الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين جسد المكان وروح الإنسان

بين جسد المكان وروح الإنسان
24 ديسمبر 2009 00:35
الرواية فن لم يكن ممكن ظهوره دون أن تتطور الحياة المدنية، والسينما فن آخر لم يكن ممكناً ظهوره دون أن تتطور الحياة المدنية والرواية معاً. كلا الفنين احتاج بطبيعة الحال إلى عناصر أخرى غير هذه لكي يتطور، لكن من المشروع بل والمفيد أن ننظر إلى كليهما من الزاوية المقترحة، لأنها تفتح إمكانات أوسع لتفسير ظهور الفنين وتطورهما على النحو الذي شهدته ثقافات الأرض. في إنجلترا وفرنسا، حيث ولدت الرواية وتنامت، كانت الولادة مصحوبة بتحولات كبيرة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبطبيعة الحال على المستوى الثقافي الأدبي، وكان العنوان الكبير لتلك التحولات تطور المدن والحياة المدنية. يشير مؤلف كتاب “سَرد المُدُن” سعد البازعي إلى أن العلاقة بين الرواية والمدن ليست بحاجة إلى مزيد من التعليق والإيضاح، فهي علاقة توقف عنها الكثير من الدارسين وأشبعت بحثاً وإيضاحاً، لاسيما في سياقها الغربي. وفي ظنه أن دراسات كثيرة توقفت عند تلك العلاقة في السياق العربي، فقارئ الرواية سواء عند توفيق الحكيم أو محفوظ أو عند الجيل الأصغر سناً، مثل الطيب صالح وإدوارد الخراط وإبراهيم أصلان وحنا مينا وتركي الحمد وعبده خال وغيرهم ممن يستحيل حتى التمثيل لهم بشكل متوازن، سيجد أن المدينة والمجتمع المدني على تفاوت أوضاعه ومستوياته وأنماطه هو الإطار والمشهد الذي تنموه الشخصيات وتتشكل الأحداث وتنمو الدلالات، وهذاأوضح من أن نتوقف عنده. الشعر والحياة الورقة الأولى في هذا الكتاب تتمحور حول هذا المفصل المهم في تطور المشهد الأدبي السعودي، فتسعى إلى تكثيف النظر في ما تسميه “نثر المدن” سواء تمثل في السرد بمفهومه المعروف، أي في القصة القصيرة والرواية، أو في القصيدة بشكليها التفعيلي والنثري، حيث يزدهر السرد أيضاً. ففي كل تلك الأشكال يمثل أمامنا ما يمكن أن نسميه لحظة النثر في الأدب السعودي، اللحظة التي ترافقت مع تعمق الحياة المدنية وتأصل تأثيرها في الوجدان والمخيلة الأدبية. وفي هذا السياق تطرح الورقة رؤية نحسبها غير مألوفة لقصيدة النثر نجعلها متصلة بالرواية بشكل خاص من حيث أن كلا الشكلين نتاج انغمار ثقافي وإبداعي بتفاصيل الحياة المدنية وتحدياتها مصحوبة بنفس رومانسي لدى بعض أبرز ممثليها ونماذجها من الفترة نفسها. يتضح حضور المدينة في الرواية السعودية من مطالعة بعض أبرز الأعمال التي ظهرت على مدى العقد الماضي، وفي هذا الكتاب وقفات عند بعض تلك الأعمال، مثل: “البحريات” لأميمة الخميس و”جاهلية” لليلى الجهني و”هند والعسكر” لبدرية البشر. ولا شك أن كون هذه الروايات الثلاث لكاتبات وليس لكتاب دلالاته أيضاً التي تشير القراءات لبعضها، لكن ذلك ليس محور التناول النقدي في أي من تلك القراءات على أهمية ذلك البعد الأنثوي وعلى الرغم من اهتمامه به في سياقات أخرى. يشرح المؤلف على الرغم من كثافة حضور الرواية السعودية نسبياً في الكتاب، فإنه ليس محصوراً في نطاقها وإنما يتجاوزها إلى السياق العربي ليتناول بعض نتاج الرواية العربية عموماً، الأمر الذي نتج عن بعض المشاركات النقدية الخارجية أو لاهتمام شخصي بحت أحياناً أخرى. بعض المشاركات النقدية اضطرته لقراءة أعمال لم يكن ليقرأها دونما حافز، لكن من ناحية أخرى، يمكن القول إنه لولا معرفة مسبقة، أو حدس مسبق، لما تتضمنه تلك الأعمال من إثراء لما قبل المشاركة أصلاً. يتناول أيضاً نصوصا للكاتبين السوريين عبد السلام العجيلي ونبيل سليمان اللذين تتضمن المقالات قراءة لبعض أعمالهما. كما ويقول إنني لا آتي إلى السينما مثلما آتي إلى الرواية أو الشعر أو الأدب عموماً، وأعلم أنني حين أتحدث عن السينما فإني أقارب فناً يستلزم أدوات واستعدادا معرفيا وذوقيا خاصا، تماماً مثله في ذلك مثل أي فن آخر. ومن هنا، فإن ما أقدمه هنا ليس نقداً سينمائياً بقدر ما هي انطباعات مشاهد غير متخصص يدعي الصلة بذلك الفن من حيث اتكائه على الأدب من ناحية ـ الرواية أو الحكاية ـ وطرحه لقضايا ثقافية أو إنسانية عامة من ناحية أخرى. وبالطبع فإن ذلك ما يتضح من مطالعة أي من المقالات التي تتناول الأفلام السينمائية، فهي تخلو من ملاحظات فنية أو تكنيكية تتصل بالتصوير أو الإخراج أو ما إلى ذلك، وما أرجوه هو أن تجاهل تلك الجوانب المهمة دون شك لم يشوه تناولي لتلك التي استرعت اهتمامي. تخطي الذات في تجارب شعرية تالية سيسعى علي الدميني إلى تخطي نفسه من خلال شعرية تلتمس في النثر اقتراباً أكثر من إشكالية التمدن بما في التمدن من تفاصيل وهوامش وانفتاح في إطر التعبير، بل إنه سيعزز ذلك بنشر رواية في نهاية التسعينيات بعنوان “الغيمة الرصاصية” (1998) تمثل امتداداً لقصيدة “الخبت”، من حيث هي سيرة ذاتية أخرى. لكن البعد الشعري يظل قائماً من خلال مجموعة أخرى بعنوان “بأجنحتها تدق أجراس النافذة” (1999) تمثل بدورها تكثفاً للحضور المدني يتمرأى في خروج الشاعر إلى الشكل النثري في بعض قصائد تلك المجموعة. من تلك قصيدة “عولمة” تبرز تناقضات الرغبة الفردية بين مظهر الاهتمام بالقراءة والاستسلام السري لمتعة المشاهد المثيرة في التلفزيون: بهدوء كانت الفاكهة تضحك على المائدة، ودخان “المعسل” يخلع ملابسه الداخلية، والحروف تلمع في ظهيرة تلك الكتب التي أحياناً أقذف ببعضها تحت طاولة الطعام وتضع صغيرتي القليل في سريرها وأحياناً ـ وبجانب مخدتي ـ ينام الكثير من مؤلفيها. *** حين رأوني لم يضعوا على وجوههم عباءة الخجل ولا وردة المسرة فقط... استمروا يدخنون المعسل ويداعبون أصابع الفاكهة ويتأملون نفس الشاشة! لقد اختار الدميني لقصيدته عنواناً يتجاوزها بكثير، فعولمة عنوان كبير، بل ومقولة تفسيرية، كما نعلم جميعاً، يمكن من خلالها فهم الكثير مما يحدث حولنا من مظاهر التغيير وليس القصيدة وحدها. فعلى الرغم من أن الكثيرين لا يكادون يرون العولمة سوى في الانتشار الإعلامي والاقتصادي لمنظومات تطورت في الغرب، تبدو العولمة لآخرين أكثر توغلاً في الحياة المعاصرة، تبدو وقد ارتسمت في منظومات فكرية واجتماعية وثقافية كثيرة ومتشابكة تؤثر في الفرد بقدر ما تؤثر في المجتمعات ككل. شكل المدن أحد الدلائل على تلك المنظومات، المدن التي تعلم العالم كيفية تخطيطها من الخبرات الأوروبية والأميركية لتسير الحياة وفق ذلك التخطيط إلى حد بعيد وواضح للعيان. لكن من المؤكد في الآن ذاته أن العولمة الغربية بقدر ما تضغط على مظاهر الحياة في بلاد العالم النامي أو الثالث، ومنه المملكة العربية السعودية والمنطقة العربية بأكملها، فإنها ليست وحدها في الميدان، فثمة موروثات كثيرة وثمة اجتهادات فردية وجماعية معاصرة تمارس هي الأخرى دوراً لا يستهان به، وأن تفاوت قدره وتأثيره من مكان ومستوى إلى آخر، في تشكيل الحياة والثقافة من حولنا. في الأدب العربي الحديث ومنه الأدب السعودي نجد تلك الجدلية بين الماضي والحاضر، بين العالمي أو المعولم والمحلي سواء كان موروثاً أو معاصراً، جدلية كانت دائماً وستظل معادلة النمو التي لا مفر منها، فلا بد من الانفتاح على العالم وتقبل مؤثراته الكثيرة، مثلما أنه لا بد لعناصر الذات ومكوناتها الداخلية القادمة من المعتقد والعرف وظروف البيئة واجتهادات الحاضر وما إلى ذلك من ممارسة دورها الحيوي والأساسي أيضاً في حفظ الاختلاف والتميز وتكريس التعددية والتنوع. تلك الجدلية هي ما نجد لدى شاعر مثل علي الدميني وغيره من الشعراء وكتاب السرد سواء القصير أو الروائي، إضافة إلى كتاب المسرح ونقاد الأدب وغير ذك من أشكال التعبير الثقافي. ولعل من أبرز مظاهر تلك الجدلية انحياز كثير من الشعراء المعاصرين نحو الرواية، ففي تقديري الشخصي كتابة الرواية لدى عدد كبير من المبدعين العرب المعاصرين، لا سيما أولئك الذين عرفوا بألوان كتابية أخرى، يأتي بوصفه لوناً من ألوان الاستجابة لمتغيرات العصر وأهمها التدفق العولمي القادم من الآخر، من جهة، ومن ألوان المقاومة لذلك التأثير، إذ تأتي من الذات الثقافية، من الموروث كما من الموقف الشخصي. لحظة النثر لكن الرواية، على الرغم من انتشارها، لم تسحب البساط من تحت أقدام الشعر تماماً، فقد ظل كثير من الشعراء أوفياء للقصيدة، علماً بأن القصيدة التي تزايد اهتمامهم بها بشكل خاص لم تكن تلك التي تملأ فضاء الثقافة العربية يإيقاعاتها ولغتها، وإنما كانت قصيدة النثر، ففي ذلك الشكل الجديد القديم في الآن نفسه يتجلى مظهر آخر من مظاهر الاستجابة لمتغيرات العصر، الاستجابة التي أراها ماثلة ومختزلة في ما أسميته “نثر المدن” لأشير بذلك إلى طغيان النثرية بوصفها منهجاً وخطاباً أدبياً جعل المشهد الأدبي الجاد والأكثر تأثيراً منتشراً مشهداً نثرياً في المقام الأول. لكن تلك النثرية أو ما يمكن أن يسمى لحظة النثر في الأدب السعودي، وربما الخليجي والعربي أيضاً، لم تكن متجانسة أو متزامنة تماماً، وإنما جاءت على مراحل تضم تحت مظلاتها انتقالاً في الأشكال واللغات الأدبية. وأود فيما يلي أن أميز بين ثلاث من تلك المراحل أو ما قد يسمى “لحظات”، هي على التوالي: “لحظة التفعيل/ القصة القصيرة” و “لحظة القصيدة النثرية” ولحظة “الرواية”. المكان والإنسان يحتل المكان أهمية بارزة في بعض الروايات السعودية الصادرة في الآونة الأخيرة، أو العشر أو الخمس عشرة عاماً الأخيرة على أقل تقدير. فمن مطالعة عناوين بعض الروايات إلى تتبع تفاصيل الأمكنة التي تشهد الأحداث وترتادها الشخوص، سيتبادر لذهن القارئ أن بعض الكتاب يعطي المكان أهمية خاصة، بحيث إن طبيعة الحدث وهوية الشخصية تتحدد في بعض تلك الأعمال بمكان السكن أو العمل أو المنطقة التي تعيش فيها وتتحرك، وليس فقط بما يقولون إن يعبرون عنه من آراء وأفكار أو يتخذونه من مواقف. ولعل الأمثلة أكثر من أن تحصر لكن منها: العدامة، الشميسي، العصفورية، بنات الرياض، سورة الرياض، حب في السعودية، شارع العطايف، الحمام لا يطير في بريدة. ولعل رواية سقيفة الصفا لحمزة بوقري الصادرة في أواسط الثمانينيات الميلادية، من الأعمال التأسيسية في هذا التوجه الذي يعلي من شأن المكان في خريطة السرد على الأقل على مستوى العنوان. يختم الباحث والناقد كتابه الشيق والمشوق، المثير للاهتمام والجدير بالقراءة، بثلاث محاضرات لكتّاب ألقوها بمناسبة فوزهم بجائزة نوبل، وهم التركي أورهان باموك، والبريطانيين دوريس لسنج، وهارولد بنتر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©