غيثان: فالأنواء غيث ظاهر لك وجهه والصحو غيث مضمر واعجب لما توحيه هذه الصور التي تروع الخيال، وأي إيحاء يغمر النفس؟ إذ ترنو إلى حواشي الدهر، وحلي الثرى في إطار التموج الحي، فكأنها تبصر روح الربيع بتشخيص فني بديع سمّاه عصام قصبجي “التصوير الموسيقي” للربيع؛ الذي غدا ربيع الشعر. السمع والبصر ولأن الكلام المنظوم أصوات وهذه الأصوات المسموعة محلها محل النواظر في الأبصار حاول ابن سنان الخفاجي أن يجعل القيم الصوتية مدار نظريته في النقد. فالألفاظ عنده: أصوات تدرك بحاسة السمع في محلها وهي في منظوره الحسي (تجري من السمع مجرى الألوان من البصر). وان الألفاظ تتفاضل فيما بينها وإن تساوت في التأليف كما نجد لبعض النغم والألوان حسنا يتصور في النفس ويدرك بالسمع والبصر دون غيره مما هو من جنسه، ويمثل لذلك بالحروف (ع ذ ب) قال: “فإن السامع يجد لقولهم (العُذيب) اسم موضع و(عذيبة) اسم امرأة وعذب، وعذاب وعذبات، مالا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ في التأليف... ولو قدمت الذال أو الباء لم تجد الحس على الصيغة الأولى في تقديم العين على الذال، لضرب من التأليف في النغم يفسده التقديم والتأخير”... ودلل على ذلك بقوله: “وليس يُخفى على أحد ان تسمية الغصن غصنا احسن من تسميته عسلوجا، وان أغصان البان، أحسن من عساليج الشوحط في المسع”. فأبن سنان، يقرر هنا أن المفاضلة بين الألفاظ كائنة في توافق النغم الصوتي وفي بنائها اللغوي وتأليفها، وهذا النغم هو قيمة اللفظ الجوهرية التي يحسها السامع “يسبق العلم بقبحها أو حسنها من غير المعرفة بعلتها او بسببها، فكلمة “تأنف” في قول ابي القاسم الحسين بن علي المغربي”: “ورعوا هشيما تأنف روضه” لا خفاء بحسنها لموقعها الموقع السمعي الحسن في الاشتقاق وكذلك كلمة (تفاوح) في قول ابي الطيب المتنبي: اذا سارت الأحداج فوق نباته تفاوح مسك الغانيات ورنُده فهي في غاية الحسن، وقد قيل أن ابا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال. وعلى قيم التناظر الحسي اقام ابن الاثير نظريته في بيان الحسن والقبح في صيغ التعبير البيانية فقال: “ان ارباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار الفاظها، وسبروا وقسموا فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها واستعمالها دون غيرها ظهورها وبيانها” وحجة ابن الأثير في تقريره هذا: “أن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات فالذي يستلذه السمع منها، ويميل اليه هو الحسن والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح، ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل اليهما ويكره صوت الغراب وينفر عنه... والألفاظ جارية هذا المجرى؛ ولأن ابن الأثير قد ادرك تباين ماهية اللفظ والصوت في معيار الحسن والقبح، فقد رد على من يسوي بين قيم الالفاظ الجمالية في التركيب، وعلى من يرى: “أن كل الألفاظ حسن، والواضع لم يضع إلا حسنا... ومثل لذلك بألفاظ تترادف في المعنى وتتباين في تركيبها اللغوي، قال: “ومن يبلغ جهله ألا يفرق بين لفظة (الغصن) ولفظة (العسلوج) وبين لفظة (المدامة) ولفظة (الإسفنظ) وبين لفظة (السيف) و لفظة (الخنشليل) وبين لفظة (الأسد) ولفظة (الفدوكس) فلا ينبغي ان يخاطب بخطاب ولا يجاوب بجواب”. وتتوحد الروافد الحسية في تقويم ابن الأثير للألفاظ، فيتأمل تنظيراته بين المسموعات من الأنغام والمذوقات من الأطعمة.. قال: “ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار، وصوتا منكرا كصوت حمار، وأن لها في الفم أيضا حلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل، وهي على ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم”. ويرقى في تجاوبه الحسي مع الألفاظ حتى تشخص في رؤياه الذهنية وكأنها شخوص إنسانية تتحرك بمهابة ووقار وتنساب بلطافة ولين قال: “وبعد هذا فاعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر، فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دماثة ولين أخلاق، ولطافة مزاج، ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد؛ وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات، وقد تحلين بأصناف الحلي” للّه در ابن الأثير؛ لقد أدرك بحسه المرهف أن للقيم الصوتية في الألفاظ فاعلية إيحائية تعين المتلقي على تقريب الصورة من التصور، وإدراك المعنى وهذا ما تقره الدراسات الحديثة فقد ذهب “اولمان”إلى القول: “وقد تؤدي شدة التأثر بالباعث الصوتي على توليد الكلمات والأصوات إلى ما يكاد يكون اعتقادا غامضا في وجود مطابقة خفية بين الصوت والمعنى”. ولأن العلوم العقلية كما يقول الرازي “مستفادة من الحواس ومنتهية اليها ولذلك قيل من فقد حسا فقد فَقَدَ علما”. نخلص من هذا إلى أن النقاد العرب في سعيهم المبكر لوضع أصول نظرية نقدية بلاغية قد احتكموا إلى التنظير الحسي في تقرير تلك الأصول، باعتبار الحواس المنافذ المباشرة التي يتعامل بها الإنسان، ولقد قال القدماء، ولا يزال المحدثون يرددون القول: إن الحواس ابواب المعرفة. dr-maherm@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©