الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوراري: الإشعاع الإماراتي أضاء العتمة العربية

الوراري: الإشعاع الإماراتي أضاء العتمة العربية
3 مايو 2012
يرى الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري، الذي توّج بجائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها الثانية عشرة 2008 عن بحثه: “تحولات المعنى في الشعر العربي”، أن نقده لنظريّة العروض العربي بهوامشها القديمة والحديثة نقد للكليشيهات التي تتمُّ باسم الإيقاع، ويعتبر الشعر المغربي اليوم غابة لم تُطلق كلَّ أغصانها، كما أن القصيدة العمودية الإماراتية تتعايش مع قصيدة التفعيلة وتستفيد من منجز قصيدة النثر. ويقول إن صعود الشعر النسائي الإماراتي تحقق بسبب ما أظهرته الشاعرات الإماراتيّات من صَوْتٍ جريءٍ ووعيٍ فنيٍّ تكشفه ما تعتمدنه من رؤى وتقنيات كتابيّة. محمد نجيم وبمناسبة صدور الكتاب الجديد لعبد اللطيف الوراري “نقد الإيقاع” كان معه الحوار التالي: ? بمناسبة صدور كتابكم الجديد “نقد الإيقاع”، نريد أن نسألكم ما هو الجديد الذي أتى به في مجال الدراسات العروضية والإيقاعية؟ ? هذا الكتاب هو استمرارٌ للجهد الخلاّق الذي بذله علماء العروض المحدثون من العرب والمستشرقين خلال القرن العشرين، في دراساتهم متفاوتة القيمة للعروض وإيقاع الشعر العربي؛ فنحن لا ننكر الاهتمام المتّصل في ثقافتنا العربية، منذ فجرها إلى اليوم، بعنصر الموسيقى في الشعر، إلا أنّه على الرّغم من وفرة الدراسات والبحوث حول الشعر العربي، فإنّ سؤال الإيقاع، كموضوعٍ واقعيٍّ، لا يزال مكبوتاً وغير مفكّر فيه داخل خطاب الشعر ونظريّته، بدلاً من الزجّ به في العروض وقياساته. إنّ الإيقاع، كمفهومٍ ودالٍّ نصّيٍّ، يبدو لنا اليوم إشكاليّاً أكثر من أيّ وقْتٍ مضى. من هنا، رأينا أنّ إعادة بناء الموضوع المتعلّق بسؤال الإيقاع تدخل، بالضرورة، في سياق إعادة قراءة نظريّة الشعر العربي بمرجعيّاتها المتنوّعة وهوامشها المختلفة، النقدية والبلاغية والفلسفيّة؛ وذلك بعد نقده في إطار علم العروض العربي من مكانِ يجعل بحثنا متجاوباً مع هاجس بعض الدراسات الجديدة التي تمّت في الموضوع نفسه، بقدر ما ينفتح على أوفاق الأنواع الأدبية وتحليل الخطاب ونقد الإيقاع، ويعمل على إدماجها في سيرورة القراءة والتأويل. وهكذا ينزع البحث بإشكاليّته، إذن، إلى تأمَّل مفهوم الإيقاع في الدراسات ذات الصلة، وآليّات تلقّيه من طرف عروضيّين، وعلماءَ بالشِّعر، وبلاغيّين، وموسيقيّين، وتجويديّين، وفلاسفة؛ بمقدار ما ينزع إلى تأمُّل إمكانات عمله في الشعر العربي بتعبيرات متخيَّله المختلفة (الرجز، القصيدة، الموشّح والزجل). ولقد كان من جُمْلةً من الأسئلة التي أرّقتنا وضوّأت مسارات إشكاليّة البحث، مثل: كيف دبّر علم العروض علاقته بأشكال الشعر العربي؟ وما هي القيمة التي أضافها الخطاب البلاغي والنقدي العربي في وصفه لعروض الشعري العربي، وتثميره إيّاه، ضمن تحليله لجماليّاته وعناصر بنائه النصِّي؟ وهل استطاعت تحليلات علماء الشعر البلاغة والموسيقى أن تنقل علم العروض من “مجرّد معرفة صحيح أوزان الشعر من انكسارها” إلى “نوع من المعرفة العلمية” التي لا تُسعفنا في ضبط البنية الوزنية فحسب، بل في التمييز بين الوزن والإيقاع؟ وبالتالي، هل يجوز لنا أن نتحدّث عن “نظريّة للإيقاع” في كتب الشعر والشعريّة العربية بمرجعيّاتها المتنوّعة؟ مفهوم الإيقاع ? هل وقفت على وعي مبكّر وحقيقيّ لدى علمائنا القدماء بخصوص مفهوم الإيقاع؟ ? يمكن لنا القول إنّنا وجدنا لدى علمائنا القدامى وَعْياً مُبكّراً بأهمية المصطلح وقيمته في بناء العلم، فوضعوا تآليف كثيرة بهذا الشأن تحتفي بالحدّ والتعريف، مثلما وجدنا بينهم تَمايُزاً في مدلول المصطلح من حيث مرجعيّته وآليّة اشتغاله، إلا أنَّه ـ مع وفرة المصطلحات في علم العروض ـ لم يرد (الإيقاع) عند العروضيّين بشكل يثير التساؤل والحيرة: هل يُعْقل أنّ عِلْماً جعل المشكلة الإيقاعية داخل الشعر في صلب اهتمامه لا يصطلح بالتسمية على دالّ الإيقاع؟ لهذا، ربطنا المسألة بالفكر الجمالي لدى هؤلاء العلماء وغيرهم في حقولٍ لها صلة مباشرة بالإيقاع اللفظي في الشعر، وهو الفكر الذي غلب عليه الطابع الحسّي في رؤيته للعالم، وفي تذوُّقهم للجمال وانفعاله بصوره انفعالاً حسّياً. ومن ثمّة كان هذا الفكر يشتقُّ مصطلحاته من البيئة التي يحيا فيها، ومن الاستعارات التي كان يحيا بها، دون أن يرتقي إلى خبرة المفهوم وتعقُّده. ولأنَّ دالّ (الإيقاع) بقي في الكمون، ولم يُطْرح في سياق النقاش النقدي الذي طال بلاغة الشعر العربي لدى القدماء، فقد تعرّض أكثر من غيره لغموضٍ شديدٍ والتباسٍ بمفهوم (الوزن) الذي طالما أخذ مكانه وعبّرَ بالنيابة عنه. لقد ساد الاعتقاد فترةً طويلةً بأنّ الإيقاع ليس إلّا حصيلة للوزن والقافية، فانْحَصرَ الهمُّ النقدي بدراسة الأوزان والقوافي في القصيدة العربية لاستخلاص موسيقى الشعر وإيقاعاته، مّا جعل هذا النمط النقدي في إحراجٍ كبيرٍ نتيجة التطوُّر الذي تمَّ في بنية القصيدة. ? لكن الإيقاع كمصطلح نجده، ابتداءً من القرن الرابع للهجرة، يرد عند القدماء بمن فيهم ابن طباطبا العلوي مثلاً؟ ? نعم، ورد المصطلح عند ابن طباطبا العلوي في (عيار الشعر)؛ والمثير في الأمر أنَّه لم يجعل من (الإيقاع) مصطلحاً مُطابِقاً للوزن، بل جامعاً لعناصر القصيدة، وذلك عندما كان يتحدّث عن أنّ “للشعر الموزون إيقاعاً يطرب الفهم لصوابه وما يرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه”. غير أنّ لفظ الإيقاع هو، في الأصل، من مصطلحات علم الموسيقى، يتردّد كثيراً ـ كما أثبتنا ذلك في الكتاب، في كتب الفلاسفة والموسيقيّين من علماء المسلمين، وندر أن نجده في كتب غيرهم من علماء العروض واللغة والشعر والبلاغة الّذين شقَّ عليهم أن يتمثّلوا الإيقاع بقوانينه في اللغة من حيث هي أصوات، وفي الدلالات التي لهذه الأصوات، ويجدوه في ألفاظها وجُروسها وصورها ما يعنيه لديهم إيقاعاً. لذلك، بدا من السهل تحديد الإيقاع ودراسته في الموسيقى وكشف القوانين التي ينغلق عليها، بقدر ما أن الموسيقى فنٌّ زمانيٌّ؛ وفي المقابل، بدا من الصعوبة بمكان تعيين الإيقاع اللفظي وتسميته باسمه في الشعر بوصفه فنّاً قَوْليّاً، لكنَّ القوانين التي استكشفوها وعملوا على إبرازها من خلال دراستهم للشكل فقد تمثّلتْ الإيقاع في تعبيراتٍ جماليّة، من دون أن تُسمّيه. وإذا حصل أن وجدناهم يستعملون مصطلح (الإيقاع)، فيكون للتعبير عن موسيقى الشعر، وإذّاك يكون مصطلحاً منقولاً من علم الموسيقى إلى علم العروض. ? لكنّنا لا نشكّ، قيد أنملة، في الشعر والموسيقى يلتقيان في خاصية الإيقاع ومادّته التي هي الصوت وامتداده في الزمن؟ ? صحيح، أنَّ (الإيقاع) في الموسيقى يكون “غاية في ذاته” ويحمل طابعاً غفلاً بالمعنى؛ بينما يرتبط الصوت في بنية اللغة بعلاقاتٍ ذات أبعاد متنوّعة، وهو ما يفرض على الوزن الشعري أن يكون منتظماً بكيفيّة مخصوصة ويجعله نظاماً إشاريّاً معقّداً ينطوي على عالمٍ من الدلالات والصور المحسوسة. الإيقاع في الشعر هو أكثر خفاءً، ولا مرئيّ؛ ولهذا، نفهم لماذا حصل الالتباس عندهم بين الإيقاع والعروض، ولم يستسيغوا وجود الإيقاع إلاّ في الموسيقى، ولم يلحظوه في الشعر إلاّ من خلال الوزن، ولا يتعدّى إلى غير الوزن. مع ذلك، فقد فطن القدماء، بِنسبٍ متفاوتة القيمة، إلى مبدأ الإيقاع ممّا لمسوه في الشعر من عناصر الانتظام والتساوي والتوازي والتكرار والتغيُّر، وهي القوانين نفسها التي تنتظم القصيدة وتتمثّل فيها؛ فدائماً ما كانت بنية الإيقاع، بمعنى أو بآخر، تُشكِّل أوّل المظاهر المادّية المحسوسة للنسيج الشعري الصوتي وتعالقاته الدلالية. المتحرك والساكن ? في ضوء هذه الأفكار المتنوّعة التي لملمتها وناقشتها داخل بحثك، هل يجوز أن نتحدّث عمّا يمكن أن نسميه “نظرية” في إيقاع الشعر خاصّة، والإيقاع العربي برمّته؟ ? حقيقةً لا يسع الباحث وهو يتنزّه في بستان تراثنا الأدبي والثقافي إلاّ أن يُحيِّي الجهود المدهشة التي بذلها علماؤنا القدامى في مستوياتٍ ورؤىً مختلفة، من أجل بلورة مفهومٍ خفيٍّ وزئبقيٍّ مثل مفهوم الإيقاع الذي دلّوا عليه بعبارات متنوّعة ومتباينة بحسب الأوضاع المحلّلة وأوضاع التلقّي وآليّاتهِ (العروضية، البلاغية والموسيقية ـ الفلسفية). لكنّ تلك الجهود، مع الأسف، ظلّت متفرِّقة ولم يحصل بين أصحابها حوارٌ نظريّ شامل يتجاوز الصعوبات المنهجية والمعرفية القائمة والمفترضة، فلم تظهر أيّة نظريّة حاولت أن تُقدّم إطاراً مُوحّداً لدراسة الإيقاع، وتبدأ ممّا توقّفت عنده نظريّة الخليل وتفوّقت فيه داخل إطار علم العروض. وهكذا، فقد كانت “نظريّة” الإيقاع الوحيدة والمتاحة هي “النظرية القَدَميّة” التي كانت تُقدّم الوزن، وتُقارِبه “زمانيّاً” بوصفه هو الأساس، وليس الإيقاع. وهكذا ظلّت أنساق النّظْم مُجرَّد معايير مُتّفق عليها تُنظِّم الوحدات غير الدالّة: التفاعيل، وعدد المقاطع. ومثل هذه الخُطاطة لا تُؤثِّر في ماهية الصوت، ولا المعنى، بحيث إنّ الوزن الشعري نفسه يبدو في جوهره مُستقلّاً عن المعنى. لقد أقام الخليل بن أحمد الفراهيدي نظامه على أساس المتحرك والساكن، وقام باستقراء ناقص للشعر العربي أسّس في ضوئه قواعد العروض العربي المعياري التي شكّلت “نظرية” في إيقاع الشِّعر العربي، ثُمّ تحوّلت إلى “معتقد” جامد، بعد أن باتت فرضيّاتها مُقرّراتٍ ذهنيّة ضاغطة وسابقة عن الواقع الشعري وتجديداته. باتتِ “النظريّة” مجرّد نظريّة للبيت، وتُطْرح صراحةً كـ”نظريّة مجرَّدة للإيقاع”، أي نظرية الإيقاع المجرَّد. وهكذا لم تستطع أن تُطوِّر نفسها، فتخلّفت عن تتبُّع حركة التطوُّر الإيقاعي ووصف كشوفاته التي تمّتْ في أكثر من عصر، في المشرق والمغرب. لقد كان التصوُّر العروضي “المُجرَّد” لإيقاع الشعر العربي هو السائد، وهو ما ساهم في الحيلولة دون تبلور التصوّرات الأخرى الممكنة. وكان بعضٌ من هذه التصوّرات يتفتّقُ ويعِدُ بنتائج مذهلة، لكنّها انتهت إلى عصرٍ بدا غير مُهيّئ لاستقبال الأعمال الواعدة واستثمارها، بعد أن تفشّتْ في فضاء الثقافة العربية العالمة آليّات النقل والاجترار والتلخيص. ? يكتشف المتتبّع للكتاب أنّك لم تتطرّق لكلِّ أشكال الشعر العربي المعروفة إلى اليوم، هل يفهم من هذا أنّ مشروع بحثك لا يزال مستمرّاً؟ ? بالفعل، لم أتناول في بحثي الذي أعدّ الكتاب الصادر جزأه الأوّل، إلا أشكال الشعر العربي القديم، وهي الرجز والقصيدة والموشّح والزجل، وذلك بموازاة مع ما كان يظهره القدامى بإزاء كلّ شكل من هذه الأشكال من اهتمام متفاوت القيمة والوظيفة ببنيتها الصوتية ـ الإيقاعية، بشكل سمح لنا بكشف تعبيراتهم الجمالية نحوها وضبط آليّات تلقّيهم لها، وبالتالي وعيهم بـ(الإيقاع). وسوف نواصل، بإذن الله، البحث في شكلين شعريّين آخرين ظهرا في بحر القرن العشرين، هما الشعر الحرّ وقصيدة النثر، وذلك بموازاة مع بحثنا في أطر البحث العروضي واللساني الحديث وقضاياه المعرفية. لأنّ البحث هنا يقع في الذهاب ـ الإياب بين النظرية والممارسة، وهو بقدر ما يكون نقداً للنظرية وأطرها يكون نقداً للكليشيهات التي تتمّ باسم الإيقاع. لنقل، إذن، إنّ المشروع لا يزال قائماً، وهو كلُّ غايتي وكدي في دروب البحث ومغامرته. أصداء مشرقية ? وصلتنا أصداءٌ طيبة عن الكتاب، لا سيما من المشرق، في حين لم يُولَ أيّ اهتمام له/ به في المغرب. هل معنى ذلك أنّ الكتاب هُمّش مثل بقية الكتب الأخرى التي تأتي عكس السائد والمحتفى به الذي يساير عزف الكورال؟ ? لنقُلْ إنّ هناك (كورالاً) يُهمّش أو يُعرض عن كلّ من لا يساير عزفه. لسوء حظّ الكتاب أنّه جاء في وقت خفت فيه البحث الجادّ والمبتكر الذي كان يتمُّ في حقل الدراسات العروضية والإيقاعية من لدن الدارسين عرباً ومستشرقين، من أمثال إبراهيم أنيس ومحمد شكري عياد وكمال أبو ديب وعبد الله الطيب ومحمد العمرى؛ وفي وقت صار فيه الإعراض عن الإيقاع والجهل به ضرباً من الموضة بزعمهم أنّ الإيقاع هو العروض الذي يذكّرهم بالشعر التقليدي وهو لا يعنيهم في شيئ ما دام قد وجّهوا ركائبهم نحو قصيدة النثر التي صارت (حماراً) لمعظم أدعياء الشعر، وهي حقٌّ أريد بها باطل. وهكذا، إذا تأمّلت معي ما يقال اليوم في الدراسات الشعرية، تجد أنّه صار قولاً مكرراً ومملّاً وغامضاً في الشعر الذي سلخوه عن وظائفه الرئيسة، وخارج أقنومٍ رئيس لا يستقيم به القول دون الاهتمام بالإيقاع الذي يُمثِّل عصب القصيدة العربية؛ ولعلّ ذلك يُمثّل وجه أزمة الشعر العربي اليوم إنتاجاً وتلقّياً. ويسرّني أن أنوِّه برأي بعض الشعراء والنقّاد الذين اطّلعوا على الكتاب، بمن فيهم علي جعفر العلاق وشوقي بزيع وإدريس الملياني وحميد سعيد وسعيد يقطين ورشيد يحياوي وعبد الجبار العلمي. ? محمد مفتاح بكتابه الأخير الموسوم بـ(مفاهيم موسعة: نظرية للشعر) ربّما أعاد الاعتبار للدراسة العروضية ـ الإيقاعية. أليس كذلك؟ ? صحيح. كتاب د. محمد مفتاح الذي أشرتَ إليه لا يعيد الاعتبار فحسب، بل يلقي مهامّاً جساماً على الباحثين الجدد الذي يتوجّهون إلى هذا النوع من الدراسات العالمة، وهو الذي انفتح، وأبان للكارهين للإيقاع ومناوئيه أن الإيقاع يتوهّج حتى داخل قصيدة النثر إذا كان الشاعر يصل كتابته حقيقةً بشهوة الابتكار ومعرفته بجماليّات اللغة العربية وخواصّها البنائية والفنّية، وليس الشاعر الذي لا علاقة له بتراث أمّته الشعري والثقافي. حداثة متحولة ? إلى جانب اهتمامك بـ(نقد الإيقاع)، كرّست جزءاً من مجهودك النقدي للشعر والشعرية في المغرب من خلال دراساتك عن شعراء معاصرين وظواهر نصية وجمالية عرف بها هذا الشعر راهناً. ما هي في نظرك أهمّ ما يميّز الشعرية المغربية بروافدها ولغاتها وجمالياتها وحساسياتها المختلفة والمتعارضة في آن؟ ? في راهن الشعر المغربي نُصغي إلى حداثته المتحوّلة باستمرار، وهي لشعراء قادمين من أراضٍ وأوفاقٍ وحساسيّات مغايرةٍ ترتاد أفقاً شعريّاً وتفتح فيه وعياً جديداً بالمسألة الشعرية برُمّتها، وذلك من أواخر الثمانينيّات إلى اليوم. فخلال هذه العقود الأخيرة، شهدنا حركة نشر ملحّة ومطّردة للشعر المغربي بكلّ أشكاله وتعبيراته، بحيث تضاعف الإنتاج الشعري بشكلٍ لافت. كما ارتبط الارتفاع الكمي للإنتاج الشعري المغربي بديمومة توسًّع بنية منتجي الأعمال الشعرية من الجنسين معاً، حيث انتقل عددهم من أقلّ من المائة شاعر وشاعرة إلى المئات، ونعوز هذا الارتفاع إلى ازدياد دور النشر، وتعايش مختلف الأجيال الشعرية جنباً إلى جنب، وظهور قصيدة النثر التي بدت وسيلة تعبير الجميع حتّى لمن هم خارج تصنيف الشعراء. مثلما امتدّت جغرافيا الشعر المغربي لتشمل هوامش وأطرافاً جديدة، بل تعدّت لتشمل المهاجر في أوربا وكندا، إذ بات يلاحظ أنّ هناك العشرات من الكتّاب والشعراء المغاربة الذين يكتبون باللغة العربية أو بلغة الدول المضيفة أو بهما، وهم بلا شك يُشكّلون قيمة مضافة لأدبهم الوطني الأصلي. لكلّ هذه الاعتبارات، نقول إنّها كانت مرحلة انعطاف كمّي بارز، ونوعيّ بلا شكّ، في مسارات الشعر المغربي المعاصر، فما يحكمها هو الاختلاف والتعدُّد، وبالتالي جاز لنا أن نقول إنّ الشعر المغربي اليوم غابة لم تُطلق كلَّ أغصانها. وإذا جاز لنا أن نستقرئ السمات الشعرية الأساسية الكبرى التي ترتدّ إليها في الشعراء وتجاربهم، أمكن لنا أن نحصرها إجمالاً في ما يلي: الاهتمام بالذات في هشاشتها وصوتها الخافت والحميم، وبالتالي تذويب الملفوظ الشعري وشخصنة الموضوعات والصور والمواقف من الكتابة والعالم والوجود، مع ما يفرضه الأمر من عزوف مستحكم عن المعضلات والهواجس السياسية والاجتماعية الكبرى. إلى جانب ما نلمسه من ميل إلى بساطة القول الشعري، وانفتاح على السرد وجماليّاته البانية، واعتناء بالكتابة الشذرية بما يسمح بإدخال اللغة الشعرية في شبكة علائق أيقونية ومعجمية ورمزية جديدة تقلب نظم بناء الدلالة، الذات والمتخيَّل. ? يلاحظ من مقارباتك للأعمال الشعرية المغربية خاصة، والعربية عامة، اعتمادك على منهج الشعرية وفروضها المعرفية والإجرائية؟ ? بالفعل؛ فإذا عدنا إلى هذا الكتاب وجدنا أنّ المعنى تتمّ مقاربته داخل علاقاته المحايثة والمتحولة بدوالّ النص الشعري، من دون الفصل بينها، بما في ذلك الإيقاع، واللغة، والتناص، وإنتاج الدلالة، وبناء الذات وفضاء الكتابة. وفق هذا التصوُّر الذي يرفد مصادره من الشعرية النقدية المعاصرة، فإنّ الأمر لا يتعلق بالتفكير في ما هو الأدب، بل في ما يصنعه؛ وهذا ما يستدعي استبدال مشكلات الماهية بمشكلات التاريخية، كما يقول هنري ميشونيك نفسه. وبما أنّها دراسة للغة الشعرية بالمعنى الواسع، فإنّ الشعرية بقدر ما هي تحاول أن تعرف ما تُؤسس له وتخلقه معرفةً تامّة، تستتبع أكثر فأكثر عملاً معرفيّاً للعلاقات بين كلّ مُمارسةٍ للغة ونظريّتها في اللغة. هكذا تقود الشعرية إلى نظريةٍ نقديّةٍ للعلاقة بين الفلسفي والسياسي وكلّ ما هو فعل لغويّ، والقصيدة تحديداً. الحراك الثقافي الإماراتي ? هذا ما يطالعه القارئ من خلال كتابك “تحوُّلات المعنى في الشعر العربي” الفائز بجائزة الشارقة للإبداع العربي. ما قيمة الجائزة في تحفيز كاتب شابّ من المغرب؟ ? إنّ جائزة رفيعة وجادّة مثل هذه الجائزة، لا يمكن للظافر بها إلا أن يسعد، ويدرك أنّ زيت روحه يضيء في أمكنة أخرى. أن تُمْنح جائزة أو شهادة اعتراف من الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة لشابّ مغربي في مقتبل الكتابة لأمر بالغ الدلالة بما ينطوي عليه الأمر من حافزية ونبل وأريحيّة. إنّها تُشعرك، حقيقةً، بالمسؤولية وأخلاقيات الكتابة في هذه اللحظة العصيبة من عمر ثقافتنا العربية الحديثة. ? ما رأيك في الحراك الثقافي الذي تعرفه الإمارات العربية المتحدة؟ ? لقد سبق لي أن زرْتُ الإمارات أكثر من مرّة، ووقفْتُ بأمّ عيني على الصروح الثقافية العظيمة التي شيّدتْها الدولة وترعاها باستمرار، والإشعاع الثقافي والزخم الفني والجمالي الذي تصرفه في مناحي الحياة اليومية وتُرقّي به ذائقة الأفراد في المجتمع، وذلك بفضل حرص الإرادة السياسية وانخراط الأنتجلنسيا المحلّية والعربية من كتّاب وشعراء ومفكرين وإعلاميين وفنّانين، عدا فاعلية استراتيجيّات التخطيط الثقافي وشموليّته. ولا شك في أنّ ذلك الإشعاع أضاء عتمة هائلة من وجودنا العربي المعاصر، وبعث الأمل من جديد في إعادة بعث نهضة عربية حقيقيّة تثق في العقل العربي، وتستفيد من المال المتدفّق وتنامي التحدّيات، وتقف في وجه موجات الغزو الثقافي الشّرِه عبر تعزيز الحفاظ على الهويات الثقافية المحلية ودعم غناها واستمراريّتها. وأُفكّر، بجدٍّ، كيف سيكون عليه حال الثقافة العربية اليوم لولا هذه المساهمات الجادّة والمأمولة التي قدّمتها هيئات الإمارات العربية المتحدة ودوائرها ومؤسساتها الثقافية والفكرية والفنية، عبر البرامج والجوائز والأنشطة والأدوار الثقافية والإعلامية التي خلقتها وأحسنت تدبيرها، على الأقلّ في العقد الأخير من زمننا. ? في سياق هذا الحراك الثقافي، أريد رأيك في الحركة الشعرية التي تعرفها الإمارات، بوصفك مُتابعاً للتجارب الجديدة في الشعر العربي المعاصر؟ ? هي تجربة تقدّم علامة عافية عن نفسها، نلتقطها من خلال نصوص شعراء أساسيّين داخلها، من أمثال إبراهيم أحمد إبراهيم وأحمد العسم وخالد البدور وسعد جمعة وعبد العزيز جاسم وحبيب الصايغ وكريم معتوق، وليس آخرهم أحمد راشد ثاني الذي رحل عنّا وهو في أوج عطائه الفنّي. فالشعر الإماراتي المعاصر، أسوة بمثيله في دول الخليج والمغرب العربي، تطوُّر بشكل أثار اهتمامي واهتمام كثيرٍ من الدارسين، بمن فيهم بحّاثة عراقي رصين مثل صالح هويدي الذي أنجز دراسة تطبيقية في “الخطاب الشعري الحديث في الإمارات”، ويُقدّم عبرها نماذج نصّية جديدة وأسماء اختطّت لنفسها أسلوباً مائزاً لإيصال أصواتها وتجاربها الشعرية. وما يثير انتباهي أكثر هو أن شعراء الإمارات لا يكتبون بسويّة واحدة ولا يجمع بينهم مفهوم وحيد للشعر شكلاً ولغةً وتخييلاً؛ فأنت تجد القصيدة العمودية تتعايش مع قصيدة التفعيلة وتستفيد من منجز قصيدة النثر، وبجانب هذه الأنواع الكتابيّة، تجد القصيدة النبطيّة بألقها وإنشاديّتها. وإذا كان هناك من تدافُعٍ بين هذه الأشكال برمّتها فهو يعكس مشهد الاختلاف والتعارض الذي يُميّز الحركة الشعرية في الإمارات ويُطوّرها باستمرار. كما يثير اهتمامي صعود الشعر النسائي، بل طرافته بسبب ما أظهرته الشاعرات الإماراتيّات من صَوْتٍ جريءٍ ووعيٍ فنيٍّ تكشفه ما تعتمدنه من رؤى وتقنيات كتابيّة، وأذكر في هذا الصدد ظبية خميس ونجوم الغانم وميسون صقر والهنوف محمد ومنى مطر، تمثيلاً لا حصراً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©