الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صدمة الحداثة بين الارتداد والامتداد

صدمة الحداثة بين الارتداد والامتداد
26 ابريل 2012
“إننا اليوم نمارس الحداثة الغربية، على مستوى (تحسين) الحياة اليومية ووسائله، ولكننا نرفضها على مستوى (تحسين) الفكر والعقل ووسائل هذا التحسين. أي أننا نأخذ المنجزات ونرفض المبادئ العقلية التي أدت إلى ابتكارها. إنه التلفيق الذي ينخر الإنسان العربي من الداخل. ولئن كان علامة على انهيار الفكر الفلسفي العربي في مرحلة التوفيق بين الدين والفلسفة، فإنه اليوم يبدو إيذانا بانهيار الشخصية العربية ذاتها”. أدونيس ـ الثابت والمتحول في سلسة محاضرات ألقاها أدونيس في مكتبة الاسكندرية عام 2006 تحدث عن فرضية محتملة في الكتابة، يمثلها السؤال حول ما سيفعل الكاتب لو قدر له أن يعيد الآن ما كتب سابقا. وبصدد كتابه “الثابت والمتحول/ بحث في الاتباع والإبداع عند العرب” قال: “كنت أريد أن يقدم “الثابت والمتحول” قراءة جديدة ومختلفة لتاريخنا الديني، السياسي، والثقافي”.‏ ومستعرضا النيات التي قوبل بها الكتاب والجهل بمقاصده، حاول أن يضعه في سياقه حين تحدث عن ظرف كتابته: “كان الصراع محتدماً وحاداً بين القائلين بالتغيير والتجديد والعاملين على استمرار القديم”. وهذا يفسر تقبل الكتاب بغضب كما يبرر حماسته وجرأته بوضعه ضمن ذاك الصراع (الحاد) بين المقلدين والمجددين. أما عما سيفعله في فرضية إعادة كتابته بعد ثلاثة وثلاثين عاما من صدوره فقد قال: “سأحتفظ أولا بمصطلح الثابت والمتحول؛ لأنهما يتيحان دراسة التراث من داخله وبأدواته ذاتها، دون لجوء إلى مناهج نسقطها عليه من خارجه، مناهج ترتبط عضويا بثقافات وتراثات مغايرة ولها مشكلاتها المغايرة”. الثنائيات المؤسسة للتنظير لا يكتفي أدونيس بكونه شاعر الحداثة المتقدم والمنافح عن أطروحاتها، بل يؤسس نظريا لمقولات الحداثة والتجاوز والتغيير واللغة الجديدة في أعمال عديدة كان “الثابت والمتحول” (1974) أكثرها صدى وتأثيرا، فقد كان الكتاب إشكاليا بعدة معان: أولها أنه كتاب أكاديمي ونقدي في الآن نفسه، فهو في الأصل أطروحة علمية لنيل الدكتوراه، لكنه ينطلق خارج الاشتراطات الدراسية الأكاديمية؛ ليحاور النصوص، ويسائل المراجع والمنطلقات، ويغور بعيدا في التأويلات والتحليلات النصية، واضعا سياقا تاريخيا جديدا للظاهرة الشعرية وفق ما يحف بها من مظاهر لغوية وثقافية، بل أبعد من ذلك: طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ويربطها بها، وهو الذي يرفض أن يكون الشعر تعبيرا عن الواقع؛ لأنه ببساطة رفض له وتمرد عليه، فكيف يتصل الشعر بالمجتمع، ويعكس قوانينه وظروفه إذن؟ هذا هو مصدر إشكالية كبرى في الكتاب بجانب انه يستدير ليغدو بحثا في الاتباع والابداع في الشعر خاصة، رغم التقديم النظري المطول لتاريخ الحكم الإسلامي والفكر وحركته داخله ومؤثراته في تكون النظرية الشعرية والنقدية. والواضح أن الانشطار في الشخصية القارئة لدى أدونيس بين الذات الحداثوية في الشعر، والمستعيدة للماضي في الفكر حتى لو بفرض مجابهته ومساءلته هي التي تحكمت في صنع ثنائيات متراكمة بشكل لافت في الكتاب وفي أطروحات أدونيس اللاحقة كلها. ثمة بحث دائب عن جذر لشجرة الحداثة في تربة التراث مثلا (أبو تمام) او في شعرالمهجر (جبران خاصة) بينما يرمي أدونيس الخصوم المقلدين والماضويين بأنهم يبحثون عن نموذج أصل أو يؤصلون الظاهرة ليمنحوها وجودا أو شرعية. وهكذا تصطف الثنائيات الرديفة للإبداع والاتباع بكثافة، لا يتوجب على أدونيس أن يحافظ عليها في حال تحقق فرضية كتابة الكتاب مجددا. فثمة انشطار تام وشامل ترينا صوره بوضوح هذه الثنائيات الرديفة، مثل: (القِدَم والحداثة، الماضي والحاضر، التراث والمعاصرة، الارتداد والامتداد، العرب والغرب، الائتلاف والاختلاف، الخطابة والتدوين، الشفاهية والكتابة، المعروف والغريب، المألوف والمخترع، المقلد والمحدث، البادية والحاضرة، الوحي والعقل، الحقيقة والشريعة، الباطن والظاهر..) وتأخذ الثنائيات شكلا قيميا لا ماديا حين يكون الحديث عن الشعر كموضوعات فنجد (الخير والشر، والحق والباطل، والشكل والمضمون، واللفظ والمعنى..) وسنرى أن تلك الثنائيات تتداخل بشكلٍ ما لتولّد صورة للمقبول والمرفوض أدونيسيا أو حداثيا، بما أن أدونيس هنا ينوب عن جيل الحداثة في ما يسميه جدل الإبداع والاتباع، أو الأصول والخروج عليها ضمن سلسلة صراع الثابت والمتحول في الفكر العربي والشعر ايضا. حيثيات الجدل الحداثي يصل أدونيس إلى فكرة الاتباع والإبداع أو الثابت والمتحول عبر عرض بانورامي للثقافة العربية المتصلة بالحكم والدين والفلسفة والثورات العربية والظواهر الأدبية والشعرية لأن الثبات والاتباع كما يراه أدونيس قادم من لحظة تاريخية سابقة ظل العرب بحكم عدم اعتقادهم بالنهايات منساقين لهيمنتها، وتتلخص في البحث عن أصل أو نموذج طارد لما عداه. كما في تشخيصه مثلا لموقف الثقافة التقليدية من التراث ورؤيتها للصلة به، فقد رأت أنه أصل لكل نتاج لاحق. وبذا صار القديم هو المستند الأصل أو النموذج، والحديث هو الطارئ والمرفوض. وسينال هذا التشخيص حتى المحاولات الشعرية للخروج على الأصل كما في شعر أبي نؤاس الذي رآه أدونيس في مقارنة مع أبي تمام “يهدف إلى المطابقة بين الحياة والشعر”، أما أبو تمام فشعره تأسيس وحداثته تهدف “إلى خلق عالم آخر يتجاوز العالم الواقعي”، وسيكون لأدونيس رأي مختلف عن المؤرخين وبعض نقاد الشعر في رفض وصف البارودي بشاعر النهضة ورائد التجديد، كما يرفض تقليدية الرصافي، ويسمي شعر تلك الفترة بالإحيائية السلفية، رافضا عدها نهضة بالمعنى الحقيقي للنهضة، بل يرى نعت الفترة السابقة لها بالفترة المظلمة إجحافا يُقصد منه إعلاء شعر الإِحياء التقلييدي، وحين يتابع دورات التجديد في النقد الشعري، يجد لها ثنائيات أو مرادفات يفصل بينها الخط المائل الذي أكثر منه أدونيس تعبيرا عما يراه فيها من توافق أو تعارض؛ فيتوقف عند جماعة الديوان التي يكون عنوانها (الحداثة/ الذات) ومحاولة خليل مطران التجديدية (السليقة/ المعاصرة) وحركة أبوللو (الحداثة/ النظرية) أما المهجر فحداثته كما تتجلى في شعر جبران هي (الحداثة/ الرؤيا). وهي التي تبدأ عندها الحداثة الخارجة على الأصالة التي هي أصولية ينظّر لها الرافعي وسواه، وكثيرا ما عد أدونيس شعر جبران بداية الحداثة الشعرية، ولكنه يخلص في تحليل معمق لجبران وشعره إلى القول بأنه “في آن، حديث وكلاسيكي، واقعي وصوفي، عدمي وثوري”، ويمكن أن نستنتج من إلصاق هذه التعارضات الوصفية بجبران وهو شاعر الحداثة ورؤياها بأن أدونيس يريده هكذا: اثنين في واحد منقسم لتكتمل الرؤيا الثنائية التي تحكمت في نظرية أدونيس الشعرية، ولاحقت كتابته حتى في مشروعات مهمة مثل (الكتاب) الذي سينشق ثلاثيا على مستوى الكتابة الشعرية: بالوزن والنثر والتاريخ. ويصح إذن استنتاج الدارسين بأن “الثابت والمتحول” هو استكمال لـ”ديوان الشعر العربي” الذي وضع له أدونيس بجانب مختاراته المقدمات النظرية التي ستظهر مستقلة لاهتمامه بها ولأهميتها في كتاب مستقل. ولكن تشخيصه في “الثابت والمتحول” لتقليدية الشعر العربي وأنه ارتداد للماضي وامتداد للشعر القديم يناقض ما قاله تماما في مختاراته “ديوان الشعر العربي” حيث رصد تحولات واتجاهات شعرية بعضها سحري وسوريالي وصوفي.. الزهرة والتربة يرى أدونيس أن الشعر عبر لغته الخاصة يتمرد على اللغة؛ لأن “كفاح الشعر ضد اللغة ككفاح الزهرة، مشروطة بالتربة لكنها شيء آخر غير التربة”، أي أن الشعر وإن نما في تربة اللغة وقاموسها ومعانيها لكنه بعلاقاته التركيبة والصورية وإيقاعاته شيء غير اللغة المألوفة. وهذا هو رهان التحول في كتاب أدونيس: الشعر إبداع متحول دائم ـ رغم اعتراضات أدونيس على القصائد المنجزة اجترارا باسمه ـ بينما تنتمي البنى الأخرى إلى الاتباع أي الثابت المتجذر في الأصل. وذلك يستدعي لا اختراع لغة جديدة فحسب، ولكن ابتداع علم جمال الشعر الذي لن يكون علم جمال الثابت، وإنما هو علم جمال المتغير. وعلى رأس قائمة المتغيرات ستكون الدعوة لظهور (الكتابة) خارج النوع الواحد او سمات الجنس الادبي المحدد (قصيدة/ قصة.. أو شعر/ نثر)، تواصلا مع اعتبارأدونيس الكتابة ثورة كبرى نقضت الشفاهية، كما نقض التدوين قبلها بلاغة الخطابة وارتجالاتها الشفهية. لذا يختم أدونيس ببيان الكتابة الجزء المخصص لصدمة الحداثة التي يرى أنها نتيجة أو حاصل لثنائية العرب/ الغرب، وهذا البيان وإن بدا نشازا في ستراتيجية الأطروحة ومنهجها العلمي ذوأهمية خاصة، كونه دعوة للخروج على الخطاب البلاغي الشفاهي. فلقد رأى أدونيس ان القارئ الذي سيصبح مصطلحا كتابيا قد حل محل السامع (الجمهور) الذي هو مصطلح خطابي جوهريا. لقد حركت الكتابة الثوابت وأولدت المتحولات ذات المنشأ الكتابي، وبذا وضحت مؤثرات ديريدا الذي يرى الكتابة مفصلا جوهريا في التاريخ الإنساني والتقدم الحضاري، فالتحول نحو الكتابة ـ كما يرى أدونيس ـ تحول نحو تعبير مغاير، ولَّد تحولا نحو ثقافة جديدة وتقويم جديد. حلول وبدائل يضع أدونيس كثيرا من المقترحات، وهو يستعرض جدل الثابت والمتحول ثقافيا، ولكن صدمة الحداثة التي يتحدث عنها الكتاب إشكالية (مشكلية) بتعبير أدونيس، قادمة من السؤال عن الباقي لنا كخصوصية مميزة؟ وهي ليست حضارية فحسب بل مصيرية، وعلى الفكر العربي مجابهتها من داخل الثقافة العربية أو الحضارة العربية ذاتها. وهذا ما يسميه صدمة الحداثة التي تفرض علينا أن نواجه أنفسنا ونعرف ما كنا ومن نحن؟ من أجل أن نعرف ما نكون؟ وهذا هو الجانب النقدي في التحول والتجديد الذي بخلاف البنى الثابتة والمهيمنة بقوة خطابها المدعوم اجتماعيا ودينيا ترفضه وتصادر حق الفرد فيه كما يبرز دور المبدع الخلاق القادر على توجيه الأسئلة لماضيه وحاضره. والشاعر خاصة يبدو مكتشف ألغام يتقدم ليؤشر ويدل ويخلق في أرض مبتكرة سرعان ما يتركها، لينظمها غيره. وبذا تستمر وتيرة التحول، ولا يعود للثابت من وجود في حياة متغيرة. عمل ادونيس في “الثابت والمتحول” يظل شاباً كما وصفه في محاضرات الاسكندرية، رغم قِدم بعض أسئلته وتقليديتها وطابعها التاريخي الخطي المتذبذب بين الثقافي الاجتماعي والشعري الإبداعي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©