الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مدن في حقائب الرحالة

مدن في حقائب الرحالة
16 ديسمبر 2009 22:24
كل المدن تمر بالتاريخ، ولكن ليس كل المدن تؤثر فيه، فتجعله شاهداً على ما مرّ من أحداث، وما حصل فيها من تغيرات، وما أبصره المؤرخ بعينيه وخطه بأنامله. مدن انبثقت منها حضارة ومدنية، وأخرى كانت ميداناً للحروب، وغيرها كانت شبحاً عبر مفازة الجغرافيا والتاريخ معاً، فلم تؤثر ولم تتأثر، بينما هناك مدن كانت هي الشاهد الحقيقي على ما حصل في ثنايا العصور وتقلباتها، وأخرى سادت ثم بادت، أما التي صمدت لأزمان طويلة، وظلت محافظة على بريقها فهي بحق أم المدن. دمشق واحدة من هذه المدن العديدة، مرّ بها المؤرخون، عرباً وغربيين ووصفوها بكتبهم، وأجملوا الحكايات حولها، وجمعوا ما سمعوا من قصص تسرد بين جدرانها القديمة وعلى ضفاف أنهارها التاريخية، وتناثر بين صفحات الكتب القديمة وصفها بأساليب علماء وكتّاب ذاك الزمان، وابتداءً من القرن الأول إلى العاشر للهجرة (السابع إلى السادس عشر ميلادي) كتب الرحالة العرب والأجانب عنها، وقد نتساءل: هل أن كل ما يكتب عن مدينة أمر ضروري؟ وما فائدته؟ وهل من الضروري مناقشة التكرار الذي يصل إلى حد أن الرحالة المؤلف المتأخر يعيد ما قاله الرحالة المؤلف المتقدم؟. ذلك ما قدمه الباحث الدكتور أحمد ايبش في كتابه “دمشق في مرآة رحلات القرون الوسطى” في 3 أجزاء أصدرت دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث جزأين منها ضمن إصدارات “سلسلة رواد المشرق العربي” بمناسبة مئوية الشيخ زايد الأول. الأدب الجغرافي مما لاشك فيه أن جهد الباحث السوري الدكتور أحمد ايبش مقدر بسبب ما استنفدت فيه من طاقة امتدت لأكثر من 28 عاماً كما جاء في مقدمة الكتاب الذي ضم نصوصاً لـ70 رحالة عربياً زاروا دمشق عبر عشرة قرون، كما أن الكتاب يستند إلى 200 مرجع مع صور قديمة وخرائط عربية وأجنبية نادرة جداً. وكما هو واضح أن هناك تأكيداً على أن الجغرافيا تمتلك أدبيتها شعراً كان أم نثراً نقله لنا الرحالة العرب، أما الشعر فقد تغنى بالمكان الجغرافي بما يمتلك من صفات وخصائص، وجماليات استثنائية يراها الشاعر دون سواه، أما النثر فقد وصف المكان الجغرافي بما يرقى لأن يكون موازياً للشعر، بيد أن هناك نوعاً ثالثاً من الإنشاء يمكن أن نطلق عليه بالأدب الجغرافي الذي يعنى بتتبع جزئيات المكان وعلاقة هذه الجزئيات بالكل مع توثيق هذا الوصف بالحكايات التي تتنوع بين الوهم أو الخيال والحقيقة. اتخذ الدكتور أحمد ايبش من دمشق مجالاً معرفياً لدراسته هذه التي جمعت بين التحقيقية والتأليفية، أما التأليفية لديه فهي حديثه في مقدمة الكتاب عن “الأدب الجغرافي العربي وأدب الرحلات عند العرب”. يرى الدكتور ايبش أن بدايات تاريخ الارتحال العلمي العربي كانت في القرن الثاني للهجرة مع توسع الفتوحات الإسلامية، حيث شرع الرحالون والمكتشفون العرب بتدوين أحداث رحلاتهم ووقائعها مع أوصاف البلاد والأقوام، فنشأ في القرن الثالث للهجرة في آداب العربية صنف أدبي جديد عُرف بـ”الأدب الجغرافي العربي” حتى تراكمت نصوص هذا الأدب في القرون اللاحقة. أما كيف يمكن تصنيف هذه المؤلفات فهو يندرج ما بين أخبار الرحلات والرواية الشخصية للأحداث والوقائع وبين نصوص الوصف الطبيعي والجغرافي للبلدان والأقطار. ولم تكن الرحلة العربية مقتصرة على الاطلاع والتدوين بل كانت غايتها التجارة فامتزجت بعضها بالسفارة وبعضها بالكتابة الأدبية، التي تكونت لها فائدة في المصادر التاريخية والعمرانية والاجتماعية، هذا بالإضافة إلى سلاسة السرد وتشويق أحداث الرحلة أو وصف العيان، ويعد كتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” للجغرافي العربي الشريف الإدريسي أول نص عربي على الإطلاق في الجغرافيا الوصفية تم طبعه في أوروبا بمطبعة الميديتشي بفلورنسا في عام 1292م. هيكلية المنهج يتهيكل كتاب “دمشق في مرآة القرون الوسطي” على قاعدة المقدمة الموجزة والشاملة والمتن أما المقدمة الموجزة فهي تتبع حال دمشق في عصر صدر العهد الإسلامي “الأموي ومن ثم العباسي والعهد الفاطمي وعهد السلاجقة والأتابكة والعهد الأيوبي وعهد المماليك بشكل سريع وتوصيفي عابر يشمل جميع هذه المراحل وكأنه تلخيص مقدم لمتن متأخر سوف يأتي لاحقاً. هنا نجد أن المقدمة انقسمت إلى قسمين الأول معني بإيجاز الحديث عن العصور من خلال نظرة تاريخية محضة أما الثاني فهو ذات الأول تحت مسمى “النمو العمراني لدمشق في القرون الوسطى” أي أننا نلمس تتبعاً “عمرانياً” يعني بما حصل لدمشق في هذه العصور السالفة الذكر من إنشاءات أو هدم. فتحت دمشق إسلامياً في 14هـ/635م على يدي خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح فأصبحت مدينة عربية إسلامية وتشارك المسلمون والمسيحيون السكن في أزقتها وحواريها. ومع مجيئ العهد الأموي أصبحت دمشق مركزاً للعالم الإسلامي وعاصمة للخلافة، كان معاوية بن أبي سفيان وعبدالملك بن مروان والوليد بن عبدالملك بناة هذه المدينة فشيدوا القصور الهائلة والمزخرفة والمصورة حيث رفلت هذه المدينة بأبدع حلة وأجملها. وجاء العباسيون فتبنوا بغداد في العراق عاصمة لهم فتحولوا عن دمشق فأصيب المد العمراني بالانتكاس بالرغم من أن المهدي ثالث خلفاء بني العباس قد زارها كما زارها الرشيد والمأمون والمعتصم والمتوكل حتى أن المتوكل والواثق قد فكرا بنقل العاصمة إليها من بغداد، كما يرى ايبش، تصديقاً لما قاله البحتري شاعر المتوكل في وصفها: العيش في ليل داريّا إذا بردا والرّاح نمزجها بالراح في بردى ويأتي العهدان السلجوقي والأتابكي في أواخر القرن الخامس الهجري حيث بدأ الانتعاش العمراني في دمشق واستمر هذا الاهتمام في عهد نور الدين محمود بن زنكي الذي حكم دمشق 549-569هـ. وتحولت دمشق في العهد الأيوبي أي في زمن الناصر صلاح الدين الأيوبي في عام 570هـ عقب وفاة نور الدين إلى عاصمة جديدة بديلاً عن القاهرة. ومع مجيء المماليك بعد أن قضوا على الدولة الأيوبية يتوقف الدكتور أحمد ايبش عن البحث والتقصي والتحليل واصفاً الأمر بقوله: “لكن الحديث عن دمشق في عصر المماليك يطول، ويحتاج إلى منهجية خاصة وإفراد وفصل خاص مستقل”، وكأن الباحث والمؤرخ أحمد ايبش قد اكتفى بتتبعه التاريخي تاركاً الأمر للمؤرخين والرحالة العرب لكي يصفوا دمشق في نصوصهم التي بحث عنها وتتبع مصادرها فاستلها من كتب هؤلاء الجغرافيين العرب وسلسلها تاريخياً ضاماً كل ما يتعلق وما كتب عن دمشق حيث أسماه “نصوص الرحالة” الذي يعبر عن منهج واضح هو “الجمع والتحقيق” مشفوعاً بمقدمة عن سيرة حياة ومؤلفات كل رحالة. طرائق الجمع كان الجمع عند أحمد ايبش يعتمد الأقدم فالأحدث، ولذا ابتدأ بأبي عبيد البغدادي الذي توفي 224هـ/ 838م ثم الخوارزمي الذي توفي بعد 232هـ/847م ثم الخليفة المتوكل العباسي (247هـ) ثم ما حكاه الجاحظ (255هـ) حتى الرحالة صاحب الرقم 70 في سلسلة الرحالة العرب. لم يقرأ أحمد ايبش هيكلية هذه الكتابات لكي يقدم لنا النمط أو المنهج الذي يتبعه الرحالة في سرده النثري لما شاهد أو روي أو نقل عن الذي سبقه، ولنأخذ ما رواه ابن الفقيه العمذاني (توفي بعد 290هـ) في سلسلة مرويات أحمد ايبش عن الرحالة العرب. في البدء تعرض الهمذاني إلى تسمية الشام ودمشق فنقل عن الكلبي “دمشق بناها دمشق بن قاني بن مالك بن آرفخشذ بن سام ابن نوح” وهذه رواية. كما نقل عن الأحمصي وعن كعب “لانعرف كنيته أو اسم أبيه” فبدت النقول عشوائية وهذا منهج أغلب النقولات العربية في أدب الرحلة. دور الشعر قال أبو المطاع بن حمدان في وصف دمشق: سقى الله أرض الغوطتين وأهلها فلي بجنوب الغوطتين شجونُ وما ذقت طعم الماء إلا استحفني إلى بردى والنيرين حنينُ وقد كان شكي في الفراق يعوقني فكيف أكون اليوم وهو يقين؟ وقال الصنوبري: صَفَتْ دنيا دمشق لقاطنيها فلست ترى بغير دمشق دنيا تفيض جداول البلود فيها خلال حدائق ينبتن وشيا وقال البحتري: أما دمشق فقد أبدت محاسنها وقد وفّى لك مُطريها بما وعدا اذا أردت ملأت العين من بلدٍ مستحسن وزمان يشبه البلدا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©