الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مصر.. صورة يونانية

مصر.. صورة يونانية
26 ابريل 2012
عرف محبو الأدب ودارسوه أعمال الأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس صاحب “زوربا” و”المسيح يصلب من جديد” وغيرهما، وهو ايضا كاتب الرحلات، ومن بينها رحلته إلى مصر، والتي صدرت منها طبعة جديدة مؤخرا وهي جزء من رحلة مطولة قام بها إلى فلسطين “الأرض المقدسة” ثم وادي النيل وسيناء. وقد لا يكون النص الذي بين أيدينا من أفضل أعماله، ولا يقارن بها، هو في الأصل رحلة صحفية وبمعنى أدق تحقيق صحفي كلف به من إحدى الصحف اليونانية كي يزور فلسطين “الأرض المقدسة” سنة 1926 في أعياد الفصح ثم يزور مصر في السنة اللاحقة، سنة 1927، وظهرت هذه الرحلة في كتاب نشر بالإسكندرية في عام 1927 ثم صدرت منه طبعة ثانية منقحة في اليونان. يلفت النظر في هذه الرحلة ان كازنتزاكس يتحدث عن سيناء وكأنها منفصلة تماما عن وادي النيل جغرافيا وتاريخيا وإنسانيا.. ويبدو أن رؤيته تلك متأثرة كثيرا بالتوراة التي تجعل سيناء في حالة صدام مع الوادي أو مصر.. سيناء هي المكان الذي هرب إليه موسى واتباعه من اضطهاد حاكم مصر أو الفرعون، ومن ثم صار هناك تناقض كبير، هو يستشهد كثيرا بالأحداث كما وردت في التوراة، ورغم انه يبدو في الكثير من العبارات والنصوص غير متدين وقد يكون ملحدا لكنه يتبنى الرؤية التوراتية ويأخذ بنصوصها. انبهار واذا كان قد تأثر بالتوراة في زيارته وتعامله مع سيناء ففي تناوله لأوضاع مصر يبدو مأخوذا ببعض أفكار الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 ويتأثر كذلك ببعض الآراء الاستشراقية حول مصر والمصريين، فضلا عن إنبهاره بما أحدثته ثورة 1919 في مصر وكان مشغولا بالبحث في مدى تأثر المصريين وتعاملهم مع الحضارة الأوروبية الحديثة، يظهر ذلك حين يزور القاهرة أو كما يسميها “القلب النابض بالحيوية في مصر الحديثة” ويطرح تساؤلاته حول دور مصر في “استيقاظ الشعوب الشرقية”.. وهنا يلجأ الى مثقف مصري بارز لم يذكر اسمه، شرح له تاريخ مصر الحديث منذ صعود محمد علي منصة الحكم في سنة 1805، ويأخذ على النهضة الحديثة انها اقتصرت على أفراد من النخبة ولم تمتد الى عامة الشعب، صحيح ان هناك نظاما تعليميا قويا وبعثات الى أوروبا لكن عامة المصريين من الفلاحين ظلوا على حالهم القديم، الى ان جاءت الحرب العالمية الاولى، وأرهق الانجليز الفلاحين والعمال، أخذوا منهم في وقت واحد، حوالي 40 الف عامل في اشغال المجهود الحربي، واخذوا حيواناتهم وبلغ مجموع العمال الذين تمت الاستعانة بهم سنوات الحرب، يسميها هو عن حق الحرب الأوروبية، حوالى مليون عامل، وتحمل المصريون ذلك على أمل ان ينالوا الحرية والاستقلال ولكن الانجليز نكثوا بعهودهم وأصروا على استمرار الاحتلال فقامت ثورة 1919.. يقول “انفجرت الاضطرابات وشكلت الأحزاب الوطنية المتطرفة، وأجريت الانتخابات، ثم ألغيت وبعد ذلك، هاج الناس وثاروا وأخذت الأرض تغلي ونضطرب، واتحد الفلاحون والاقباط، وطالبوا بحريتهم واجتمع الهلال والصليب معا في اللقاءات الجماهيرية والعطل الوطنية، كل ما فرقه الدين ذات يوم، عاد الضمير والوعي الوطني لتجميعه، وعبر الشعب العقبة الاولى من عقبات التحرر وهي عقبة الدين، وقد وصلوا اخيرا الى الرحلة الثانية وليس المرحلة الاخيرة، مرحلة الأمة”. ويذكر حوارا له مع زعيم قبطي يصفه بأنه بارع ومؤثر حول أوضاع الفلاحين المصريين والملكيات الكبيرة للأرض أو الإقطاعيين وكيف يمكن حل هذا التناقض ثم يطرح هو السؤال بصراحة “ما وجهة نظرك فيما يتعلق بمصادرة ملكية الأرض”؟ لكن الزعيم تجنب تماما حكاية “مصادرة ملكية الأراضي” واقترح اللجوء الى الأراضي الموقوفة اي المملوكة للأوقاف لاستغلالها. يتحدث “كازنتزاكس” عما يسميه العالم الشرقي الإسلامي ويضع روسيا ضمن هذا العالم وكذلك الهند والصين لمواجهة العالم الغربي والأوروبي أو الاستعماري كما يطلق عليه.. وهذا العالم يتهيأ لثورة كبرى تنهض ضد الهيمنة الأوروبية، هل يمكن ان نعتبر ما حدث في بلاد الشرق بعد الحرب الثانية نبوءة منه، خاصة في الصين “ثورة ماو” واستقلال الهند سنة 1947 ثم حركات الاستقلال في العالم العربي. خيال رغم ان الكتاب رحلة وموضوع صحفي فإن الخيال لا يفارق الكاتب، هو يوناني لكن لديه شعور بأنه من أصول عربية، وانه ينتمي الى أسرة عربية كانت في الأندلس ثم انتقلت منها الى جنوب اليونان، كريت تحديدا، وهو انحدر من هذه الأسرة ولا يقدم دليلا على ذلك، لكنه الخيال أو الحلم.. كازانتزاكيس لديه انتقاداته القاسية لأوضاع الفلاحين في مصر ويتبنى مقولات المستشرقين عن قبولهم الاستبداد والعبودية، لكنه يبدو شديد التعاطف معهم، ويهاجم بضراوة السياح الاميركيين الذين يأتون من شيكاغو لزيارة الهرم ويسخرون من المصريين أصحاب الجمال والذين يتعيشون من وجود السياح. واستمع كازنتزاكس الى روايات ووقائع من أفواه بعض المواطنين، لكنه لم يدققها مثل القول ان الخديو اسماعيل هو أكبر أبناء محمد علي ووريثه في الحكم، وهذا غير صحيح بالمرة، اسماعيل هو ابن ابراهيم باشا نجل محمد علي، ويفصله عن حكم محمد علي ثلاثة ولاة، والده ابراهيم باشا ثم عباس وبعده محمد سعيد. وفي زيارته الى منطقة سانت كاترين وجبل الطور بسيناء استمع من بدو سيناء الى ان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مر بهذه المنطقة وبالدير تحديدا وأن النبي بارك الدير وأمن الرهبان به، والحق ان هذه الرواية متواترة هناك ويزيد بعض البدو ان ثلث القرآن الكريم نزل على النبي في هذه المنطقة، وليس هناك ما يثبت شيئا من هذا لا في السيرة النبوية ولا في التاريخ الإسلامي، بل ان منطقة سانت كاترين لم تكن في طريق الرحلة من مكة الى بلاد الشام وتحديدا مدينة بصري في جنوب سوريا التي كانت تقصدها قوافل فرعية ومر بها نبي الإسلام في صغره مع عمه أبي طالب لكن الأهالي يريدون الفخر بمنطقتهم وانه اذا كان الله تجلى لسيدنا موسى بها وكلمه فلا أقل من ان يمر بها نبي الإسلام، ذلك كله فولكلور نقله كما هو. اكثر ما شد كازنتزاكس في سيناء هو إخلاص البدو الشديد وطيبتهم وكرمهم البالغ، فضلا عن أدبهم الجم، ويقدم وصفا تفصيليا لأساليبهم في الحياة، وطريقة الزواج والفضاء العرفي وشيخ القبيلة والمكانة التي يتمتع بها، ويلفت انتباهه كذلك التعايش الودود بين المسلمين من البدو مع رهبان الاديرة، ورجال الكنيسة في هذه المنطقة، واستمع تاريخ هذه العلاقة من الرهبان الذين التقاهم وتحدث معهم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©