الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الانتحار «بهدلة» دنيا وآخرة

الانتحار «بهدلة» دنيا وآخرة
28 ديسمبر 2009 01:51
لم أتشرّف بتجربة الانتحار بدليل أنني لا زلت حياً، ولم يخطر الانتحار ببالي ولا أظنه سيخطر، والوازع الديني ليس هو السبب الوحيد. كنت أعمل في النيابة العامة كاتباً للتحقيقات، وكان من طبيعة عملي مرافقة وكلاء النيابة إلى مسرح بعض الجرائم كجريمة الانتحار. في إحدى المرات انتحر مطرب ديسكو أو الذي يسمى «DJ» بأن قفز من الطابق الأربعين وسقط جثة هامدة على رصيف المشاة بشارع الشيخ زايد. وقفنا أمام الجثة، رجل الإسعاف يزيل عنها القماش الأبيض، ووكيل النيابة يعاينها، وأنا أدوّن أوصافها على المحضر. كانت هناك ذبابة تمتص رحيق الميت وتطير نحوي لتفرّغ عسل الدم على وجهي. وكان من الصعب علي مقاومتها، خصوصاً بوجود جمهرة من الفضوليين، لأن مطاردة ذبابة سيجعل الموقف كوميدياً وهو ليس كذلك. ولم يكن أمامي سوى لعن الجثة، خصوصاً أنه كان شاخصاً ببصره نحوي كأنني أنا الذي دفعته من فوق. ولأن المنتحر كان يقطن في البرج نفسه مع صديقة له، فقد توجهنا إلى الشقة لاستجوابها. كانت «الموزموزيل» تشرب كابتشينو وتتثاءب، وبين الحين والآخر تنكس رأسها ثم تواصل الكلام ببلادة كأنّ أخرقاً لم ينتحر من أجلها، فالذي دفعه لإزهاق روحه هو أنها طالبته بقطع العلاقة. وكان في هذا الوقت تعداد سكان العالم نحو 6 مليارات إنسان، نصفهم نساء. وفي حالات الانتحار بالشنق، فإن أول ما يفعله الطبيب الشرعي هو معاينة الرقبة، فإذا كانت هناك آثار خدوش ورضوض عدّ ذلك دليلاً على الانتحار. أما إذا لم تكن، فهذا يعني أن هناك قاتلاً في الأجواء، قتل المغدور بطريقة ما ثم علّقه على حبل ليضلل العدالة. أما لماذا تتعرض رقبة المنتحر للخدش بينما المنطقي أن المنتحر سلّم نفسه للحبل وتدلى منه بروح رياضية؟ فلأنه في اللحظات الأخيرة يحس بحلاوة الروح، أو يشعر بألم شديد لا يُقاوم، فيحاول فك رقبته عن طريق تحريكها بشدة أو الاستعانة بيده، لكن هيهات. ولهذا تجد المنتحر بحرق نفسه يركض ويولول مستنجداً بمن حضر، لكنهم يخشون الاقتراب من كومة اللهب. ولا أدري مدى صدق الانتحار من دون ألم في الحالات غير العنيفة كتناول السم، لكنني أشك في أن الأمر يتم من غير ندم وألم، خصوصاً أن أحداً لا يفلت من سكرات الموت، فتنهار قواه ويشعر بالغثيان وعدم القدرة على الكلام أو التعبير وتضطرب ضربات قلبه، وهذا كله ألم في ألم ولو كان على فراش المستشفى ولسبب لا دخل له فيه، فكيف إذا كان ما يتعرض له من صنع يديه؟ وهذا كله كان يحدث عند إتمام الجريمة، أما عند فشلها أو ما يسمى في القانون بالشروع في الانتحار، فإن النهاية تكون في مركز الشرطة ثم النيابة العامة ثم في قاعة المحكمة، الكل يسأل وينظر بشفقة وينصح ويحذّر ويوبّخ، وأحياناً يسخر، فالذي يحاول قتل نفسه هو في الأساس شخص محطّم وبائس ويائس ومكتئب يعاني آلاماً نفسية رهيبة، وفوق هذا، عليه أن يواجه «المرمطة» ونقله من مكان إلى آخر على يد أشخاص يعدونه مجرد مجرم وسبب في زيادة أعبائهم الوظيفية. على من يفكر في الانتحار أن يتذكر أن له رباً كان به رحيماً، خصوصاً أن لكل مشكلة حلاً، وخصوصاً أيضاً أن ألم الندم سيكون أكبر من ألم العذاب، وأن هناك «بهدلة» آخروية. وإذا فشلت العملية، فعليه أن يتحمل سيل النصائح والأسئلة و»البهدلة» الدنيوية. وغالباً ما يواصل مَن ينتحر من أجلهم حياتهم وهم يحتسون الكابتشينو.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©