الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللعب بالنار

اللعب بالنار
27 ابريل 2012
أحمد محمد (القاهرة) - انزلقت قدما «أشرف» إلى طريق الإدمان، فهو يتعاطى المخدرات والخمور الرديئة الرخيصة التي تذهب بعقله كل ليلة، وربما أصبح في معظم الوقت بلا عقل، يتصرّف مثل المجانين أو بسفاهة وعدم وعي، ومنذ أن ابتلي بهذا الداء أنفق كل ما كان يملك من أموال حتى اضطر لبيع التلفاز القديم، والأثاث البالي، وتدهورت أحواله في العمل بورشة النجارة، بعد أن كان صانعاً ماهراً لكل قطع الأثاث، يتهافت عليه الزبائن لإبداعه فيها، لم يعد معه ما يكفي ليشتري المخدرات والخمور، حتى لو قام بعمل، فإنه لم يعد مثل الماضي، فإنتاجه رديء، ولا أحد الآن من أصحاب الأعمال يقبله، طردوه كلهم بعدما رفض نصائحهم وتمسك بالضلال ورفض التوبة والاستقامة. المنطقة مشهورة ومعروفة بالتخصص في تجارة الأخشاب وصناعة الأثاث والأبواب والنوافذ وكل المستلزمات الخشبية، وهو كان يعمل ويقيم فيها، جاء إليها منذ سنوات، واستأجر غرفة مثل كل العزاب والمغتربين، لم يتزوج بعد رغم أنه تخطى الثامنة والعشرين، وكذلك ليس لديه من المال ما يجعله يقدم على هذه الخطوة ولا حتى يبدأ السير نحوها، لا يعرف كيف سقط في هذا المستنقع، ولا يتذكر أول طريق الانحراف، لأنه لا يتوقف أمام أي نوع يسمع عنه أو يراه، حتى أصبح من «المبتكرين» في طرق التعاطي والبحث عن أنواع جديدة من السموم، كان من المكتشفين لتعاطي الأدوية التي تحتوي على مواد مخدرة، اعتدى عدة مرات على الصيدلانيين والعاملين في الصيدليات الذين رفضوا إعطاءه تلك الأنواع من الأدوية بلا وصفة طبية، ويهرب ولا يتم التعرف عليه، لكن في المرة الأخيرة تم القبض عليه وقررت النيابة حبسه، وفي محاكمة عاجلة قضت المحكمة بمعاقبته بالسجن ستة أشهر. انقطعت المخدرات والخمور عن «أشرف» طوال هذه الفترة، لكنه لم يكن يفكر في الاستفادة منها في الإقلاع والتخلص من تلك الآفة التي ابتلي بها، ورغم ما لقيه في السجن من معاناة وليال مظلمة بطيئة ووحدة وزمن توقف، فإنه يفكر في اليوم الذي يخرج فيه ليعود إلى غيه القديم، رغم أنه عانى في البداية كثيراً إلى أن تخلص جسده من السموم. خرج السجين وعاد إلى المنطقة، لكنه كشر عن أنيابه لمن حوله، معلناً أنه خريج سجون ولم يعد يهمه شيء، وعلى الجميع أن يسمعوا ويطيعوا، وإلا فلا مانع عنده من العودة إلى السجن، إن أراد أحدهم أن يضحي بعمره، فهو يريد المال الكافي ليشتري المخدرات، في البداية يطلبه كنوع من الاقتراض، ثم يزيد على المبالغ مبالغ أخرى ولا يردها ولا يفكر في ذلك ويتمادى في أفعاله ليحصل عليها بالقوة وتحت الضغوط والإجبار، إلى أن وصل إلى فرض الإتاوات ويهدد من يرفض بالتشويه بماء النار أو اختطاف أطفاله أو إحراق بيته ومحلاته. كثيرون استجابوا له خوفاً على أبنائهم وأموالهم وتجنباً للمشاكل، إلا أنه لا حدود لمطالبه، فعندما رفض أحدهم المبالغة، فيما يريد وحاول أن يصده ليوقفه عند حده، كان نصيبه إصابة بمطواة في وجهه تركت أثراً واضحاً يذكره بهذا الحدث الأليم كلما نظر في المرآة كل صباح قبل أن يتوجه إلى عمله، أحياناً يندم على المواجهة وأحياناً أخرى يرى أنه كان على صواب، ومرة ثالثة يلوم نفسه لأنه لم يدافع كما ينبغي أن يكون، ويتساءل لماذا لم يتعامل معه بنفس أسلوبه وليكن ما يكون، واستفاد الآخرون من الدرس وأصبحوا يقدمون له الأموال طواعية ويستجيبون لكل مطالبه وقد يزيدون عليها مبالغة في إرضائه، فاستمرأ الأمر، وها هو مزاجه مضبوط كما يحلو له. لكن إلى متى تستمر هذه الأوضاع؟ كثيرون أيضاً يرفضون الخنوع ولا يقبلون الذل والمهانة، فكر بعضهم في طريقة أخرى للتخلص منه بعيداً عن المواجهة، أن يبلغوا عنه الشرطة بتهمة البلطجة وفرض الإتاوات عليهم والاستيلاء على أموالهم بالقوة، وبذلك يكونون في مأمن من أذاه وجبروته، وبالفعل اقدموا على تلك الخطوة، وتوجهت قوة إلى مسكن أشرف للقبض عليه، إلا أنه لم يكن موجوداً، ولا يدري إن كان هذا من حسن أم من سوء الحظ، ولم تمض دقائق حتى وجد من يبلغه بما حدث وأنه مطلوب القبض عليه، ووجد أيضاً على الشر أعواناً يخبرونه بالأشخاص الذين أبلغوا عنه، وان لم يتقدم واحد من المئات الذين يفرض سطوته عليهم ليشهد بالحقيقة، آثروا السلامة ولسان حال كل منهم يقول لعل المصيبة تأخذه بعيداً عني. اختفى إلى أن جاء المساء وتوجه لهؤلاء الأشخاص يأمرهم بأن يتراجعوا عن شكواهم، وان كانوا في البداية أنكروا إلا أنهم بعد ذلك رفضوا، وقالوها صراحة أنهم لن يقبلوا تصرفاته الإجرامية بعد اليوم، كلمة من هنا وكلمة من هناك وقعت بعدها مشاجرة بينه وبين ثلاثة منهم أصاب أحدهم وأصابوه أكثر، لكنه توعدهم بما لا يطيقون ولا قبل لهم به، قدموا ضده بلاغاً جديداً بما حدث فأصبح مطارداً لا يستطيع العودة إلى مسكنه ولا إليهم خشية القبض عليه، لكنه يظهر هنا وهُناك ويختفي بسرعة حتى لا يتم رصد مكان تواجده. هذا التشرد وعدم الاستقرار جعله يشعر بالحنق والضيق وتزداد حماقته ورغبته في الانتقام، المهم عنده كيف تجرأ هؤلاء على مواجهته ومحاولة كسر هيبته وشوكته في المنطقة؟ انهم يستحقون التأديب والتهذيب، لا بد أن يجعلهم يندمون على ما فعلوا، ويأتونه صاغرين يبدون الندم ويقدمون الاعتذارات، ليس ذلك فحسب، بل يجب أن يفعل فعلة يتحدث عنها الجميع كما تحدثوا عن واقعة الاعتداء عليه التي كانت حدثاً كبيراً، وفي نفس الوقت ليكونوا عظة وعبرة لغيرهم ولكل سكان المنطقة. لم ينته المصلون بعد من صلاة الفجر عندما تسلل إلى غرمائه، سكب البنزين على الغرفة التي يقيمون فيها وأشعل النار التي انتشرت بسرعة، واستيقظوا مذعورين، لا يعرفون من أين يهربون من الموت والخطر المحيط بهم، أمسكت فيهم النيران أحرقت ملابسهم وأصيبوا بحروق، حضر الجيران وتمكنوا من إطفائهم، لكن النيران انتشرت في الهشيم وأمسكت بمخلفات النجارة، وانتقلت إلى ورش صناعة الأخشاب ثم امتدت إلى المخازن الكبرى والمساكن، المشهد مرعب مخيف، لا يستطيع مخرج أفلام خيالية أن يتخيله، الدخان غطى سماء المنطقة، ألسنة اللهب ارتفعت لعشرات الأمتار، شاهدها الناس من على بعد عدة كيلومترات، خاصة أن الوقت ما زال مظلماً، الجهود الفردية فشلت في السيطرة على النيران التي أمسكت بكل شيء، حضرت مئة سيارة إطفاء، لكن النيران كانت أقوى منها ومن مياهها وخراطيمها ورغواتها الحديثة، ما زالت تمتد وتتزايد وتنتشر، تمت الاستعانة بالطائرات المجهزة ليتم الإطفاء من أعلى ومن كل جانب، عشر ساعات حتى اقترب العصر عندما بدأت جهود السيطرة تأتي ثمارها وتخمد النيران التي لا يمكن أن يتوقف الوصف لها عند أنها حريق فقط، الخسائر بالملايين فقد أتت النيران على الأخضر واليابس وعلى كل غث وثمين حتى الجدران والمباني سقطت من شدتها وهولها. السكان كلهم الآن مشردون، يتلاومون ويأسفون، إنهم هم المسؤولون عن تلك النتيجة المخزية والخراب الذي حل بهم وقضى على ممتلكاتهم وأباد مساكنهم ومحال أعمالهم، هم الذين أوصلوا انفسهم إلى هذه الحال، لا ينفع البكاء على اللبن المسكوب، ولا ينفع التوعد، فكل منهم يهدد بأنه لو رأى ذاك المجرم ليأكلن من لحمه ويشربن من دمه، إلا أن يد رجال الشرطة كانت أسبق إليه منهم وتم القبض عليه. لم يعترف أشرف بأي من جرائمه، وأحيل إلى المحاكمة، بعد ذلك جلس في القفص مستكيناً، عندما نادى الحاجب على اسمه وقضيته، وقف يرفع يديه، طلب من القاضي الكلمة فسمح له، قال إنه لم يكن يقصد كل ما حدث، إنه فقط أراد أن يؤدب هؤلاء الذين اعتدوا عليه، فإن كان أحرق بيتاً واحداً، فإنه ليس مسؤولاً عن انتشار النيران في المنطقة كلها. وقال كنت أصلي وأصوم لكن الدنيا أدارت لي ظهرها، والظروف كانت قاسية وما حدث خارج عن إرادتي، فأنا مجني عليه قبل أن أكون متهما، يبدو من تلك الكلمات أن محاميه دفعه ليقولها كي يستدر عطف المحكمة، لأن محاميه بعد ذلك وقف يفند الاتهامات ويدفع ببطلان الإجراءات ويحاول أن ينفي الاتهامات الثابتة في حقه والتي لا تحتاج إلى دليل لا من اعتراف ولا شهود الذين حتى عندما أدلوا بشهاداتهم شكك فيها، وقال إنهم من خصومه ولا يعول عليها ولا يؤخذ بها. من الجانب الآخر وقف ممثل النيابة ليصف المتهم بالفجور، وأنه مثل «نيرون» الذي أحرق المدينة، وطالب المحكمة بألا تلتفت إلى أقوال محاميه لأنها مجرد استعطاف في غير محله وممن لا يستحقه، فكيف يمكن التعاطف أو التهاون مع مجرم ارتكب كل هذه الأفعال وعاث في الأرض فساداً، وقدمت النيابة للمحكمة صوراً من الحريق الذي لم ير مثله من قبل، وآثار الدمار التي خلفها والخسائر التي تقدر بالملايين بخلاف ما عاناه السكان من تشرد. لم تجد المحكمة عقوبة أكثر من الحكم بسجنه عشر سنوات ولم تنس أن تذكر أن هذه أقصى عقوبة يتضمنها القانون، ولو كان هناك نص بالإعدام لقضت به.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©