السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لذّة النص..أو متعته السائلةمن إبرة!

لذّة النص..أو متعته السائلةمن إبرة!
29 ابريل 2015 21:33
هل للمرض لذّة حقاً؟ وهل لانتظار الموت طعم التوت البرّي؟ ربما يصبح ذلك صحيحاً عندما يتحول المرض وانتظار الموت إلى نص. عندها يمكن أن نتحدث عن «لذة النص»، والمصطلح هنا لرولان بارت، إذ يصبح المكروهان، في ذلك المحرق الزمني، حاملين لأصدق المشاعر الإنسانية، وأكثرها تعبيراً عن خلجات الروح. اختار أحمد راشد ثاني تلك الآونة، ليعبّر عنها، اختار أن يرثي نفسه، قبل أن يختاره الموت، لينضمّ إلى كتاب آخرين، كتبوا عن مرضهم ومعاناتهم، من خلال رصد حالاتهم، أو من خلال رصد جوّهم المحيط، ولعلنا نذكر ها هنا شاعرنا العراقي بدر شاكر السياب، وشاعرنا الفلسطيني محمود درويش، ونتوغل في الزمن نحو أدب صدر الإسلام، لتقفز إلينا ذكرى مالك بن الريب المازني الذي رثى نفسه بقصيدة منها: تذكّرتُ من يبكي عليّ فلم أجدْ سوى السّيفِ والرّمحِ الرّدينيِّ باكيا وأشـقرَ محبـوكٍ يجـرّ عنـانَهُ إلى الماء لم يَتْـركْ له الموتُ ساقيا يطلّ علينا أحمد راشد ثاني، من خلال كتابه «لذّة المرض»، على شرفة «سيرة المستشفى»، ليكتب لنا سيرة مرضيّة، لا تقدّم آلامه المبرّحة، ولكنها ترصد آلام من حوله وآهاتهم وطبائعهم، وتصف المكان المغلق، والمكان المفتوح، وتثري نماذج الشخصيات والأمكنة بدلالات وارفة. وصف الآخر تمت كتابة «لذة المرض» (كما يشير غلافه الأخير الذي كتبه محمد المزروعي)، في العام 2011 عندما كان أحمد راشد ثاني نزيلاً ومتردداً على مستشفى خليفة، وعلى الرغم مما كان يعانيه من تباريح المرض، وما يعانيه جسده الموصول بأجهزة «ولكل جهاز من هذه الأجهزة في جسدي موطئ إبرة» ص9، فإنّ أكثر اهتمامه انصبّ على الآخر، حيث كان يصف استقباله في قسم الطوارئ، وعمل الممرضات، والأطباء، كل تلك الأمور التي فقدت دهشتها، بسبب اعتياده عليها: «أقصد قسم الطوارئ، وأقول أوّل ما أدخل لمن يسألني، كما لو أنّه تعريف بجنسي: أنا مريض بالقلب، وإذا ما سُئلت عن الأعراض فسأذكر عرضين أو ثلاثة، فتركض نحوي الممرضة بالكرسي المتحرّك، وما إن تضع حول يدي ورقة بالاسم والرقم الصحي حتى تهرول بي نحو السرير» ص 9. «صرت أعرف المراحل التي سأمرّ بها في ذلك القسم حتى يصل الطبيب إلى قراره (...) أنواع الإبر الأولى. مجيء الطبيب. الفحوص المبدئية. انتظار النتيجة. ومن ثم انتظار الحكم» ص 47. فإذا كان السياب في قصيدة الوصية قد التفت إلى من حوله أكثر مما التفت إلى أوجاعه في قوله: «من مرضي  من السّرير الأبيضِ من جاري انهار على فراشه وحشرجا يمصّ من زجاجة أنفاسه المصفّرهْ، من حلمي الذي يمد لي طريق المقبرهْ والقمر المريض والدّجى أكتبها وصية لزوجتي المنتظرهْ وطفلي الصارخ في رقاده: «أبي» تلم في حروفها من عمري المعذّبِ فإنّ أحمد راشد ثاني يتابع طريق السيّاب واصفاً كل ما حوله إلا تباريح الألم التي تقضّ مضجعه، فهو يصف شريك الغرفة المريض الذي يمكن أن يكون ثرثاراً أو شكّاء أو صامتاً، أو «حفلة أوجاع»، ويصف زوّاره، ومرافقيه، والممرضة التي تهجم على عالمك الطريّ، «وتغرز الإبرة في ذراعك كما تُدقّ المسامير، وتنهرك لهذا السبب أو ذاك، كما ينهرون الأطفال» ص 38، كما يصف الممرضين الذين يربطونه إلى السرير بالأنانيب، ص 10، دون أن نلمس أثراً لآهات تعذّب الجسد، أو لشكوى يبثّها، لتذكّرنا بتباريح جدّه المتنبي، وهو يصف الحمى التي انتابته ذات ليلة: بذلتُ لها المطارف والحشايا فعـافتها وباتـت في عظـامي أبنتَ الدّهر عندي كلّ بنتٍ فكيف وصلتِ أنتِ من الزّحامِ؟ زمن المجاز الزمن في »لذة المرض« زمنان: زمن الواقع، وزمن المجاز الذي يحيل على اللغة الطموحة للخروج من الواقع، زمنان: هما زمن المريض الذي يراقب ما يجري بين جدران المستشفى، وزمن الشاعر الذي يبحث عن تحليق الروح. وبينهما ينتعش مكانان هما الداخل والخارج. في زمن المجاز يتسلل روح الشاعر إلى الصبح، فيخاطب نفسه قائلاً: »صباحك مغيّم.. تملأ نوافذه الغيوم«. ص11. ولا بد هنا من اختراق جدران المستشفى، وجدران الروح، نحو الفضاء الفسيح، على مدى النهار كلّه، ليس فقط في مجاز الصبح، حتى إذا وصل الشاعر إلى الظهيرة انفتحت اللغة على نوافذ الثقافة، واستدعت الذاكرة الشاعرة نيتشة وحجر الفلاسفة: «ظهيرتك العظمى التي مشت برفقة نيتشة في غابة الماء. وصنعت حجر الفلاسفة من الأحشاء. وغنّت كطيرٍ قديم جفّ على واجهة المعبد» ص17. وفي مساء المجاز تتصعد اللغة، مثلما تتصعد الروح، نحو سماوات الشعر، تملأ الكواكب سماء النافذة، وتنتشر بين اليدين، مثل قصيدة تحاول الفرار من أدراج خزائن المستشفى، باحثة عن حرية الجسد خارج القيد السجني الذي يحاصره بلا هوادة: «قيامةُ مسائِكَ.. الكواكب التي تنبلج من تحت غمرك. السماوات المطوية في أدراج يديك. في غضون مسائك» ص20 وفي الليل، حين تزيد الوحشة، يأنس الشاعر لذكرياته، يأنس للآخر الذي يقيم داخل الـ «هنا»، فيما يحلّق روحه في الـ «هناك»، ليصنع زمناً آخر، كان زمناً ممكناً قبل عصر المرض؛ وليعودَ من خلال هذا الزمن، فيجلسَ »خلف أيقونة الرحيق، وفي الأغلب معه ورق، ورق للقراءة، ورق للكتابة»، حيث: «تعود الأوهام المكسورة، وما تبقّى من أحلام الضوء، ما تبقّى من خطوات الليل على طريق المدفون في النوم، تعود الخطط التي بعثرتها الأيام على طاولات النرد» ص111. زمن الواقع في مواجهة الشعر والروح والتمرّد، ثمة زمن آخر، هو زمن الواقع، فالشاعر يعيش زمن المرض الذي يكرّر نفسه، كلّ يوم، مثل أسطوانة مملة، في صباح المستشفى ليس ثمة صراخ أطفال، أو زوجة توقظك بفنجان قهوة أو قبلة، في المستشفى توقظك الممرضة لـ «أخذ عينة الدم، وتوقظك الممرضة للتأكد من تحليل نبضات القلب، وتوقظك لمتابعة حالة تنفسك» ص13. وفي الظهيرة البعيدة عن الشعر، وعن الروح المحلّق خارج الجدران، يبدّد الزوار هدوء المكان ووحشته، وفي المساء يعود المريض إلى وحدته القاتلة: «أي مساء ذاك الذي يعيشه المريض وحيداً مع نفسه، أو في نفسه، أي مساء بليد وشوكي ومائع وقارص وأجوف» ص 24. أمّا الليل الذي يعني للناس البسطاء، للعمّال والموظفين المتعبين، نوماً وراحة، وهروباً من تعب نهارٍ مضنٍ، فهو بالنسبة للمريض في »سيرة المستشفى« معاناة دائمة في انتظار نوم، ما زال يفرّ منذ الصباح، حيث الممرضة »تغرز الإبرة فيما تبقّى صالحاً للغرز في إحدى يديك، تضع الدم في قواريره، ومن ثمّ تدفع عربتها وتخرج، فإذا لاحقَ المريضُ نوم المساء، وحاول أن يغرق في حلمٍ دافئ، يسمع خطوات تتجه نحوه، لتقول: الدواء، ويستمر الحال حتى آخر الليل: «أدخلُ عند الفجر في غفوة، غفوة توشك أن تكون نوماً لولا حركة في الباب الخارجي، عربةٌ تُدفع، وممرضة تقول: تحليل دم». ص92. مكان المجاز مكان المجاز ها هنا ليس شاعرياً بما فيه الكفاية، إنه ببساطة يشير نحو الخارج، فكل مكان خارج الجدران هو مجاز بالنسبة لنزيل المستشفى، حتى الحديقة ذاتها، فإذا جاز المريض الجدران وجد نفسه في زمن آخر. الخارج يعني شيئا آخر، يعني نظرة أخرى، موقع الناظر، السارد هنا، يجعل المكان مختلفاً، حتى المستشفى نفسه، يبدو من الخارج جزءاً أليفاً من الحياة: «نعبر الشوارع ونصادف في طريقنا المستشفى: مبنى كأيّ مبنى» ص42، وفي قلب هذا المكان تصبح الذكريات غالية جداً، فالسارد يتحدّث عن نفسه (في الخارج)، كما يتحدث عن الآخر الذي يشتاق إليه، ففي يوم الخميس يتذكر ذلك الآخر: «اليوم الخميس، هو هناك على الطاولة. أو في المحلّ الذي يرتاد. أمّا أنا فمريض» ص113. ويكرّر أحمد راشد ثاني هذه العبارة بطرق مختلفة، وأماكن مختلفة؛ ليعبّر عن توقه للانفتاح على الحياة التي كان يعيشها، بل يحاول أن يخرج أمكنة المستشفى ذاتها من دلالاتها، ويمنحها بعداً آخر، يدفعها نحو آفاق جديدة، فالنافذة تأخذه نحو المسجد القريب، والحديقة تأخذه نحو عالم الأطفال وضحكاتهم: «ليل الحديقة. هدوء ليل الحديقة. وحدة كراسيه. صدى ضحكات الأطفال تترنّح في الألعاب المتناثرة هنا وهناك تحت الأشجار» ص101. مكان الواقع يخلق سجينُ غرفتِهِ، ها هنا في سيرة المستشفى، عالماً موازياً لعالم يعيشه، حيث المكان في كل تفاصيله، يحيل على المغلق، رغم الراحة التي تؤمنها بعض الأماكن، حتى في غرفة العناية المركزة، حيث طلبات المريض أوامر، وتحركاته مؤشرات، وتأوهاته أجراس إنذار» ص ص29-30، يعيش المريض في سجنه على حافة الموت، فـ»خروج المريض من تلك الغرفة انتصار للحياة« ص34، وخروجه من المستشفى انتصار للحياة أيضاً، حيث المستشفى محطة، لا تشبه أي محطة، لأنّك تذهب إليها، كما يقول ثاني، «بلا أية رغبة في السّفر» ص42. هذا المستشفى الذي يبدو سجناً كبيراً تصغر شيئاً فشيئاً لتغدو آخر المطاف غرفة تشبه الصحراء: «لا. ليست المرة الأولى التي تقطع فيها صحراء هذه ال غرفة» ص74، أو تشبه زنزانة صغيرة في سجن يشاركك فيه سجناء آخرون يقاسمونك الطعام واللباس والوقت، والعيش المستمرّ تحت رقابة حرّاس الحياة: «غرفة المستشفى ليست غرفة فندقية، وإن كانت تشبهها من نواحٍ، فهي أقرب إلى غرفة في سجن، فغير الأنابيب التي تقوم بتقييدك في السرير، فإنّك مراقب. ومن المفروض أن تدخل إلى الغرفة، أو تخرج منها بإذن، هذا ناهيك عن ملابس المرضى المشتركة، و«الاستكر» الموضوع حول يدك، وفيه اسمك ورقمك» ص95. إنّه سجن يقودك فيه حرّاس الحياة نحو مزيد من الوحشة، ويقودك فيه زملاؤك السجناء نحو الوحدة، ويتركك كل من حولك، حتى النافذة والطاولة والسرير، في لحظة سكون نادرة أسيراً لهواجس الرغبة في الانعتاق، وأنت المستيقظ الوحيد في عالم الأموات: «أنا أريد الهروب إلى النوم، ينتهي الفيلم، يبدأ فيلم آخر، شخير جاري يهدأ قليلاً، الساعة الآن الثانية، المستشفى نائم، النافذة نائمة، الطاولة إلى جوار سريري نائمة، السرير نائم، وأنا أحرس هذه المقبرة». ص 104. لحظة برزخيّة على مسافة ذراع من اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، يكتب أحمد راشد ثاني عن برزخ مثير، وفي لحظة الاقتراب الحميمة من عالم النوم الأبدي يودّع الناس، ويودّع قرّاءه، بكلمات تحمل أمنيات غامضة: «تصبحون على خير أيّها السّعداء. المملوؤون حتى البهجة بماء الأبد. النائمون الآن كأمواج في المحيط». ص 125. هذه الكلمات التي تمتزج فيها رائحة النوم بالأبدية، تعيدنا إلى جدارية محمود درويش، حيث تتجه كل الكائنات نحو عدميتها: ولا شيءَ يبقى على حالِهِ كُلُّ نَهْرٍ سيشربُهُ البحرُ والبحرُ ليس بملآنَ، لا شيءَ يبقى على حالِهِ كُلُّ حيّ يسيرُ إلى الموتِ والموتُ ليس بملآنَ لا شيءَ يبقى سوى اسمي المُذَهَّبِ بَعدي.. *** ترى أيّ لمعان يشعّ من اسم مذهّب للشاعر أحمد راشد ثاني؟ وقد اجترأ على موضوع لم يقترب منه سوى ثلة من الأدباء، فنقل إلينا نبض قلب يخفت شيئاً فشيئاً، ونبض روح يحلّق في سماء الإبداع؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©