الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

آلبير قصيري.. أمير الكسل

آلبير قصيري.. أمير الكسل
31 أغسطس 2016 19:51
ترجمة - أحمد عثمان في فيلا قديمة تقع في إحدى مدن دلتا النيل (مدينة المنصورة)، ثمة عائلة تمضي نهاراتها في النوم، وتستيقظ وقت الغداء. الأخ الأكبر، جلال، الكاهن الأكبر للنعاس، يدخل مترنحاً إلى صالة الطعام، مرتدياً منامة قذرة. قال البعض إنه فنان. «لماذا صحوت؟»، هتف برعب. عمه وأخواه ملتفون حول (طنجرة) عدس. الأوسط، سراج، العينان نصف مغلقتين، يحلم سراً بالتحرر من الكسل العائلي والقيام بما لا يمكن تصوره (إيجاد عمل) ربما في المصنع الذي يبنى بالقرب من هنا. ولكن على مدار نزهاته الاستكشافية (لا يستطيع أن يمنع نفسه من النوم في الطريق)، يكتشف هيكلاً صدئاً. الأب العجوز حافظ، لا يخرج أبداً من غرفته، وإنما يفكر في مشروعه الجديد المتعلق بالبحث عن زوجة جديدة وهو في هذه السن. رفيق، الأصغر، يجب أن يكون مستيقظاً وقت القيلولة لكي يقتل الخاطبة التي تدبر المؤامرات حتى يتسنى لها إدراج هذه العدوة، عدوة النوم، إلى عرينهم. مجبراً على عدم النوم، يناضل رفيق ضد التيار في النهر الخطير. «من وقت إلى آخر، وبجهد عظيم، يتحرر. يرفع رأسه ويتنفس بعمق. ثم، من جديد، يجد نفسه غاطساً في هوة الطلاوة المتلاشية. فيض النعاس الكبير والمغوي يغطيه كلياً». ولد آلبير قصيري في 3 نوفمبر 1913، في حي الفجالة، بالقاهرة، في بيت لبناني - سوري ثري ينتمي إلى الروم الأورثوذوكس، قال عنه في حوار صحفي: «أريد أن أقول لكم إن هذا الإطار، هذا البيت، كان عائلتي، إنه متخيَّل بالتأكيد؛ بيد أن والدي لا يعمل، وبالتالي ينام حتى الظهيرة. أخواي لا يعملان أيضاً. لا أحد يعمل. في الحقيقة، ننام. إذا سمعنا ضوضاء خارج البيت لا أحد يتحرك لرؤية ما يجري، حتى وإن كان هناك لص». الكسل، حسب قصيري، هو الشيء الوحيد الذي لقنه والده سليم، له. سليم المولود في نهاية القرن التاسع عشر في قرية قريبة من حمص، هاجر إلى مصر، حيث امتلك مزارع وعقارات في أرض الدلتا الخصبة. وفيما كان القطن والبلح والبطيخ ينمو في المزارع، كان سليم يقرأ الجريدة وينام القيلولة. كبر آلبير تحت جناح جده، الذي كان يحيا معهم في الفجالة. ذات يوم، قرر الجد أنه لن يغادر غرفته، ليس لعجزه، وإنما لأنه لم يعد يرغب في ذلك. حينما كان آلبير يحمل الطعام إليه، كان يجده بعصابة سوداء على عينيه، لكي يتحصل على العتمة الكاملة. أحياناً، كان الجد ينسى أنه يرتديها. آلبير، الابن الأصغر، يستيقظ في السابعة صباحاً للذهاب إلى المدرسة، في البداية مدرسة الجيزويت ثم «فرير دو لا سال»، وأخيراً الليسيه الفرنسية. بدأ يكتب أولى رواياته وهو في سن العاشرة. في السابعة عشرة من عمره، نشر ديوانه الشعري «لدغات»، الذي يدين فيه بالفضل إلى شاعره الأثير بودلير:«كنت وحيداً كجثة جميلة، في النهار داخل القبر»، هكذا كتب في «نشيد إلى الليل». أرسل قصيري لمتابعة دراساته في باريس خلال الثلاثينيات، غير أنه أخذ يتباهى بعدم دراسته لأي شيء على الإطلاق. ومع ذلك، اكتشف أن المرء لكي يكون كاتباً عليه أن يتمسك بحجة تحترم كسله الموروث. عند عودته إلى القاهرة في عام 1938، ارتبط بعلاقات مع السورياليين المصريين: جورج حنين، أدمون جابيس، أنور كامل والرسام رمسيس يونان، وآخرين. انضم قصيري إلى جماعتهم: «الفن والحرية»، ونشر عدداً من القصص في مجلتهم «التطور». في عام 1938، لاحظ السورياليون المصريون احتفاء الأنظمة التوتاليتارية المتنامي بالطموحات الفنية، ولذا حرروا بياناً: «يحيا الفن المنحط!». في رسالة إلى جورج حنين، كتب أندريه بروتون: «شيطان الضلال، كما ظهر لي، يتبدى كأن له جناحاً هنا، وآخر في مصر». في سن السابعة والعشرين، نشر قصيري مجموعة قصصية: «الناس الذين نسيهم الرب» سوف ترسم صورة للموضوعات التي سيتناولها بلا انقطاع على مدار الستين عاماً التالية: شقاء الفقراء، عبثية الحكام، إرادة الضحك – والنوم – لاجتياز كل ما سبق. في «ساعي البريد يثأر» ارتكب رضوان علي، الرجل الأكثر بؤساً في العالم، فعلاً مميتاً، لكي يعلن الحرب على من يسعون لإزعاجهم وقت النوم. لكي يحمي الراحة النهارية لجيرانه: ألقى من النافذة بقطعة أثاثه الوحيدة على تاجر الخضراوات الذي يعلن بصخب عن بضاعته في الشارع. حتى الشرطة ظلت مذهولة أمام هذه التضحية. في الشارع، كواء ينام في دكانه المهجور، من دون أدنى حالة نشاط ظاهرة. رأسه يتأرجح خلال النعاس، ثقيل كما الحجرة المنزلقة نحو القاع. ثم «مثل غواص يخرج من بين الأمواج، (الكواء) يظهر على سطح الحياة من جديد». يضع أحلامه على السطح، كما المخلوقات البحرية. خلال الحرب، انضم قصيري إلى البحرية التجارية وعمل كرئيس خدم على سطح الباخرة «النيل»، التي تحمل الركاب (الهاربين من النازية) من بور سعيد إلى نيويورك. لم ترق هذه المهنة له أبداً، بيد أنه قال فيما بعد إنها وسعت عالمه. أنيقاً للغاية، يجذب المسافرات الجميلات، حسب رواية مختلقة، خلال عبور الأطلنطي، التقى قصيري بلورانس داريل. حينما بلغت الباخرة نيويورك، تم إيقاف الاثنين بتهمة الجاسوسية: احتج داريل باستحالة ذلك، بما أن قصيري يمضي وقته كله في النوم. ولكن، في الحقيقة، زار داريل أمريكا للمرة الأولى في عام 1968، وأيضاً بفضله وجدت قصص قصيري قارئاً أمريكياً، إذ أرسل داريل مجموعة «الناس الذين نسيهم الرب» من الإسكندرية، وصدرت عن مطبوعات «سيركل ببركلي»، بواسطة جورج لايت في عام 1946. وأيضاً، بواسطة داريل، تعارف قصيري إلى هنري ميلر، الذي سيصبح «حاميه» طوال حياته. أعجب ميلر كثيراً بمجموعة قصيري القصصية، واعتبرها «كتاباً رهيباً مفضلاً»؛ وبما أن الترجمة لم تبع جيداً، اشترى جزءاً من المخزون (مئات النسخ) وعمل على ترويجها على مدى عقود عدة. في القاهرة، في عام 1944، أصدر قصيري روايته الأولى «منزل الموت الأكيد»، التي تسرد حياة سكان في منزل على وشك الانهيار. رأى هنري ميلر أنه «مبشر بفجر جديد، فجر فعال قادم من الشرق المتوسط والشرق الأقصى». بتواضع، علق قصيري: «ربما يبالغ». البطالة الأنيقة حين انتهت الحرب، غادر آلبير قصيري القاهرة نحو باريس، حيث مكث في أرجائها ثلاثين عاماً من دون أن يرجع إلى مصر. بطرقه المهذبة وميوله الآناركية، أطفأ أعلى المعارك وسط الأصدقاء والمعجبين المشهورين، أمثال آلبرتو جياكومتي، جون جونيه، تريستان تزارا، جان- بول سارتر وريمون كينو. في الليل، يلتقي وآلبير كامو، الذي قدمه إلى ناشره الفرنسي، أدمون شارلو. كان قصيري وقتذاك يقيم في شقة بمونبارناس، ويقوم بجولات لا تعد ولا تحصى ما بين شقته والفندق القائم في سان- جرمان دو بريه. في عام 1951، استقر بصورة نهائية في فندق «لا لويزيانا»: «فندق قديم كريه، معروف من قبل أسوأ صبية شارع بوسي»، كما كتب ميلر في «مدار السرطان». ذات مساء، حول طبق من الفول السوداني، قابل الفنانة مونيك شوميت: طلب قصيري أن يضع في فمها بعض حبات الفول السوداني، رفضت. أهداها روايته الأخيرة، «تنابلة الوادي الخصيب»، فهاتفته لكي تبلغه كم أن روايته جميلة. متملقاً، وافق قصيري على لقائها في «مقهى دو فلور» الذي يرتاده بانتظام. أصابت الصدمة الجميع عندما أعلنا زواجهما في أبريل من عام 1953. ولكن قصيري لم يخلق للحياة الزوجية. مونيك تستيقظ مبكراً. تثير أعصابه حين تسأله دوماً حول ما سوف يكتبه. يرفض مغادرة غرفته في الفندق. في إحدى قصص مجموعته الأولى وصف قصيري محمود الكسول، الذي يدخن الحشيش، ولا يستطيع التخلص من عشق محبوبته فايزة: «أراد أن يعلمها النوم، احترام النوم، هذا الأخ، أخ الموت الذي يحبه، ولكن واحسرتاه! لا تفهم شيئاً». سألته فايزة كيف يحيا على هذه الشاكلة: «كيف أحيا؟ وما الذي يستطيع تحقيقه هذا لك؟ نعم، أحلم طوال الوقت». بعد سبع سنوات، أعلن قصيري طلاقه. كل ظهيرة، بعد استيقاظه، يغادر قصيري الفندق، مرتدياً سترة ومنديلاً ملوناً، أحياناً لمواجهة الشمس والتطلع إلى فتيات حديقة لوكسمبرغ. يمضي الساعات في مقهى دو فلور، وهو لا يقوم بأي شيء. حينما يسأل ندل المقهى إذا كان الملل يصيبهم، يجيب كل واحد منهم: «لا يصيبني الملل حينما أكون مع آلبير قصيري». لا يكتب إلا عندما لا يكون لديه ما يفعله، ولذا كتب رواية جديدة كل عشر سنوات. ممارسة حقه في الكسل لم تتحقق إلا ببعض المشاكل. دوماً، بدون مال، يعتمد على حقوق المؤلف وعلى عوائد الترجمة. في نهاية الأربعينيات، أصدرت «نيو ديركسيون» الترجمة الإنجليزية لروايته «منزل الموت الأكيد» وطلبت من الروائي ويليام غويين ترجمة «تنابلة الوادي الخصيب». رسائل قصيري إلى ناشره الأميركي، جيمس لوغلين، تبين «بطالته» الأنيقة: «حالتي المالية ميئوس منها». «انخفض سعر صرف الدولار لسوء حظي، أصبح يساوي 270 فرنكاً حالياً». «دوماً، أعيش في أزمة مخيفة». «في الحقيقة، أنا مجبر على طلب العون منك». «أعتقد أنك نسيتني كلياً». «أتوسل إليك أن توافيني بحوالة بنكية بأسرع ما يمكن». «أنا أحيا دوماً في أقصى حالات البؤس». يجيب لوغلين بتعليمات تفصيلية عن طريقة تغيير النقود في السوق السوداء للحصول على أفضل سعر. في لقاء جرى بمقهى باريسي، في نهاية الخمسينيات، يتشكى قصيري بمرارة من المبيعات السيئة لكتبه في الولايات المتحدة عندما منحه لوغلين بعض الوريقات المالية من حافظة نقوده. إذا كان لقصيري بعض القراء في أميركا فعددهم في مصر أقل. خلال إحدى زياراته القليلة لمصر خلال التسعينيات، سعى مترجمه، محمود قاسم، الذي ترجم أربعاً من روايات الكاتب الفرنكفوني إلى العربية، سعى لإجراء «لقاء بين صرحين». اصطحب الكاتب للقاء نجيب محفوظ الحائز جائزة نوبل الذي يجهل زائره. حتى وإن أعلن قصيري أنه حمل مصر دوماً في دواخله، فإن المصريين – الذين لا يعرفونه على أي حال – يعتقدون أنه هجرها. قال قاسم في حوار صحفي: «لا يصفحون أنه تخلى عن العربية، وهاجر إلى لغة أخرى». هذه اللغة هي الفرنسية، لغة النخبة الهامشية. مثل حالم في كهف، أيد قصيري ثورة 1952، التي «نبذت» الفرنسية، لغة الإلهام البورجوازي، الأرستقراطي والنخبوي. فضلاً عن ذلك، اعترف قصيري أنه نسي جزءاً كبيراً من العربية بعد سنوات إقامته الباريسية، ما وراء الحاجز اللغوي، مدحه للكسل وتصويره للبؤساء من المصريين لم يجد صداه لدى القارئ الذي بقي في البلاد وعمل على تطويرها، وهو في حالة خلاف مع الدولة. بينما كان يتم اعتقال كتاب مثل أحمد فؤاد نجم وعبد الحكيم قاسم، أو نفي آخرين مثل جابيس وحنين، كان قصيري يتبختر في مقهى دو فلور. .......................................... (*) Anna Della Subin، Le prince de la paresse، Books، Nr. 74، Mars 2016. كسل «قصيري» كان الكسل هو الشيء الوحيد الذي تعلمه آلبير قصيري من والده. وكما أن الأناقة تصنع الرجل، كان قصيري عظاية مقاتلة. ينام طوال النهار، يمضي ما بعد الظهيرة في (مقهى فلور)، لا يفعل شيئاً ويكتب كتاباً كل عشر سنوات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©