الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هزاع علي أبو الريش المنصوري

هزاع علي أبو الريش المنصوري
3 مايو 2012
على هضبة من الرمل المتراكم المتكاثف، وفي ليلة تتلألأ فيها السماء بالنجم اللامع الساطع، وتحتضن الغيم الهادئ كلوحة رسمتها ريشة فنانٍ مبدع، وبصوتٍ عذب يجر الأحاسيس الحزينة المبعثرة، ومن بحة صوتٍ بها معاناة وأسى مكثت في القلب السقيم: كم عذلت القلب من همٍ عنيد ما وجدته غير في همومٍ عصيبة العنا والشوق والخل البليد جاوز حدود التجافي في مغيبه وفجأة، مقاطعة سريعة تحمل حفة البراءة، أبي، ورأسه على فخذ أبيه وعيناه تبحلق في السماء الصافية، وتحلق بين النجوم: ـ ما معنى الحب؟ فينظر الأشيب إليه ويبتسم ثم يضع يده على رأس الفتى ويقول: أسمى ما في الوجود يا بني، وأجمل ما خلق على وجه الأرض هو الحب الصادق من القلب إلى القلب. ـ وهل النجوم تعشق النجوم؟ ـ لم لا؟ قد نرى أناساً جاءوا إلى الدنيا وذهبوا بصمت وهم يعشقون، ولكن سجلت وسطرت أسماؤهم على مدى التاريخ. يا بني.. الصمت والهدوء ليس دليلاً على الابتعاد والتوحد والخوف من المجابهة والمواجهة، فالنجوم تعشق والكواكب تعشق وكل ما على الأرض يعشق، وأنا أؤمن بما يُسمى العشق الهادئ. ـ ما هو العشق الهادئ؟ ـ انظر إلى النجوم وتمعن كيف تعشق، وكيف تهوى، بكل صمتٍ وهدوء. ـ وهل للنجوم عشق النجوم من طرف واحد؟ فيتصنع الأشيب الإبتسامة المزيفة بعد ما هيّض السؤال قريحته ومشاعره المبعثرة الهائجة بداخل الصدر الحزين: ـ للأسف لا يابني، كل ما حولك يعشق ويُعشق إلا البشر.. ـ يعشق ويُعشق إلا البشر؟! وبكل دهشة وتعجب، ولماذا؟ ـ انظر يا عزيزي، فالبشر حسب الأمزجة والمشاعر والأحاسيس المتقلبة المتغيرة من حين إلى حين، ومن وقت إلى آخر، وكل منهم يهوى بهواه، ولا يُحكم قلبه بصدقٍ وشفافية. ثم ينظر الفتى لأبيه بنظرة استفهامية تحمل كماً من الأسئلة الجامحة الشاردة الراسخة بزاوية الذهن: ـ وماذا عن الذين عشقوا ثم هلكوا ثم ماتوا وهم يعشقون؟! فتبسم الأشيب ضاحكاً بصوت لا يتعدى حوله، بما يحمل من شعورٍ غامضٍ مجهول، ويقول: ـ ها أنت، تقف على نفس المصب الذي تتشعب منه الأسئلة وتتفرع، وكلمة العشق وصفٌ أكبر من المفردة نفسه، ولا يفهمها ذوو القلوب الهشيشة الركيكة. وللعلم ما يهلك الفرد في حياته ويتركه بحالة تذمر ليقضي ما تبقى من عمره بمعاناة وأسى، حين يهوى القلب شخصاً لا يستحقه فيشقه، وحين يعشق القلب قلباً كالحجر، بليد المشاعر يزيد الضجر، ها هو الطرف الآخر بعينه. نهض الفتى ليجلس معتدلاً مقابل الأشيب، وعيناه لا تفارقان عينيه وقال: ـ وهل هناك أناس يفهمون معنى الحب الصحيح؟ ـ طبعاً يا بني، فالحب هو الحياة، كمثل الأكسجين يحتاجه الجميع، يسري في الدم وما بين الشرايين وإلى القلب، ولا حياة لمن لا يفهم معناه. ـ يا بني.. ـ عذراً أبي! ما بهما عيناك؟ ـ لاشيء، فقط بعض من الأتربة الخفيفة المتطايرة في الهواء، ويجب أن نسري قبل أن تزداد الرياح سوءاً ونحنُ على التل. فأمسك الأشيب بعصاه ليقف بها، فوجه الفتى إليه سؤالاً يجس المشاعر ويحرك الأشجان الخفية. ـ كيف كانت والدتي معك؟ خرَّ الأشيب جالساً ويداه ترتعشان لا تقويان على الإمساك بالعصا والشوق يتلاعب ويتراقص في عينيه، ثم وضع يده على كتف ابنه وقال: ـ رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، مكثتُ معها وخضتُ أول وآخر قصة حبٍ تبقى ما دمت حياً، فهي الحب ومنها الحب وإليها الحب كله. رحمها الله قالها بصوتٍ حزين تغلب عليه الذكرى المؤلمة. ـ وهل ستعشق وتحب غيرها إن وجد؟ ـ لا أظن ولا يظن قلبي كذلك، لأن وجودها احتل مساحة شاسعة في القلب وغيابها لم يترك حيزاً ليسكنه غيرها. وفجأة ذات لحظة غضب لا شعورية وبصوتٍ يحمل نبرة الحزن الخاشع المتخشع. ـ وماذا عن السائق المذنب الذي أودى بحياة والدتي وكاد يهلكنا جميعاً ويودي بحياتنا إلى الجحيم؟ ـ الحمد لله على كل حال، وهذا قضاءٌ ولا مرد للقدر، والسائق نال جزاءه من حيث القانون. ـ أي قانون هذا؟ ها نحن نتألم كل يومٍ ونرضف الحزن فوق الحزن ونمسح الدمع، والسائق بمجرد اتصال الشخصية المهمة حتى لم يمكث ثلاث ساعاتٍ في الحبس. ـ ولكن لا تنس، الشخصية المهمة التي تتحدث عنها بادرت بالاتصال بنا، وقامت بالاعتذار نيابة عن السائق نفسه، وقدم لنا المال وفوق هذا ألا يجب أن نؤمن بالقضاء والقدر، ونسامح؟ ـ نسامح على ماذا؟ شخص طائش متهور لا مبالٍ لآداب الطريق يعتمد على معارفه وشخصياته المهمة. ـ يا بني، اجعل قلبك مسالماً ليناً سريع العفو والمغفرة، فأنا لم أنسَ والدتك قط، ولم أعشق امرأة سواها، ولن يتراوح حبك ويتجاوز حبي لها، فالاختبار صبٌ على من يجتازه ليفوز. ثم نهض واقفاً وهو يشير بعصاه. ـ يا بني، انظر إلى هذا الكون الواسع الرحب فلابد أن تمر عليك مواقف تحتاج فيها إلى صبر، وجب أن تصب، ولو بات قلبك هشيماً. وبدأ الأشيب يتحرك بمحاذاة الفتى متجهين إلى المنزل. ـ أبي!! ـ نعم يا بني؟ ـ أخي أحمد متى سينتهي من الدراسة ليعود إلينا؟ تبسم الأشيب قائلا: ـ اشتقت إليه؟ ـ كيف لا؟ وهو أخي الأكبر، تربينا وعشنا في كنفٍ واحد. ثم قالها بأسلوب السخرية. ـ صحيح يتصف بالثرثرة الزائدة ولكنني أحبه، وأقرب الأصدقاء إلى قلبي. الأشيب يضحك قائلاً: ـ جميل حين تشعر بأن لديك أخاً صديقاً يكون لك (كالصندوق الأسود). ـ وما الصندوق الأسود؟ ـ أعني أن يحمل جميع أسرارك ويساعدك في حل مشاكلك التي تواجهك ويبادلك فوراً بالحلول البنّاءة ويدرأ عنك دون أن يشعر أحد كونه أخاك الأكبر، ولا يجعلك تسعى للبحث عن صديق خارج المنزل ليشمت بك وينتهز لحظة ضعفك. ـ آآه.. فعلاً زدت شوقاً لأرى أخي أحمد، الآن منذ ثلاثة أشهر لم أره. ـ وأين المشكلة يا بني، الآن أنت في إجازة صيفية وبلغت سن الرشد كما يقال بما معناه يعتمد عليك، فأذهب إليه لتقضي أياماً عدة لتراه من ناحية ولتزيح عن صدرك التراكمات النفسية من ناحية أخرى. فوقف الفتى من هول الصدمة ينظر بصمت إلى الأشيب، ثم نظر الأشيب إلى الخلف. ـ ما بك؟ ـ أبي أنا أسافر. ويشير بأصبعه السبابة إلى صدره ثم يضحك قائلاً: ـ أنا الشخص الوحيد الذي لا يعشق السفر ولا يطيق الطائرة إطلاقاً.. باشر الأشيب ليكمل طريقه والفتى بدأ بالتحرك خلفه. ـ وهل تخشى الطائرة؟ ـ لا ولكن... اممم.. ـ ولكن ماذا، أكمل؟ ـ لا أعلم ما أقول ـ ألا تطمح إلى تكملة دراستك خارج الدولة، ثم تأتي ومعك الشهادة العليا التي تفتخر بها وأفتخر أنا بك أيضاً؟ ـ أجل، ولكن لماذا خارج الدولة يا أبي؟ الآن ولله الحمد تتوافر كل الجامعات لدينا في الدولة وكل التخصصات متاحة مع كل الوسائل العلمية المتطورة وبشهادة عالمية، لا داعي للتغرب والسفر والابتعاد عن الوطن. ـ ما معنى كلامك؟ هل تصر على إقناعي بأنك لا تخشى الطائرة؟ تبسم الفتى لعدم قدرته على المراوغة في الأسئلة، ولدهاء والده، وليعلن الانسحاب بطريقة غير مباشرة دون أن يشعر الخصم بتجنب السؤال.. ـ أبي ما يعني لك البحر؟ ـ البحر!! كالصاحب اللئيم.. إن واجهته حضنك، وأن أقفيت عنه طعنك، لا أمان له. وبقيت مسافة قليلة للوصول إلى المنزل. ـ وكيف توفي عمي يوسف في البحر؟ ـ رحمة الله عليه، كان من عادته أن يرتاد البحر للصيد بسبب الفاقة. وذات يوم ذهب للصيد من البكور، حسب ما وردني من العاملين لديه، فصعد على قاربه الصغير ولم يشغف لأي شخصٍ يعاونه على غير العادة وبعد عشر ساعات من ارتياده البحر كأنني أحسست بأن أخي حل به أمر لأننا اعتدنا على اتصاله بشكل مباشر أو كل ثلاث ساعات على الأقل، وحين أبادر بالاتصال به لا يجيب، فراودتني أفكارٌ جعلتني أذهب إلى منزله لأُفاجأ بأنه لم يأتِ منذ خروجه للصيد، فتوجهت مسرعاً إلى موقعه حيث يوجد مع العاملين لديه ففوجئنا بـ(كركاس) أحد العاملين لديه وعيناه ينتابهما القلق، فسألته عن أخي فأخبرني زنه لم يرجع منذ ارتياده البحر من عشر ساعات تقريباً، فتوجهت مسرعاً إلى أقرب أصدقائه محمد ليشاركنا البحث لامتلاكه مركب صيد. وبعد ساعة من البحث المتواصل وجدنا قارب يوسف ولم نجد يوسف نفسه. ـ وإلى الآن لم تجدوه؟ ـ نعم، إلى الآن لم نجده. ـ ويا له من بحرٍ غدّار. لاقترابهم من المنزل وبضع دقائق للوصول قرر الأشيب تلطيف الجو بعيداً عن الآلام والمآسي وتقليب الأوجاع ويعيد الفتى إلى ما حاول تجنبه والابتعاد عنه. ـ انظر يا بني الآن! لا تخشَ الطائرة فحسب بل كل ما يوجد على الأرض ويسبب الأذى والمخاطر مثل البحر والسيارات والسفر، فاجلس في المنزل ولا تتحرك كي لا يصيبك أي مكروه. فضحك الفتى لعلمه أن الأشيب لم ينسَ ويتجاوز حيلته وتجنبه للسؤال الذي يخشاه. وصلا إلى المنزل بعدما قضيا وقتاً ممتعاً في التسلي بالأحاديث الشيقة، كصديق يتحدث مع صديقه بكل محبة وصدق وحنان. ـ هيا يا قرة عيني اذهب واستحم لكي نتناول معاً بعضاً من الطعام. ـ حسناً يا أبي، ولكن فعلاً شيء جميل حين يدرك الفرد مدى التأمل والتفكير ويسارع إلى الابتعاد عن ضجيج المدينة وازدحامها الذي لا يُطاق والمكوث بعيداً في الأماكن الواسعة الهادئة. فكم سعدت يا بي بمصاحبتك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©