الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

الإمارات والفاتيكان .. سردية التصالح مع الذات والآخر

الإمارات والفاتيكان .. سردية التصالح مع الذات والآخر
16 سبتمبر 2016 01:13
الاتحاد (خاص) ذات مرة من القرن المنصرم تحدث الكاتب والمؤرخ الأميركي الشهير «وول ديورانت» والمعروف برائعته «قصة الحضارة»، فوصف الكنيسة الكاثوليكية «الفاتيكان» بأنها أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ، إذ لا تزال نابضة وفاعلة عبر ألفي عام، في هيراركية لا تخطئها العين، وقد اعتبرها البعض الآخر إمبراطورية بدون حدود أو مستعمرات، إذ يكفي النظر إلى أتباعها في ست قارات الأرض، والذين يربو عددهم على مليار وثلاثمائة مليون نسمة، يخضعون للبابا «الحبر الروماني»، خضوعا روحيا وأخلاقيا، وعليه فإن الدور العالمي الذي تلعبه حاضرة الفاتيكان حول الكرة الأرضية، لا يقارن بمساحتها الجغرافية كأصغر دولة في العالم. لماذا يعنى لنا في هذا التوقيت إعادة قراءة المشهد الفاتيكاني؟ إن الزيارة رفيعة المستوى التي يقوم بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والوفد المرافق لسموه لتلك المؤسسة الروحية هو الدافع، ذلك أنها في الواقع زيارة تاريخية تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الإماراتية الفاتيكانية. وقت حاسم تأتي الزيارة في وقت حاسم وحساس حول العالم كافة وفي أوروبا خاصة تجاه العالم العربي والإسلامي بنوع خاص، فقد تركت الأحداث الإرهابية التي عرفتها أوروبا العامين الماضيين، انطباعا شديد الوقع والسلبية يكاد أن ينسحب على عموم المسلمين حول العالم، ويصيب مسلمي أوروبا بنوع خاص، وقد كان من نتائج العنف المرفوض إسلاميا تصاعد موجة الإسلاموفوبيا، وزخم التيارات اليمينية الأوروبية، التي ترفع شعارات مثل «لا لأسلمة أوروبا». والمؤكد أن زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، إنما تأتي في وقت يصفه علماء النفس بانه «الوقت القيم»، أي الوقت الذي تنجز فيه المهام الجسام، قبل أن يستفحل الضرر. منظومة التسامح لماذا الإمارات و«شيوخ التسامح» الإماراتيون هم المعقود برقابهم هذه المهمة، مهمة إعادة الأمور إلى نصابها الحقيقي والكشف عن وجه الإسلام السمح القابل للآجر والمتعايش معه وغير الرافض له؟ السؤال المتقدم غير بعيد عن الذين يتساءلون عن سر نهضة الإمارات، ويفوتهم أمر بالغ الأهمية وهو أن التسامح كما كان مفتاح أوروبا للدخول في عصور التنوير والخلاص من ظلامية الأصولية الدينية، فإن التسامح عينه هو الذي ميز الإمارات شعبا وحكومة، وجعل قفزاتها الحضارية واسعة، فقد آمن زايد الخير -رحمه الله- بكل ما قال به الفيلسوف الإنجليزي التنويري «جون لوك» في رسالته عن التسامح، تلك التي دعا فيها إلى القضاء على بنية التفكير الأحادي المطلق وروح التعصب الديني المغلق وإقامة الدين على العقل وبناء منظومة حقوق تؤسس لمفهوم التسامح. أن لقاء اليوم بين بابا الفاتيكان فرنسيس الأول وبين صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، يمكن أن يطلق عليه لقاء السحاب بين رموز التسامح حول العالم، ففاتيكان اليوم دعوة مستمرة ومستقرة للتسامح والسلام بين شعوب العالم، ويجيء اللقاء من حسن الطالع على مقربة بضعة أيام من احتفال كبير يترأسه بابا الفاتيكان في مينة اسيزي رمز السلام العالمي، وموطن وموطئ قدمي رمز التصوف والسلام المسيحي العالمي «فرانسيس الاسيزي»، وذلك في الذكرى الثلاثين للقاء الذي دعا إليه سعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني في أكتوبر تشرين الأول من عام 1986، وشارك فيه رموز الأديان من العالم كله، ووقتها كانت الحرب الباردة على اشدها، والصراع بين حلفي وارسو والأطلسي قائم على قدم وساق، في انتظار شرارة الانفجار، وتهديد السلم العالمي. حالة التصالح بالإمارات والثابت أن للفاتيكان آراء واضحة وقاطعة في حالة التسامح والتصالح التي تعيشها دولة الإمارات، فقبل بضعة أعوام التقى البابا الشرفي «السابق» للكنيسة الكاثوليكية «بندكتوس السادس عشر» مع أول سفيرة لدولة الإمارات العربية الشيخة الدكتورة «حصة العتيبة»، وساعتها أشار إلى أن المغتربين من آلاف الأجانب تم الترحيب بهم، وبذلت الإمارات جهدها لتعزيز الظروف الملائمة لتعايش سلمي وتقدم اجتماعي لهم وبهم ومعهم، وهو أمر جدير بالثناء» على حد تعبير الحبر الأعظم والذي أشار برضا الى تبرع الدولة بالأراضي التي أقيمت عليها الكنائس الكاثوليكية هناك في الوقت الذي تعاني فيه جاليات مسيحية عديدة في العالم العربي من التضييق عليها، وعدم السماح لهم بممارسة شعائرهم الدينية والإيمانية. تقدير لحرية العبادة بالدولة وفي كلمته كذلك أكد البابا السابق على أن حرية العبادة التي عرفتها الإمارات أسهمت بشكل فاعل ولافت في خدمة المصلحة العامة وولدت التآلف الاجتماعي السائد في الدولة، ولم يفت البابا أن يشير إلى الاحترام والمكانة المتقدمة التي يقدرها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، حفظه الله، للأديان فخلال احتفال مشترك مع سفراء آخرين في 15 أبريل 2008 قال سموه إن الممثل البابوي «يقوم برسالة استثنائية ترمي بخاصة الى الحفاظ على الإيمان بالله وتعزيز الحوار بين الثقافات والأديان». يمضي اليوم ولي عهد أبوظبي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ليؤسس لمرحلة جديدة ومتقدمة من العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة وبين حاضرة الفاتيكان، مرحلة تقوم على تنمية القواسم المشتركة بين الجانبين وفي المقدمة منها احترام الإنسان، وتعزيز قيم الحوار والجوار، وفتح دروب الوفاق وسد مسالك الافتراق... مرحلة من بناء الجسور لا إقامة الجدران، يضيء نورها للجالسين في ظلام الأصوليات، والمتمركزين حول الذات العتيقة في عبادة للتراثمن دون روحه، أو المغرقين في جفاف العلمانيات من دون حقيقتها. العودة الى بطون التاريخ تنبئنا بان التسامح في الإمارات «عادة تكاد أن تكون عبادة»، منذ أزمنة بعيدة وقبل مولد دولة الإمارات في ثوبها القشيب الحديث، ما يعني ان جينات التسامح في النفس الإماراتية أصيلة وليست مستحدثة. يمضي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان اليوم ليلتقي «أسقف روما» وفي خلفية بلده رجل من أصحاب القامات السامقات التي ترتفع في أعلى عليين لتطال السحاب، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان - طيب الله ثراه- باني الدولة الحديثة والذي عرف عنه بأنه صاحب قرار شجاع ورجل عطاء وسماحة وحب ومواقف شجاعة على مستوى الوطن والعالم، وقد استمد رحمه الله تلك الصفات النبيلة من جذوره الإنسانية التاريخية، فهذا ما اتسم به أهل الإمارات فقالوا عن طباعهم إنهم أقوياء عند الشدائد متسامحون يحبون الضيف ويكرمونه ويغيثون الملهوف ويساعدونه متمسكون بدينهم غير منكرين على الآخر حق العبادة على ما يدين «. إشادة بالتسامح الديني ومما لا شك فيه أن هذه الأجواء لم تكن لتغيب عن أعين المنظمات الدولية التي ترصد حالة وحركة الحريات الدينية حول العالم، ففي عام 2008 أشاد التقرير الخاص بالحريات الدينية والصادر عن وزارة الخارجية الأميركية بسياسة التسامح الديني بدولة الإمارات تجاه مختلف المجموعات الدينية غير المسلمة. منذ الساعات الأولى لحبريته السعيدة أعرب البابا فرنسيس عن رغبته في تكثيف الحوار مع المسلمين، وبناء جسور معهم متعهداً بدعم العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية وباقي الأديان الأخرى لاسيما الإسلام. وعنده «أنه من المهم تكثيف الوصول إلى معتنقي الأديان الأخرى لكي لا تسود الخلافات التي تضرنا، وتسود الرغبة في بناء علاقات حقيقية من الصداقة بين جميع الشعوب مع تباينهم، ليس هذا فحسب بل أضاف الحبر الروماني الأعظم أنه «من غير الممكن إقامة علاقات حقيقية مع الله تعالى في ظل تجاهل الآخرين، ومن ثمة هناك ضرورة ملحة لـ«تكثيف الحوار بين مختلف الأديان، وبالأخص إجراء حوار مع الإسلام». تأثير الفاتيكان على العالم زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد تطرح تساؤلا مهما وإن كان براجماتياً في طبعه وطابعه...» هل الفاتيكان كيان مؤثر سياسياً حول العالم، ويمكن أن يفيد دولة الإمارات العربية المتحدة، توثيق العلاقات معه؟ الشاهد أن السؤال يلقى بصدى تاريخي لعلامة استفهام أطلقها الزعيم السوفييتي الشهير «جوزيف ستالين» عام 1945 عندما عبر بابا الفاتيكان وقتها «بيوس الثاني عشر» عن رغبته في حضور قمة «يالطا» التاريخية الشهيرة، التي شهدت تقسيم العالم بين المنتصرين في الحرب الكونية الثانية.. لم يكن من اهتمامات البابا وقتها الحصول على جزء من مغانم الحرب، وإنما جل همه كان متجهاً إلى تأسيس عالم جديد يتجنب أهوال الحرب العالمية الثانية. غير أن رد ستالين وعته كتب التاريخ ومحابر المؤرخين إذ صاح بصوت عال... كم من فرقة عسكرية يمتلك البابا؟ كان السؤال يحمل لهجة واضحة من السخرية المريرة... غير أن ما لم يستشرفه ستالين هو أن بابا فاتيكاني آخر من دولة شيوعية فقيرة هي بولندا سيقدر له أن يدق أول مسمار في نعش الشيوعية، وسترحل تلك الأيديولوجية التي حطمت الإنسان وقزمت الإنسانية وانهارت امبراطوريتها ولا يزال الفاتيكان قلعة شامخة. الولايات المتحدة والكنيسة الكاثوليكية ليس سرا أن الولايات المتحدة الأميركية تلجأ سرا للكواليس الخلفية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، تطلب عونها ودعمها، وربما ما تقدمه مؤسسة كاثوليكية واحدة للعالم وأمنه وسلامه مثل مؤسسة «سانت ايجيديو» تعجز الخارجية الأميركية عن الإتيان به، وهذا حديث طويل له موقع وموضع آخر. وفي كل الأحوال تبقى زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد عنوانا جديدا لسردية الإنسانية المتسامحة والمتصالحة مع الذات ومع الآخر، ومنطلقا جديدا لتعاون بناء وخلاق مشترك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©