السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المرأة كينونة الشاعر والقصيدة

المرأة كينونة الشاعر والقصيدة
3 مايو 2012
لأن الشعر سؤال الكائن مذ كان الكائن والشعر، فهو لدى الشاعر السوري عامر الدبك جدل لاينتهي بين الذات والذات وبين الذات والعالم، هذا الجدل الذي أخذه إلى رؤيا تأويلية تحتفي بالمعنى قدر احتفائها بالمبنى، وتحتفي بالشكل قدر احتفائها بالمضمون فللقصيدة لديه إيقاعاتها الكامنة والظاهرة، إيماءاتها، وإشاراتها، كشفها، وعراؤها، شكها ويقينها، حضورها فيه، وحضوره فيها، تعينه على التأمل كما تعينه على العزلة، فيعينها على الإنبثاق إلى عوالم تستفتي احتمالاتها في المجاز، ومسافاتها في الخيال. “تنبأ لي أبي” فصول وأصداء من السيرة، قصيدة تشهق بسيرة الكائن، حيث كان في المكان وفي اللامكان، لاشأن لها بالتفاصيل الصغيرة، كما لاشأن لها بالكشف عن المسكوت، لأنها تقف على حافة من البوح الخافت بحزنه، وكأن الحزن تأويل لما انتهى، ولما هو كائن، ولما هو قادم، وكأنها تأويل لكثافة الوعي بالذات، كما هي تأويل لكثافة الوعي بالعلاقة مع الآخر،أي بالعالم المتموضع في الذات، وبالذات المتموضعة في العالم، ومن هنا كانت القصيدة المتن ـ التي شغلت جل المساحة الشعرية في الديوان ـ مبنية على صوتين: صوت الذات (الفصول)، وصوت الآخر (الأصداء) وكأن الصدى لحظة كشف للذات كما أن الصوت الذاتي كشف لرؤى الآخر، ولعل هذه العلاقة الجدلية هي التي جعلت من السيرة الشعرية قصيدة منفتحة على الجنس السردي، تستعين بتسريد الخطاب الشعري، في بناء القصيدة، والتسريد هو استعانة الخطاب الشعري بأدوات الخطاب السردي، وبالتالي تحويل تلك الأدوات داخل النص إلى أدوات شديدة الإتصال بشعرية القصيدة. سيرة أرادها الشاعر أن تتشكل في بوح القصيدة، وقلما غامر الشعراء في كتابة سيرهم شعرا، وذلك لأن للقصيدة كثافتها، ومجازاتها، وميتافيزيقيتها، التي تنأى بها عن محكاة الواقع، بينما السيرة في السرد أكثر احتفاء بالحقيقة من المجاز، وبالواقع من الحلم والخيال، إلا أن الشاعر أرادها مغامرة تنسجم مع طبيعته التي تنبني على المغامرة، سواء في القصيدة الشعرية كنص خاضع للتجريب الدائم لديه، أو على مستوى الرؤيا الشعرية التي هي في انبثاق دائم “توقظ بغزارتها وخصوبتها أعماقا جديدة في داخلنا “ كما يقول باشلار، حيث “الصورة الشعرية في بروز متوثب ومفاجئ على سطح النفس”. الذاتية الشعرية لا نريد الاستطراد في الكشف عن بنائية السيرة الذاتية الشعرية، ومفارقاتها الزمانية، من استرجاعات واستباقات يمكن استجلاؤها بالنبوءة التي تفتح العنوان على النص، وبالحلم الذي يكتنه الرؤى في التشكيل الشعري، وغير ذلك من تقنيات البناء الزمني،الذي طالما شكل الخصوصية في الخطاب السردي وكذلك في الخطاب الشعري،إضافة إلى تقنيات المكان وبنائية الشخصيات،والعمق الدرامي الذي تنبني عليه معظم قصائد المجموعة التي تحتفي بالحوار، لأنه الأقدر على الكشف، وعلى تخطيب الذات بالموضوع.. الخ، لأن ذلك قد تم بحثه في دراسة منفردة أخرى تبين لنا فيها أن السيرة الشعرية لا تحتفي بوعي الزمن التراتبي ولا الكرنولوجي، بل كان احتفاؤها بالجدل الزمني بما ينسجم وكثافة الرؤيا الشعرية وتنبوءاتها، لذلك كان الاستباق أكثر تواترا في السيرة من الاستذكارات بينما هو في السرد أكثر تواترا حسب جينيت، وتأويل ذلك ينجلي في طبيعة القصيدة الشعرية، وخصوصية الكائن الشعري واحتفاء المجموعة بالنبوءة منذ العنوان وصولا إلى أخر نص مرورا بفصولها وأصدائها. فالشاعر عامر الدبك ظل لقصيدته، كما القصيدة ظل له، ولكل منهما إسقاطاته في الآخر، لذلك هو منشغل حد الاستغراق في البحث عن دهشتها، وهي مشغولة حد التماهي في انبثاقها من دهشته. وللمرأة في شعر عامر الدبك أسرارها كما للقصيدة أسرارها، وعندما يواجه الشاعر بهذه الأسرار لابد وأن يستفتي الوجود بحاله، ويستفتي الكائنات، التي تأتلف وكائناته الشعرية، ليستطيع أن يستجلي سر المرأة بالقصيدة، وسر القصيدة من خلال المرأة، فمن (قبل أن يطفح الياسمين) مرورا بـ( قريبا سأهطل) و( لذيذة كالمعصية) و(انتظار خارج الهواء) و(كلام بحجم الخيبة) و(كأي مواطن حزين) و(أريد أن أتثاءب) و(هكذا قال الهواء) و(أوقفني في الصمت وقال) و(هكذا تكلم قميصها) وصولا إلى (تنبأ لي أبي) لم تغادر المرأة بوحه، فهي الياسمين بتجليه، والهطول بتواليه، والمعصية الغاوية، والخيبة الرائية، والحزن الكاشف، والصمت العارف، والهواء المرسل، والبوح المنزل، والنبوءة التي تؤول وجوده وذاته، كما تؤول أحلامه في الوجود. هكذا تنجلي صورة المرأة في قصائد الشاعر عامر الدبك، التي أصبحت كنها في القصيدة، رغم كل التحولات التي طرأت على تجربته وعلى مسيرته الشعرية والذاتية، وكأن هذا التحول المتشعب بين التجربة الإبداعية والذات، أورث المرأة في القصيدة انبثاقاتها المختلفة التي تشبه انبثاقات القصيدة في تشكيلها. مما عمق الرؤيا لدى الشاعر لتصل في (تنبأ لي أبي) إلى جدل مستمر بين الذات ومراياها، بين العالم وغواياته، فهي تارة الظلال، وتارة السؤال، وتارة الضلال، وتارة الخيال، وتارة الحلم، وتارة الهوية، وتارة الذات التي تعيد للشاعر توازنه وهو يواجه خلل الوجود الذي يواجهه. المرأة السؤال كما القصيدة سؤال الشاعر، هي المرأة سؤال القصيدة، تضله في غواياتها، ولابد من الإشارة هنا إلى أن تأويل الضلال لم يكن بصوت الذات أي من خلال المقاطع التي عنونت (بالفصول) وإنما كان من خلال تأويل الصدى، أي من خلال صوت الآخر، لذلك يأخذ الضلال إذا ما اختبرناه في صوت الذات، كنها تأويليا في التجربة الشعرية، الذي ينسجم ونزعة المغامرة التي أشرنا إليها. فهو لا يعني انزياحا عن اليقين في المغامرة، بقدر ما يعني هنا في القصيدة انزياحا عن المألوف وانزياحا عن العادي، واتصالا بالجدل الذي لايفتأ ينهض داخل القصيدة، توقظه المرأة التي تنهض في النبوءة سؤالا لا ينتهي: “تنبأ بعضُ مَنْ عرفوا جهاتي/ في الغوايات/ فمنهم قال:/ هذا الطفل معجزة ٌ/ فيا لهْ/ ومنهم قال:/ في عينيه عاصفةٌ / طوى في سلم الرؤيا خيالهْ/ ومنهم قال:/ سوف تضله امرأةٌ/ سعتْ حتى بدتْ / في كلّ أغنية سؤالهْ”. وهذا التأويل هو الذي يكشف عنه الشاعر عندما يربط بين المرأة التي يشكلها الضلال، وبين الدهشة التي تنبئ بها، والتي تعينه على وحشة عزلته، بدهشتها التي تدهش الذات والعالم، حيث الدهشة تتصل بالمفاجأة والترقب الذي يكمن فيه سر القصيدة الشعرية، ويكمن فيه بوحها المختلف، وهنا تتصل المرأة بالقصيدة اتصالا بنيويا، لتصبح القصيدة ذاتها، كما القصيدة امرأة من ظلال: “يحاور جدران غرفته/ الموحشهْ/ ويقرأ أشعاره/ للظلالْ/ ويؤنس وحدته/ بالخيالْ/ يعري على ظله امرأة/ من ضلالْ/ لعلها في لحظة تدهش/ اللحظة المدهشهْ”. فالمرأة/ القصيدة، هي التي تبدد وحشة المكان، فيشهق بالخيال، ويشهق بالدهشة، وكأن القصيدة المرأة تنفث في المكان من روحها ليكون أكثر حيوية في العزلة، وأكثر انشداها بالوجود. لذلك فالمرأة التي تأخذه للضلال، ليكتشفها، هي ذاتها التي أربكته في السؤال، ليدخل في جدلها، وأرسلته إلى تأويلاته في العزلة، فتوحد معها، حيث التوحد مع لحظة الكشف، والكشف ينبثق من خافية الكائن كما خافية النص. المرأة الظل تتشكل المرأة الظل في القصيدة انسجاما مع مفهوم الشاعر لسيرة الكائن الشعري، أو للسيرة الذاتية كونها سيرة لظل الكائن، وليست سيرة للكائن لأن الوجود لديه كائن في الظل، وبالتالي المرأة هي ظل له، وكأنها تأويل لظله، بل هي التي تنهض في لحظة زمنية بين ظلين ظل الحنين وظل القصيدة وكأنها انبثاق زمني في السيرة كائن لا يدركه الشاعر كما لا تدركه القصيدة، كامنة بين ظلين زمنيين: ظل الماضي الذي يسحب الشاعر إلى بوح الحنين، وظل المستقبل الذي يعين الشاعر على تكهناته وتنبوءاته في تأويل زمنه. وبهذا الوعي الزمني تنفتح السيرة على عالمين، حيث القصيدة تتأرجح بينهما، وهي تبني كينونتها الزمنية داخل ذات الشاعر: “وما بين ظليه/ ظل الحنين وظل القصيدهْ/ ستحمله امرأة/ أسكرتها كؤوس الخيالْ/ سيسقط في ظلّها / كي تربّي على راحتيه الظلالْ” حيث السقوط في الظل، سقوط في بؤرة الرؤيا لدى الشاعر، وبؤرة الكشف التي تنبني عليها سيرته، لذلك تلبسه المرأة كالظل، لأنه في مرآة الآخر ظل غامض، وهذا الغموض هو الذي يفتح تلك المرآة على تكهنات مختلفة متفاوتة، وأحيانا متناقضة، في الكشف عن ذات الشاعر، وهنا ينبئنا عن غموض القصيدة، وغموض فكرة الكائن، الذي يتشكل في القصيدة، وكأنه يضعنا على حافة سؤال عن كنه تلك الفكرة التي وجد فيها الإنسان، عن العلاقة بين اللغة وبين الفكرة، بين الخيال وبين النص، بين الرؤيا الشعرية وبين الكثافة التي تنبثق منها تلك الفكرة ، أو اللحظة المدهشة، التي يؤكد عليها في كل قصائده، لذلك نراه من البدء ولد كفكرة،والفكرة تأويل للكائن الكامن في عالم المثل، معتق بامرأة من خيال: “سيعرف/ من كان يعرفني أنه/ كان يعرف ظلا/ طواه الغموض/ وعتق سرهْ/ وأن الظلال/ التي لبستني/ هي امرأة من خيال وخمرهْ/ وأني من البدء/ حين ولدت/ ولدت كفكرهْ”. وبالتالي تنكشف هذه العلاقة بين ظله وظل المرأة، لتنجلي في الغواية التي تنبه الكائن على جهله فيتبع غواية المعرفة، لأن المرأة التي تشبه الصمت، تقوده إلى أساطيرها، وتقوده إلى مجاهيلها التي لم تدرك بعد، وكأنها تضعه على حافة عالم يكتشفه للوهلة الأولى كما اكتشف آدم عليه السلام عالمه من خلال الغواية الأولى، فأدرك معارفه التي أورثته الرؤى. “أنا في الغواية أتبع ظلي/ فتأخذني امرأة/ تشبه الصمت تملي عليّ/ أساطير ما أدركتها اللغات/ فأدرك جهلي”. المرأة الحلم الحلم أكثر اتصالا بنبوءة الشاعر، لأن الشاعر يبني سيرته على رؤى استكناهية أكثر من كونها استذكارات استرجاعية، فهو يحتفي بالحلم وبالنبوءة، احتفاؤه بالمرأة التي تتشكل في أحلامه، مما يرسخ اتصالها بالقصيدة، بل كينونتها فيها، كما هي كينونة الشاعر، التي لا تستوي إلا بهذا الجدل بين القصيدة والمرأة، لأنهما السبيل الوحيد لكشف العالم، ومعرفة الأسرار الكامنة فيه: “يرتل كل مساء/ قصائد لامرأة مارأته/ ولم يرها/ إنّما الأصدقاء/ وفي بعض تأويلهم أكّدوا/ أنه كان يألفها كالهواءْ/ وتألفه لا كإلفة كلّ النساءْ”. ومن هنا يتكشف لنا أن المرأة ليست سوى قصيدة، كامن في حلمه، لم يرها ولم تره، ولكنه يألفها كالهواء وتألفه لا كإلفة كل النساء، وهذه الألفة المتبادلة غير العادية، والتي تتشكل في لامألوف الوجود، إنما هي الألفة بينه وبين القصيدة، بينه وبين الحلم، الذي يتجسد على شكل امرأة توحي له، وتتيح له الأسرار كي ينهض إلى بوحه المختلف: “ومما روى يوم كان الحنين/ أصابعَ عرت رؤى مُعتمهْ:/ بأن الذي أتعب الروح صمتا/ حنينٌ إلى لحظة غائمهْ/ وأن الذي علّق الحلم خارج رؤياه/ أيقظ في سره أنجمهْ/ وأن التي علمته الصعود إلى آخر الأغنيات/ لينهض معناه حتى ذرا النهد/ كانت قصائد أوحت بها امرأةٌ ملهمهْ”. حتى أن انتظاره لها وانتظارها له، يتشكل في الحلم، وبالتالي تكتمل القصيدة كما المرأة في أحلام الشاعر، صورة مغايرة عن المرأة الجسد، وهذا ما يجعل الاحتفاء بالمرأة، احتفاء بالنص أكثر من كونه احتفاء بالكائن، بل إن القصيدة هي لحظة هيام تتولد داخل الشاعر بين السكر والصحو بين اتباع الغواية، والإحجام عنها، بين الشك واليقين، إنها امرأة تحمل إليه أحلامها المرسله، بينما يحمل في كفه إليها غيمة مثقلة: “هنا كل يوم/ تجيء بأحلامها المرسلهْ/ تحدث مقعدها عنه/ عن ذكريات تراها/ وحينا تراه/ وفي كفه غيمة مثقلهْ” وبالتالي ينهض الحلم برؤيا الخلاص، ورؤيا الحرية، ورؤيا الإنعتاق الذي يحلم به الشاعر من أجل أن يصعد إلى ذاته، ويصعد إلى المعنى الذي يتجسد في زمنه القادم كاستكناه، عسى أن ينهي الغناء هذا الخلل الذي طرأ على العالم، كما طرأ على الذات، وبالتالي يخرج من مهزلة العالم بالغناء، الذي يتجلى في ذاته: “هنا كل يوم تغني/ لعل الغناء إذا ما تجلى/ على الأرض ينهي/ بأسراره المهزلهْ”. هكذا هو الغناء، وهكذا هو الهوى الذي يفك أسره، ويطلق للغيم شوقا يديهِ/ وأسرى به للوجود/ فصار بكل الوجود لديهِ، فإذا به يكشف عن ذلك التواصل الخفي بينه وبين الوجود. ولابد من القول في مجمل القول أن المرأة كانت لدى الشاعر عامر الدبك رحلة بين السؤال والضلال والحلم، لتنجلي عن رحلة استكناهية للقصيدة وماوراءها، للذات وأحلامها، التي لا تكتمل إلا بنكهة امرأة تشبه نكهة الحلم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©