السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إطلالة من ميناء أبوظَبي

إطلالة من ميناء أبوظَبي
1 مايو 2013 20:58
الشمسُ في خطٍ موازٍ مَع البحر وبطريقة مموجة خلابة تنعكسُ على أمواجه، الجَو جَاف، بَارِد، والسماء خالية من الغُيوم التي عادةً ما تُغطي سماء العاصمة في هذا الوقتِ من السنة، كانت تتكئ على مقدمةِ سيارتها حين سمعت هَدير محرِك سيارة يقترب مِن المكان لم تلفت لأنها منهمكةٌ بالتفكير في أمرٍ يجب أن لا تتذرع باقتراب تلك السيارة منها لتتوقف عن التفكير فيه. كانَ هُو يُراقبها بتمعنٍ شديد وهي منشغلةٌ عن ما يدور حولها وتَحتسي القهوة على مهل، بدا من الواضح أن هذه البنت الواقفة هُنا تتلهف لتفعل أمراً ما، يعتقد أنه يعرفه. كانت تقفُ بكبرياء شامخ لا تُكلف نفسها عناء الالتفات إليه ولا حتى التأكد إذا ما كان هُو نفسه أو أن شخصاً آخر أتى ليسرقها مثلاً!. فهذا المكان تحديداً لا يرتادهُ أصحاب السيارات الفارهة وخصوصاً لو كانت صاحبتها فتاة، فهذا الجزء من الميناء هو امتدادٌ لمرسى ناقلات النفط، مرسىً طويل في نهايته شارعٌ مُمتد تحيط به صخور كاسرة للأمواج والزاوية هذه تحديداً لها إطلالة رائعة على أبوظبي من اليسار والخليج ممتدٌ من الأمام واليمين. حَاولت تَجاهل ارتباكها حين أطفأ مُحرك السيارة كالعادة. هي لا تعرفُ من يَقود هذه السيارة أو ما غايته من الحُضور كل مرة في الساعة نفسها والدقيقة نفسها تماماً! فلا يمكن لحضوره لهذا المكان أن يكون محض صُدفة، فكثيرون لا يعرفونه في العَاصمة ونادرون من يزورونه وعادةً ما يأتون إليه في أيام العطل كونه بعيدا عن قلب المدينة ولا يمكن ممارسة أي نشاطٍ بالقرب منه، هُو ملاذٌ آمن للهاربين من زخم الحياة والعشاق الذين تتربص العيون بهم، والباحثين عن السكينة بعيداً عن صخب كاسر الأمواج الذي يضج بالحركة طوال أيام الأسبوع. لا تستطيعُ أيضاً إنكارَ خَوفها مِن البقاء في هذا المكان وحيدة بوجود هذه السيارة الغريبة، لكن في ذات الوقت يشعرها وجودها بالأمان كما لو أن صاحبها موجودٌ هُنا فقط ليحميها، كذلك فمنظر الغروب الأخاذ لا يقاوم حين يبدأ البحر بالتهام الشمس ببطء فيأفل نورها رويداً رويداً لِيظهر القمر يتمطى على إيقاع الليل الهادئ يتبختر بغرور إلى قلب السماء فتتوشحُ السماء السواد ليبرزَ هو أكثر فأكثر باستدارته الساحِرة في منتصف الشهر وقت اكتمالِه، علاوةً على ذلك فمزاج البحر كان يروق لها كثيراً، يشبهها في صخبه وهدوئه، اتساعه وعمقه، واحتوائه للشمس عشية كل يَوم وهي التي تتوسد صدر السماء في كل نهار وتحرقه، إلا أنه بحلمه يسعها بلهيبها في قلبه ويهدي الناس من احتراقه غيوماً تضحك للأرض في الشتاء مطراً. تماماً كما فعلت هي معه. ولأن الحب لا ذاكرة له لا يمكننا أن نتعلم من خيباتنا الصغيرة التي حفرت في دواخلنا جراحاً دامية، ولأنه ليس طريقاً يرسم أو خطة تنفذ لكي نسير عليها بحذافيرها لأن الحب ببساطة عبارة عن مجموعة من مفاجآت غير معدٍ لها!. لقد كان الحُب بالنسبةِ لها مجازفة جميلة لكنها لم تكن مع الرجل المناسب ولأنها لم تحسن اختياره تحول الحب لمفاجأة حزينة وموجعة، تحول لدهليز معتم وذنبٍ عظم لا يغتفر وساحة إعدام بمشنقة. غروب أسبوع آخر يَمضي مُهرولا نحو الماضي والشرخُ بينها وبين قلبها يَزدادُ اتساعاً، غروب أسبوع آخر يَمضي سارقاً إياه مِن عالمه والهوَّة تزدادُ تقلصاً وتبتلعهُ هو بكبريائه الساذج وأحاسيسه المتمردة، إنه غروب خميسٍ آخر والعمرُ يضيع من يديه، خميسٌ آخر وهي على حافة البحر تشيخ مع خيبتها أعواماً في ساعات وتُراقب غروب الشمس في نهاية أسبوع آخر من مواسم الخذلان والأسى. ببطء بدأت تنسحبُ من المكان لكن البحر كان يجرها له، تعود للوراء خطوة ثم تعود للأمام، شيء ما يشدها لتبقى بالقربِ من الأمواج تخترق رائحتها شعابها التنفسية وتتدفق لرئتيها وتغمرها بإحساسٍ وكأنما تحضن جراحها وتطمئنها وتنثر الدفء في أحشائها، على الرغم من ذلك انسحبت على عجلة من المكان تعزي نفسها بلقاء حميم ودافئ فجر يوم الأحد. ? ? ? كانت تتقدم ناحية البحر خطوةً أخرى، وقفت على حافةِ الإسفلت، وضعت قدمها على أول صخرة، كانت مشاعرها تنجرف نحو المياه، تنزلقُ أكثر فأكثر، تَرجل من سيارته هرول نحوها خائفاً، هذه المجنونة ماذا تفعل؟ أتريد الانتحار فجر يوم الأحد؟ أي حماقة تنوي أن ترتكب؟. حينما اقتربَ منها وجدها تجلسُ على حافةِ صخرة تضمُ رجليها لصدرها وتتمتم بكلماتٍ غريبة وتتابعُ شروقاً باذخا بالوجع. أخذت نفساً طويلاً وهي تُطالع الماء وتتساءل ماذا لو ماتت اليوم؟ لو وُجدت مقتولةً في هذا المكان؟ ماذا لو انزلقت دون قصد واختفت في البحر وابتلعتها مياه الخليج؟ أكان سيأتي يبحثُ عنها؟ هل سيتألمُ ويزور قبرها وينعاها في كُل صباح؟ هل سيغتربُ في الوَطن وسيغرق بالحزن في الجفاف؟ أكان سيرى الحياة مظلمة وهو يحيا في قلب الشمس؟ هَل سينسى وهو يملك ذاكرة فولاذية؟ هل يصفحُ لنفسه وهو لا يعرف الغفران؟ هل سيعودُ لقبرها مضرجاً بدماءِ الخيانة يطلبُ منها أن تغفر له وتهيئ قلبه للحب والتسامح من جديد؟ أم أنه سينسى ويَرحل وكعادته سيعتصم بكبريائه ويطير بروحها لأرضٍ لا تعرفها يوهمها باللجوء ليرميها في عَراء الخذلان تقاسي غيابه وحيدة كسيرة بمشاعر جرحى وكيان مهزوز؟! نهضت تمسحُ عباءتها من بقايا الغبار وتستدير ناحيةَ الشارع لتركب مجدداً تقاوم رطوبة الأحجار لئلا تنزلق فتسقط في المياه، تنهدت قليلاً وأبعدت عينيها عن السماء فشروق شمس هذا الأحد هادئة جداً بلا نور، فالسماء ملبدة بالغمام المثقل بالمطر، كانت لا تريد مُطالعة السماء لأنها سخيةٌ بالسحب السوداء والسحب القاتمة تنذر بالمطر والمطر كلهُ ذكرياتٌ وحنين. حِين رأى يديها تمسكان بِطرفِ أسفلتِ الشارع ركب سيارته مُجدداً، راقبها وهي تجرُ جسدها للأعلى بكلِ حرفية رياضية وابتسمَ لأنها عَدلت عن جُنونها، راقبها وهي تنفض عباءتها من جديد وتتنفس الصعداء تشدُّ ذراعيها لأعلى وتحرك رقبتها بطريقة دورانية، بدا له أنها متعبةٌ أكثر من أي وقتٍ مضى أكثر من المرات التسع التي أتى فيها للميناء عصر كل الخميس وفجر كل أحد. مَضى عصر خَميس، و فجرُ أحدٍ جديد، مَر خميس آخر ووُلدت شمس أحدٍ ولم تأتِ، في الخَميس الثَالث أتى بضميرٍ يُؤنبه، ضمير اعتاد أن تأخذه العزة بالإثم، والتَكبُّر على كل أخطائه وعدم الاعتراف بها، جاء وهو يفتعل ألف سببٍ لمجيئه، ترجل من سيارته يُطالع البحر حين لَمح كُوب قهوةٍ كالذي كان في يديها، تقدم نحوه مُسرعاً وأخذه من على الأرض كانت قد ألصقت عليه قصاصة كُتب عليها: «إنني أتعافى من الخُذلان أتمنى أن يتحقق ما كان يجيء بك للبحرِ كل مرة». دفء الكوب يُخبره بأنها كانت هُنا قبل وقتٍ قريب جداً وكأنها متيقنةٌ مِن قدومه ليرى هذا الكُوب ويأخذه، عَاد فَجر الأحد وَضع كُوباً كتبَ على قصاصة ألزقها عليه: «سعيدٌ للغاية لكونكِ تتعافين مني، أنا لازلتُ أحاولُ إنكار حقيقة أنني أشتاق لك كثيراً.. كثيراً حد الموت!». ما إن سار عائداً لسيارته حتى عاد مسرعاً ناحيةَ الكوب وقذفه بعنف ناحية البحر، في هذا الوقتِ تماماً كانت على فراشها وقد وضعت صورةً للإطلالة في صفحتها الشخصية في أحد مواقع التواصل الاجتماعي ودونت تحتها ملاحظة كتبت فيها: يَوماً ما سَتخِر إحداهُن تحت قدَمي أمها وستعترف لها بخزي أنها ذات جنون عَشقت مهرجاً، وَعدها أن يَقضيا العُمر يضحكان لا يكترثان للحزن، لا يعرفان الدموع والوَجع وذات غِياب وضَّب مَتاعهُ على عجل ورَحل تاركاً قلبها تالفاً، فجاءت تقتفي الأثر تبحثُ في بقايا متاعه عن ذكرى ما، لكنها لم تجد سوى اقنعة وقصاصة كتب عليها: قد نلتقي غداً أو بعد غد، ربما بعد جيل أو عمر!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©