الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دنيا النكران

دنيا النكران
1 أكتوبر 2008 21:42
أروي حكايتي لكل من عرف المعاناة وذاق مصائب الدنيا ولوعتها؛ لأنه بالتأكيد سيتفاعل معي وسيقرأ حكايتي حتى آخرها، وسيشعر بكل ما عانيته، لهذا النوع من الناس سأحكي قصتي، فأنا أريد تلك المشاركة الوجدانية التي تربط أصحاب المآسي ببعضهم البعض، فتنطلق ألسنتهم بالدعاء عن ظهر الغيب لإخوانهم في المعاناة، لا أريد أن أطيل عليكم، ولكني أردت فقط تهيئتكم نفسياً لتقبل أحداث قصتي المؤلمة والتي عشتها، وما زلت أعيشها بانتظار خيط الأمل الذي يمكنه أن يغير مسارها نحو الأفضل· ولدت مع إعاقة في ساقي اليسرى، نوع من العرج وعدم الاستقامة في المشي، على الرغم من ذلك كنت أحاول مجاراة الصغار في لعبهم وركضهم، دون أن أكترث لكلمات السخرية والاستهزاء، فقد عودت نفسي عليها منذ أن كنت طفلة، وكلما كبرت عوضت ذلك النقص بالاجتهاد والمذاكرة والتفوق، وقد منحني ربي شخصية لطيفة ومؤثرة، ولساناً ينطق بالكلام الحلو الطيب الذي يقربني من الآخرين، فأتمكن بسهولة من كسب محبتهم وتقديرهم· كانت عائلتي فقيرة الحال، والدي إنسان طيب بسيط لا يطلب من الدنيا إلا اليسير، وكذلك كانت أمي، لم يرزقا بعدد كبير من الأطفال، وإنما أنجباني أنا وأخي ثم مرضت والدتي ولم تستطع الإنجاب بعد ذلك المرض، (رحمهما الله) لم يعمرا طويلاً وإنما اختارهما الله لجواره ولم يكونا قد تجاوزا سن الأربعين· تحويل الطموح عندما بلغت سن الرابعة عشرة تقدم لخطبتي شاب فقير الحال، لم يكمل تعليمه، وكان يعمل بوظيفة بسيطة وبراتب ضئيل، لم أكن أملك حق الرفض لأن أهلي وجدوا في ذلك الخاطب فرصة ذهبية لابنتهم المعاقة، ولم يقتنعوا بطموحي الكبير لإكمال الدراسة، فالبنت لها مستقبل واحد هو الزواج، عموماً·· فقد تزوجته وانتقلت للعيش معه في غرفة صغيرة مع أهله· لم أستطع أن أقتنع بتلك الحياة البسيطة، فقد كنت أملك طموحاً كبيراً، وأحلاماً واسعة، وبالطبع لا يمكنني أن أحقق كل ذلك بنفسي، لذلك صرت أزرع كل تلك الأحلام والطموحات بداخل زوجي، صرت أحثه على إكمال تعليمه، فتقبل الفكرة بصعوبة، ثم صرت أهيئ له كل الوسائل المساعدة لتحقيق ذلك، كنت أذاكر له الدروس، وأكتب الواجبات، وأحفظ المواد كي يسهل عليّ تحفيظه إياها، ألخص له المهم، وأشرح له الصعب، حتى أكمل الثانوية بنسبة جيدة· لم أكتف بذلك القدر من تحسين وضعه الوظيفي بعد حصوله على الشهادة الثانوية، وإنما حثثته على دخول الجامعة، وتابعته بكل قواي من أجل أن يحصل على البكالوريوس، وبالفعل فقد استطاع إنهاء الدراسة الجامعية بنجاح فتعدل وضعه الوظيفي وأصبح له راتب لا بأس به· كنت أشعر بسعادة لا حدود لها عندما يمتدحني الأهل والمعارف، ويثنون على جهدي ووقوفي إلى جانب زوجي، فالكل يعلم أنني ألغيت كل احتياجاتي، ورضيت بالقليل حتى أوصلت زوجي إلى تلك المرحلة، وقد رزقني الله بطفلتين رائعتين، شاركتاني العيش المتقشف منذ ولدتا، وقد حلفت بيني وبين نفسي على أن أعوضهما عن ذلك الحرمان واشتري لهما كل الملابس الجميلة والألعاب، والمأكولات والحلويات اللذيذة عندما يتحسن وضع والدهما المادي بعد التخرج· لم يكن زوجي ليطمح بأكثر من تعديل وضعه في وظيفته نفسها، ولكني حثثته على فكرة البحث عن عمل في أماكن تضمن له الراتب المرتفع والمكانة المرموقة، وبالطبع وجدت صعوبة بالغة في إقناعه بفكرة التغيير، حتى اقتنع أخيراً وطلب مني إرسال (السيرة الذاتية) الخاصة به عبر الإنترنت إلى أماكن أخرى، فقمت بعمل المستحيل حتى وجدت له وظيفة في شركة كبرى براتب ممتاز مع سكن· الحصاد الكبير كم كانت فرحتي كبيرة وأنا انتقل من غرفتي القديمة بمنزل أهل زوجي، والتي كنت أسميها قلعة الجهاد، انتقلت منها إلى شقة رائعة مؤثثة بأرقى الأثاث، منحتها له تلك الشركة· بعد ذلك الانتقال، بدأت مرحلة جديدة من الصراع، أردت أن أطور مظهري أنا وبناتي كي نكون لائقين بزوجي، ولنرفع رأسه أمام أسر زملائه الذين يسكنون بالبناية نفسها، لاقيت صعوبة بالغة، فقد كنت بعيدة كل البعد عن تلك التطورات السريعة التي حدثت خلال الفترة التي كنت فيها كالمجندة الحبيسة بانتظار انتهاء المهمة، عندما عجزت عن مجاراة الآخرين انزويت أنا وبناتي في بيتنا كي لا أترك مجالاً للسخرية منا، فقد كنت حريصة على أن لا تمر بناتي بالمعاناة نفسها التي مررت بها في طفولتي عندما كان الناس يسخرون مني· تغير زوجي·· هذه هي الحقيقة·· للأسف، هذا آخر شيء يمكنني أن أتصوره، بدت علامات الكبرياء والتأفف تظهر عليه، تغير في تعامله معي ومع بناته، صار يستخف بنا، ويتأفف من وجودنا في حياته، ابتلعت كلّ ذلك على مضض، وصرت أجد له الأعذار، والتبريرات لتصرفاته الغريبة، ولكنه تمادى، صار ينتقدني بكلمات جارحة، ثم تطور الأمر، حيث امتدت يده لضربي لمجرد اني ذكرته بفضلي عليه، هكذا انتهت الأمور بيننا، فقد أصبحت لا أناسبه، ولكنه لم يطلقني خوفاً من لوم أهله، فهم لا يترددون بتذكيره بموقفي معه، وانه لولاي لما وصل إلى ما وصل إليه الآن· أردت أن أفعل شيئاً يساعدني على تخفيف حدة هذا الوضع المتوتر، فكسرت عزلتي وفتحت باب التواصل بيني وبين جاراتي، زوجات زملاء زوجي في العمل، وبحمد الله اعتمدت على جاذبية شخصيتي واستطعت كسبهن كصديقات مقربات ساعدنني في تحسين مظهرنا أنا وبناتي كي لا نكون أقل منهن· قامت الشركة بعمل يوم ترفيهي مفتوح لعائلات موظفي الشركة، وقد اتفقت مع جاراتي للمشاركة في ذلك اليوم، وهيأت نفسي وبناتي بأفضل ما يمكن وصرت أنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر· فاجأني زوجي عندما أخبرني بأنه اعتذر عن حضور ذلك التجمع، تعجبت من موقفه، وقررت مواجهته، وقد كنت في أشد حالة من الانفعال، ذكرته بموقفي معه وأنني لا أستحق منه مثل هذا التجاهل، فواجهني بنظرة الاشمئزاز التي اعتدتها منه في الفترة الأخيرة قائلاً: هل تريدين أن يسخر الناس مني؟ ماذا سأقول لهم؟ أقدم لكم زوجتي العرجاء المعوقة؟ هل تريدين أن أصير أضحوكة لهم؟ صعد الغضب إلى رأسي، وصرت ألعنه وأسبه في محاولة للثأر لكرامتي، فما كان منه، إلا أن أستغل تلك الفرصة، وطلقني بكل برود، وبكامل نظرة الاشمئزاز تلك التي لا تزال مرتسمة على عينيه منذ أن حصل على تلك الوظيفة المرموقة· في عهدة الأخ أخذت ابنتيَ وذهبت إلى منزل شقيقي، فهو الوحيد الذي تبقى لدي بعد وفاة أمي وأبي، وقد كان هذا الأخ إنساناً فاشلاً بمعنى الكلمة، لم يفلح في دراسته، وكان يتغيب عن عمله في الجيش حتى تم طرده، فصار يعيش حياته بشكل عابث· كانت حياته مقتصرة على جلسات الخمر ولعب الورق، والنصب والاحتيال، وكم كان مستاءً؛ لأنني جئت للسكن معه، أنا وبناتي، لأنه أضطر لتحويل وكره الخبيث إلى بيت عائلي نظيف، وبما إنه لم يكن يملك خياراً، فقد تقبل وجودنا في منزله على مضض· حاولت أن أغير حياة أخي نحو الأفضل، نصحته بترك أصدقاء السوء والتفكير في الزواج، والبدء بحياة جديدة نظيفة، بعيدة عن معصية الله تعالى، فتجاوب معي قليلاً، ثم أخبرني بأنه على علاقة بفتاة، فشجعته على الارتباط بها وتكوين أسرة عله يشعر بالمسؤولية فيترك طريق الضلال الذي يسير فيه، وفعلاً قمت بتزويجه بعد أن بعت ما أملك من مجوهرات بما فيها شبكتي، وقد صرفت مؤخر صداقي، وكل مدخراتي على هذا الزواج، وما أن دخلت العروس إلى بيت أخي، حتى اكتشفت أي نوع من النساء هي، إنها فعلاً تليق بأخي، فهي مثله سيئة جداً، وتافهة ولا تخاف الله في كل أمور حياتها· منذ اللحظة الأولى التي دخلت بيت أخي، صارت تعد العدة لإخراجي منه بكل الوسائل، وقد نجحت بعد جهد بسيط بالتأثير على أخي فطردني إلى الشارع أنا وبناتي، وهو يعلم بأن لا أحد لنا سواه، كان هذا هو جزائي لكل ما قمت به نحوه· البداية من تحت الصفر أصعب يوم مر علي في حياتي وأنا لا أدري أين أذهب مع بناتي، فلم أملك وقتها إلا رفع يدي إلى الله سبحانه لأطلب منه أن يجد لي مخرجاً من هذا الوضع الصعب، عندها خطر لي أن أذهب إلى إحدى صديقات المرحومة والدتي، وهي امرأة عجوز تعيش لوحدها، استقبلتني المرأة وأعطتني غرفة لأسكن فيها، ثم اتصلت بأحد أولادها ليتوسط لي كي أحصل على عمل، وبالفعل فقد سخره الله فوظفني كعاملة في إحدى مدارس البنات· استطعت بفضل الله أن أعيل نفسي وبناتي ولا أحتاج لمخلوق أبداً، ولكن هل يتركني أخي وزوجته الشريرة لأعيش بسلام؟ بالطبع لا·· فبمجرد علمه بأنه قد أصبح لدي راتب، صار يطاردني ويحاول أن يأخذ المال مني بأي طريقة، وعندما أرفض كان يضربني ويشتمني أمام الناس، في المدرسة أو في البيت حتى ضاقت بي الدنيا مرة أخرى· اعتذرت لي العجوز وطلبت أن أترك بيتها؛ لأنها امرأة مريضة ولا تتحمل الصدعة والمشاكل التي يسببها أخي باستمرار، وكذلك كان الحال في المدرسة، فقد نصحتني الناظرة بالانتقال بعيداً، إلى مكان لا يعلمه أخي، كي لا يتبعني ويشوه سمعتي أمام الناس، ويتسبب في الإحراج للجميع· استمعت لنصيحتها فأخذت بناتي وانتقلت إلى إمارة بعيدة كي أتخلص من ملاحقة أخي وأذيته، خصوصاً أنني بدأت أتعرض للضغط من زوجي ليأخذ بناتي مني، بحجة أنني سيئة السمعة بسبب ما يقوله أخي عني في كل مكان، فقد تزوج بامرأة أخرى، وهددني بأنه سيصر على أخذ البنات إن طالبته بالنفقة، لذلك اتخذت قراري بأن أبدأ من جديد معتمدة على الله وعلى راتبي البسيط لتربية بناتي وتعليمهن· في ظل كل تلك الظروف الصعبة، نشأت الفتاتان، وقد امتلأ قلباهما بالهم والغم لكل تلك المعاناة التي عاشتاها معي، لذلك فقد تمسكتا بالعلم؛ لأنه السبيل الوحيد الذي سيضمن لهما الحياة بشكل أفضل، حيث يحصلن على وظيفة جيدة وراتب فلا تحتاجان لأحد· كانتا تتألمان لعملي الشاق المتعب وأنا في إعاقتي وكانتا تحلمان بأن تعوضاني كل الخير عن طول معاناتي في حياتي· كل الأحلام الجميلة تبددت عندما أنهت ابنتي الكبرى الثانوية بتقدير ممتاز، وقد كانت تحتاج لجواز السفر وخلاصة القيد من أجل دخول الجامعة، لذلك قررت هي وأختها الذهاب إلى والدهما لاستخراج جواز السفر لهما· التعايش مع الصفر أخذتهما إلى مكان عمله، وانتظرت في الشارع حتى تلتقيا بوالدهما وتشرحا له طلبهما، بعد ساعة من الانتظار، عادت البنتان ودموعهما على خديهما، قالت الكبرى: اشترط علينا والدي أن نتركك ونعيش معه، وإلا فإنه لن يعطينا أي أوراق نحتاجها، فرفضنا ذلك؛ لأننا لن نتخلى عنك مهما كان الثمن، بعد كل تلك المعاناة التي عشناها معك وأنت تتعرضين لكل تلك المواقف الصعبة، بلا ذنب اقترفتِه· عدنا والخيبة تملأ قلبينا بعد أن ضاع الأمل الوحيد الذي كنا نتعلق بأذياله· أنهت البنت الثانية الثانوية وجلست في البيت إلى جانب أختها، فلا جامعة ولا وظيفة من دون الحصول على جواز السفر وخلاصة القيد· بعد مرور السنين وخوفي من العنوسة وافقت على تزويجهن لمن تقدم لطلب يدهن، ويا ليتني لم أفعل، ففي ظل عدم وجود رجل في العائلة يتحول الكل إلى ذئاب لا ترحم، فبعد زواج فاشل دام سنتين عادت الأولى مع طفلين إلى بيتي، لتلحقها الثانية ومعها ثلاثة أطفال· وهكذا بدأت الأمور تسوء من جديد حتى استطعت أن أجد عملاً بسيطاً لكل منهما، فتحولنا ثلاثتنا إلى نساء عاملات بأعمال شاقة لساعات طويلة كي نساير هذه الحياة الصعبة التي فرضتها علينا أنانية والدهن ونكرانه
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©