الثلاثاء 7 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأخلاق المهنية.. رؤية نقدية

الأخلاق المهنية.. رؤية نقدية
12 مايو 2011 20:18
يذهب أصحاب اتجاه المنفعة إلى أن مصدر الأخلاق ومعيارها في مجال المهنة وغيرها، إنما يعود إلى اللذة والمنفعة، فكل ما يجلب لصاحبه لذة ومنفعة، يعد في نظرهم خيراً، وما يحقق شقاء وألماً هو الشر الذي يجب تجنبه والاحتراز منه، ومن ثم تدور الفضيلة عندهم مع المنفعة وجوداً وعدماً. فالعامل الخير والممتهن الفاضل في نظرهم هو من يتحقق له المنفعة واللذة من وراء عمله فإذا انعدما فلا خير ولا فضل. وفى ضوء هذه النظرة عرف «بنتام» المنفعة بأنها «خاصية الشيء التي تجعله ينتج فائدة، أو لذة، أو خيراً، أو سعادة، أو خاصية الشيء التي تجعله يحمى السعادة من الشقاء أو الألم أو الشر أو البؤس بالنسبة إلى الشخص الذي تتعلق به المنفعة». وانطلاقاً من هذا التعريف يمكن أن نلخص تعريف المنفعة بأنها «كل لذة أو كل سبب في إيجاد لذة» أو هي «تحصيل اللذة والخلو من الألم». هذا من حيث المفهوم، أما من حيث الجذور التأصيلية لفكرة المنفعة، فإننا نجدها ترجع إلى الفيلسوف اليوناني «أبيقور» 341-270 ق.م ، ولم تتعرض نظرية المنفعة لتغيير أساسي منذ «أبيقور» حتى عصر النهضة الأوروبي، أما في القرن السابع عشر فإننا نجد اهتماماً بها عند «توماس هوبز» الذي ذهب إلى أن «الإنسان ذئب بالنسبة لأخيه الإنسان، وستبقى طبيعته هذه ولن يغيرها ما يتلقاه الإنسان من تربية وتمدن، وآية ذلك أن المرء لا يطلب إلا لذاته ولو على أنقاض سعادة غيره، بل إنه ليجد لذة في أن يشقى غيره ويسعد هو حتى يزعم لنفسه أنه أشد قوة وأعرف بطريق الخير والنجاح. ولكن كره الإنسان لغيره قد يتبدل بالحب إذا أمكن أن يؤدى هذا الغير خدمة ومنفعة له، وإن كان من الواضح أنه حتى في هذه الحالة لا نحب هذا الذي أخذنا منه، بل نحب خيرنا الذي جاء عن سبيله»، وبهذا عبر هوبر «عن المنفعة الفردية التي تعلى من شأن الأنا وتتلاشى بجوانبها الغيرية، ثم كانت بعد ذلك الصورة الحديثة والإضافات الحقيقية لمبدأ المنفعة على يد «جيرمى بنتام -1748/ 1832 م- وجيمس مل 1773/ 1836 وابنه جون استيوارت مل 1806 /1873م، والذي انبثق المذهب الأخلاقي لديهم في مجال المهنة وغيرها من طبيعة التاجر الذي يحسب ويقدر خير الوسائل للاستثمار والكسب، وقد ارتبط هذا المذهب بنمو الثروة في انجلترا في النصف الأول من القرن لتاسع عشر، وقد تأثر بنتام بهوبز في قوله «إن الإنسان بطبعه أناني» ومن ثم كان مبدأ السلوك عنده هو أن «الإنسان يسعى إلى تحصيل أكبر قدر من المنفعة، فإذا قلنا إن السعادة هي جماع اللذات، فإن مبدأ السلوك هو أن الإنسان يسعى إلى أكبر قدر من سعادته، ومن ثم، فالإنسان يسعى إلى تحصيل أكبر قدر من المنفعة لنفسه»، وعلم الأخلاق بمختلف فروعه وتناولاته يقوم في حساب اللذات التي تعد المنفعة وسيلة إلى تحقيقها، ويرى بنتام أن اللذة تفضل بحسب عدد الأشخاص الذين يشاركون فيها، ومع ذلك، فإنه يشترط في تحقق هذه الفضيلة ألا تنطوي على تضحية من جانب الشخص للآخرين، وبالروح التجارية التي تسرى في مذهب المنفعة راح بنتام يحدد قيمة اللذات بسعرها النقدي، فيقول «إذا كانت النقود هي الأداة الجالبة للذة، فمن الواضح بالتجربة القاطعة أن كمية اللذة الفعلية تتبع في كل حالة معينة- وفقاً لهذه العلاقة أو تلك- كمية النقود والمقياس المشترك الوحيد الذي تقبله طبيعة الأشياء هو النقود «ويمعن «بنتام» في تقرير النفعية كمبدأ أخلاقي يحكم المهن المختلفة وسائر التعاملات الإنسانية فيقول «لا تتصور أن الناس سيكلفون أنفسهم مشقة تحريك ضميرهم في سبيل خدمتك، إن لم تكن لديهم مصلحة في ذلك، فهذا أمر لم يحدث أبداً، ولن يحدث أبداً، طالما بقيت الطبيعة الإنسانية كما هي. لكن الناس سيرغبون في خدمتك إن وجدوا في ذلك مصلحة لهم، والفرص كثيرة التىي فيها ينفعونك وينفعون أنفسهم في الوقت نفسه، وفى هذه الخدمات المتبادلة تقوم الفضيلة «ويرى بنتام كذلك أن أفعال الخير التي يؤديها الإنسان هي بمثابة صندوق توفير نضع فيه مبالغ من المال نعلم مقدماً أن فوائدها سيدفعها سائد الناس على شكل خدمات من كل نوع. من هذا المنطلق تسللت المنفعة إلى شتى مجالات المعرفة البشرية، فبدت في مجال اللاهوت عند من جعلوا الله ممثل النفعية في أكمل صورها، كما يرى «وليم باليه» 1805م، وتسللت النفعية إلى مجال الاقتصاد وبدت عند أمثال «آدم سميث». وغزت ميدان التشريع على يد pentley» ومن خاض هذا الميدان من تلامذة «بنتام». واتصلت بالفلسفة العملية الغربية عند «جون ديوى» 1952م، و «بيرى» 1876م، ومن إليهما، ثم كانت نفعية الأخلاقيين الذين دانوا بنظرية التطور كما تبدو عند «ستيفن، هربرت سبنسر، نيتشه،.. وغيرهم. بيد أن هذه الأطروحات والتصورات لا تسلم لأصحابها لعدد من المبررات منها: - يشترط في المعيار الأخلاقي أن يكون عاماً لا يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، ومذهب المنفعة على النقيض من ذلك تماماً، ومن ثم فلا يصلح أن يكون مصدراً للأخلاق عامة والمهنة خاصة ولا مقياساً لها. - أن المنفعة في أكثر الأحيان تقوم على أسس خاطئة مخالفة للدين والأخلاق ومن ثم لا يستقيم الأخذ بها كمعيار خلقي. - أن كثيراً من المجتمعات قد عانت من حالات انهيار أخلاقي فلم تفلح المنفعة معها، بل على النقيض من ذلك، فإن أخلاق اللذة والمنفعة، هي التي تقود الشعوب والأمم إلى الانحدار إلى وهدة الانهيار الأخلاقي. - أنه بالتأمل في مذهب المنفعة الفردية يتبين لنا أنه مذهب يصدم الحس الأخلاقي لدى الإنسان، فاعتبار دافع حب الذات أو حب البقاء بمبدأ أخلاقي أمر لا يتفق وواقع وعينا الأخلاقي ولا يمكن إرجاع كل أفعالنا الخلقية إلى هذا الدافع أو ذاك، كما لا يتفق هذا المذهب وسمو الإنسانية كما يقرر كثير من العلماء والدارسين. - أن هذا المذهب قد فشل في البيئة التي نبت فيها ولم يجد في انجلترا من يناصره، بل على النقيض من ذلك، ظهرت هناك اتجاهات تعارضه أشد المعارضة، وتقف في سبيل انتشاره، كالاتجاه المثالي الذي عبر من ألمانيا إلى بلاد الإنجليز، واحتل تفكير رهط من كبار المفكرين هناك يتقدمهم «توماس هلجرين، وإدوارد كيرد، وفرنسيس برادلى، وبرناربوذانكيت، وغيرهم. - أن الحياة الأخلاقية تقوم على مجاهدة النفس والسعي لضبط الأهواء والميول. ولا تقوم إطلاقاً على إشباع الشهوات، والتمتع باللذات، وفلسفة اللذة والمنفعة تقوم على النقيض من ذلك تماماً. إذ من شأنها أن تجعل الحياة الأخلاقية هينة لينة، في ظلها يفقد صاحبها القدرة على مقاومة نزواته، وتستبعد فكرة الإلزام أو التكليف من حياته. - من الخطأ الفادح أن توضع اللذة التي سبيلها المنفعة، غاية قصوى للأفعال الإنسانية. لأن هذا أنسب إلى حياة الحيوان منه إلى حياة الإنسان الذي لا تستقيم إنسانيته بغير مثال أعلى يدين به ويميزه عن سائر الكائنات. - في مذهب المنفعة اضطرابا أدى إلى خلط أصحابه بين مدلول اللذة، ومدلول كل من المنفعة والسعادة، فتجاهلوا بهذا ما تشهد به التجربة من أن ثمة لذات تجلب الضرر على أصحابها، وثمة آلام بعقبها النفع على من نزلت بهم. - يخطئ دعاة النفعية في اقتصارهم على إقامة الحكم الخلقي على نتائج الأفعال وحدها. إذ أنهم بذلك تجاهلوا المقاصد والنوايا، مع ما لها من أهمية جوهرية في الفعل الخلقي. - إن المتأمل لأخلاق المنفعة واللذة، يجد أن الأنانية سمة لها، والأخلاق النفعية أخلاق تحفها الأنانية في أساسها وتوجهاتها، وفى نظرتها إلى الإنسان، حتى في محاولات «بنتام» إضفاء بعدٍ أخلاقي جماعي عليها، فإنه في محاولاته لم يتجاوز الأنانية تجاوزاً حقيقياً، لأنه اشترط في المنفعة والسعادة الجماعية ألا تنطوي على التضحية من جانب الفرد. - تهمل أخلاق المنفعة المثل العليا والروح الدينية الراقية، فهي لا تأخذ في اعتبارها روح الدين، بل تتغافل عن دوره في الرقى الخلقي، وتنمية روح التضحية والاستشهاد. - أن النظرة النفعية في الحياة تتجاهل الجانب غير المادي في الإنسان، ولا تعطيه قدره الذي ينبغي له، وهو جانب من الأهمية بمكان في حياة الفرد ونظام الجماعة. - أن القول بالمنفعة كمصدر للأعمال ومعيار لها، يفسح المجال أمام الأثرة والأنانية والظلم وانتهاز الفرص، ويقضى على أخلاقيات هامة لا تتماسك قوام الأمم إلا بها مثل الإيثار، والكرم، والتعاطف، وغير ذلك من الأخلاقيات الخالية من المنافع المادية. - نجد واقع الحياة يكذب هذا المذهب، إذ ما زلنا نقرأ في صحف الأبطال وقادة الأمم كيف سمت بهم هممهم إلى إطراح لذاتهم وما هم فيه من رفاهية العيش وهناءة البال، لا سعياً وراء لذة أو مسرة، بل لينقذوا غيرهم من بنى جلدتهم، غير مكترثين بما يصيبهم في أنفسهم من أذى وإهانة. وكأنهم يفرحون بما يدهمهم في سبيل ذلك من نوازل الأحداث، وخطوب الزمن لا تهدمهم العظائم، ولا تفزعهم الشدائد. - يرد على مذهب المنفعة أنه في اتخاذها معياراً للأفعال الخلقية، تفضى إلى اللبس بين الحق والباطل، فطالما جر الباطل إلى لذة وحبور وجاء في سبيل الحق ما لا يوصف من الهموم والشرور. ومع ذلك فالحق أحق أن يتبع وما خير بخير بعده النار، وما شر بشر بعده الجنة من أجل هذا وغيره نعى القرآن الكريم على أصحاب هذا المذهب فنجد قول الحق سبحانه وتعالى:(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ، وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ، بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ). النور 48-52 . وقوله تعالى: (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) النساء 72-73. كذلك نعى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المذهب بقوله «خير الناس أنفعهم للناس» وبقوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن منفعة إن ماشيته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن شاركته نفعك، وكل شيء من أمره منفعة» من هذا كله يتبين لنا أن المنفعة بأي معنى من معانيها لا يعول عليها في بناء الأخلاق وقياسها، فالفعل الخلقي لا يكون خيراً باستمتاع صاحبه منه ولذته به، وإنما يكون متعة لأنه خير في ذاته. وما لذات الصابر على البلاء والنادم على الذنب إلا مثل حضه على بطلان المتعة العارضة. وقد وقف الإسلام من فكرة المنفعة موقف الموجه لا الرافض الممانع على طول الخط ومن ثم يقبل بأحكامها ما دامت مشروعة، ومنضبطه، في إطار الإسلام. موقنا أن الإنسان دائما ما يحرص على منفعة نفسه، بيد أنه لا ينبغي أن لا تطغى هذه المنفعة على حقوق الآخرين، أو يسلك صاحبها طريقا غير مشروع لتحصيلها. د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©