السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نهاية الأسرة

نهاية الأسرة
24 أغسطس 2016 18:47
ضمن الأسئلة العديدة التي باتت تداعب عقول علماء الاجتماع في حاضرات أيامنا، تلك المتعلقة بالتكنولوجيا الحديثة، لا سيما المتصلة منها بوسائط التواصل الاجتماعي الأكثر حداثة، في علاقتها مع الأسرة، عربية كانت أم أجنبية، في الشرق أو الغرب، وهل هي علاقة طردية بمعنى أنه كلما ترسخت تلك الأدوات في حياتنا كالإنترنت والهواتف النقالة وأجهزة التلفاز، وما يستجد، زاد ترابط وتماسك الأسرة كبناء هيكلي ونواة أساسية في مجتمعنا، أم أنها علاقة عكسية بمعنى أنه كلما استقرت تلك الأدوات، وهيمنت على مقدرات أفراد الأسرة أصيبت بحالة من التفكك والتفسخ، واعترتها علل اجتماعية وسادتها أمراض نفسية تسهم في تدمير المجتمعات؟ المؤكد قطعاً أن الإنسانية اليوم في مواجهة تغير غير مسبوق، ولهذا فإن نتائجه غير معروفة، ذلك أنه إن كانت هناك من إيجابيات لثورة الاتصالات وتقنياتها الجبارة في جعل الكون قرية صغيرة، إلا أنها أيضاً أفرزت سلبيات، انعكست على مدى متانة وقوة الروابط الأسرية والأواصر المجتمعية بين الناس. ولأن المسألة جد خطيرة، كان من الواجب محاولة تفكيك هذه الإشكالية وقراءة ما ورائياتها، وتحديد أبعادها حتى لا ننجرف مرة وإلى الأبد إلى المجهول، بدون تهوين أو تهويل... ما الأسرة بداية؟ ولماذا هي على هذه الدرجة من الأهمية حتى نخشى عليها كل هذه الخشية؟ الأسرة والمجتمع والخير العام الأسرة بادئ ذي بدء جماعة من الأشخاص، إنها الخلية الصغرى في المجتمع، وهي لذلك، مؤسسة جوهرية لحياة كل مجتمع، وعليه فلا يمكن أبداً التساهل مع أي تهديدات تواجهها، ذلك لأنها تضحى مهدداً عاماً للمجتمع بالضرورة، فالأسرة هي شركة حياة وحب، وعليه فإنها واقع اجتماعي عميق الجذور، وبطريقة فريدة من نوعها. وتشكل الأسرة حيزاً اجتماعياً من الدرجة الأولى، فهي تعبر دائماً عن بعد جديد يعود بالخير على البشر، ولذلك فإنها تخلق مسؤولية جديدة، إنها المسؤولية الواجبة للحيز العام الشخصي، حيث يكمن حيز الإنسان، حيز كل فرد في الجماعة الأسرية، إنه في الواقع خير صعب، لكنه أيضاً خير رائع. ويمكننا القطع بأن الأسرة هي المجال الاجتماعي الأول الذي ينشأ فيه الطفل وينمو ويصبح شاباً، وفي الأسرة تتحقق إنسانية الفرد وتتكشف مواهبه وطاقاته فتظهر أمامه معالم الطريق إلى المستقبل، كما أن الأسرة تغذي أبناءها وبناتها بالحب، وترسم لهم نماذج من الفضائل والأخلاق، وفي الوقت ذاته تسلحهم من خلال الجو الأسري بأسس التفكير والثقافة والتعامل، فالأسرة هي مجال التطبيع الاجتماعي، وراسمة الطريق للمستقبل. والشاهد أن الأسرة أصبحت أهم وظيفة لها في الوقت الحاضر هي القيام بعملية التنشئة الاجتماعية السليمة لأطفالها، فالأٍسرة بحكم تكوينها تحتوي على جيلين يشتركان معاً في معيشة واحدة، فالزوجان يكونان جيلاً سابقاً، والأطفال يكونون جيلاً لاحقاً، والجيل السابق يعلم الجيل اللاحق، وينقل إليه النماذج الحضارية والثقافية المختلفة التي في المجتمع فضلاً عن القيم والسلوكيات. هنا يعن لنا أن نتساءل: «ماذا إذا أصاب العطب هذه المنظومة وأحدث فيها أضراراً وأوقع بسياقاتها اختلالات بنيوية؟ ثم ماذا ستكون ارتدادات مثل هذه الخسائر الفادحة على الأوطان والمجتمعات؟ أخلاق وآداب ما الأصل في وسائط الاتصال الحديثة، والتي هي ثمرة انفجار التكنولوجيا الحديثة؟ هل من المفترض أن تكون أداة للتقارب أم وسيلة وآلية تدفع إلى التباعد؟ تحث على الفضيلة أم تقودنا في طريق الرذيلة؟ تجمع من شمل الأسرة الصغيرة، باضطراد المشهد وصولاً إلى المجتمع والوطن الكبير، أم تهتك نسيجه وتحطمه على صخرة الانعزالية والخيانة؟ المؤكد أنه بإمكان وسائل الإعلام أن ينجم عنها نتائج إيجابية أو سلبية، وغالباً ما يقال إن وسائل الإعلام تصنع «شتاء وصيفاً»، ومع ذلك فهي ليست من القوى الطبيعية العمياء التي لا تخضع للإرادة البشرية، لأنه حتى ولو أن الأعمال الإعلامية تؤدي غالباً إلى عواقب غير متوقعة، فإن الأشخاص يختارون، مع ذلك، استعمال الوسائل الإعلامية لأهداف خيرة أو سيئة، وبطريقة خيرة أو سيئة. هذه الخيارات الحاسمة بالنسبة للمسألة الأخلاقية الأدبية، لا يقوم بها المتلقون من مشاهدين وسامعين وقراء وحسب، بل كذلك أولئك الذين يراقبون وسائل الإعلام الاجتماعية ويقررون هيكلياتها وسياساتها ومضامينها.. ماذا يعني ذلك؟ ربما يعنى أن جزءاً كبيراً من إشكالية العلاقة بين الأسرة الحديثة ووسائط الإعلام والتكنولوجيا والتواصل الحديثة، بل والأكثر حداثة لا تقع على عاتق الأسرة الصغيرة بالمفهوم العددي فقط، بل إنها مسؤولية سابقة ومتقدمة للموظفين الرسميين وكوادر المؤسسات وأعضاء المجالس الإدارية، وأصحاب دور النشر، وقنوات البث، ومديريها ورؤساء هيئات التحرير ومديريها، والمنتجين والمؤلفين والمراسلين وسواهم. وعليه فإن المسألة الأخلاقية والمناقبية بالنسبة لهؤلاء إنما هي مسألة صريحة: هل تستعمل وسائل الإعلام للخير أم للشر؟ لصالح بناء الأسرة أم هدمها؟ الحقيقة التي لا فكاك منها هي أن في مواجهة إيجابيات تلك الوسائل التي ابتكرها الإنسان من تقريب المسافات الجغرافية وتسهيل المهمات الحياتية، تظهر هناك أضرار قاتلة، تسعى إلى شل حركة الجماعة الكبرى للمجتمع، بنفس القدر الذي تصيب به الأسرة الصغيرة، سواء بإيقاعهم بالمحرمات أم بتهميشهم، أم باجتذابهم إلى جماعات منحرفة ومنظمة ذات قيم مضللة وهدامة. كما في إمكان تلك التكنولوجيا الجديدة أن تحيك العداوة والمنازعة من خلال تشويه قيمة الآخرين وبتكوين عقلية الـ«نحن» في مواجهة الـ«هم»، وأن تسلط الأضواء الباهرة على ما هو هابط وسافل، كما بإمكانها أن تثبت معلومات خاطئة ومضللة وأن تشيع الابتذال. إن الأفكار المقبولة المبنية على العرقية والاثنية، وعلى الجنس أو السن، وعلى عوامل أخرى بما فيها الدين، يغلب ذكرها في وسائل الإعلام، وغالباً ما تنسى تلك الآليات الجديدة كل ما هو جديد حقاً وذا شأن من قيم دينية ومنظومات ثقافية واكتشافات علمية، مركزة على ما هو رائج وغريب الأطوار. مخاوف التهتك هل يمكن لنا أن نلقي نظرة عامة على حال الأسرة العربية تحديداً بشكل إجمالي ثم نعمد لاحقاً إلى الوقوف على كل آلية بشكل منفصل؟ بالقطع لا يمكن أن تتشابه الأسرة العربية في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم وما قبلهما مع نظيرتها منذ أواخر الثمانينيات وحتى الساعة، فخلال العقود الثلاثة المنصرمة، جرت حالة من الانفجار المعلوماتي والاتصالاتي والرؤيوي والسمعي معاً. خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر أوقات تناول الطعام طوال اليوم، وقد كانت ذات مرة أفضل فرصة لتمتين أواصر العلاقة بين الآباء والأبناء، بل أكثر من ذلك، فمجتمعاتنا عادة ما عرفت الأسرة الأكبر حيث الأجداد والأبناء والأحفاد يعيشون في منزل واحد، كان كل فرد وقتها هو نواة ومحور اهتمام باقي أفراد العائلة، فمشكلته مشكلة الجميع، أفراحه أفراحهم، وأتراحه أتراحهم، إذا تألم أحدهم، تداعى له باقي العائلة، وسعى إلى تخفيف معاناته. هل من مقاربة ما بين الماضي والحاضر للجواب على السؤال... إلى أين تمضي الأسرة؟ الحال يغني عن السؤال، فالبداية متعثرة، ذلك أنه أمام إشكاليات الحياة المعقدة وأكلافها الاقتصادية الباهظة، بات على أحد الزوجين وربما كلاهما العمل لساعات طويلة تتجاوز أوقات اللقاء الأسري التقليدية على المائدة، وفي المرات النادرة التي يلتئمون فها، لا يضحي الآخر في العائلة هو محط الأنظار، بل التلفاز، ولاحقاً الفضائيات هي المتحدث، وعلى الأسرة أن تتلقى دون حديث داخلي، أو حوار بيني بناء، أو حتى نقاش جدلي خلافي هادئ خلاق يهدف إلى بلورة رؤية مشتركة ما، وكأن القاسم المشترك الأعظم قد غاب عن ناظري الأسرة، ومعه يضيع الحس المشترك، والتعاطف الإنساني. هل كانت أجهزة التلفاز ولاحقاً الفضائيات الموجهة أداة من أدوات الاختراق الإعلامي للمنظومات القيمية للأسرة العربية، تلك التي كانت وعبر عقود وأجيال تجمع وتنظم تفاعلاتها في نسق اجتماعي وديني، ثقافي وأخلاقي واحد ومتميز، وعوضاً عنه أشاعت الفوضي على ساحتها، بحيث أصبحت الأسرة تقوم على الحد الأدنى من تلك المنظومة التراثية، لصالح قيم مغايرة، غربية أو شرقية، تحمل مضامين ومرجعيات حدها الأعلى منحرف عن تراثنا العربي الكريم وقيمنا الدينية الأثيرة عبر الأزمان؟ التلفزة الوطنية والفضائيات لم يعرف عالمنا العربي الطريق إلى أجهزة التلفاز ونشوء وارتقاء ما يعرف بـ«تلفزيونات الدولة»، إلا مع نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، ما يعنى أن هناك ثلاثة عقود مضت، قبل أن نرى انتشار ما يعرف بعالم الفضائيات. غير أن الفارق في التأثير بين المشهدين وتبعاته واسع جداً وعريض، ففي حال التلفزة الوطنية، كان العالم العربي محموماً ومهموماً بقضايا التحرر الوطني، وتحرير الأرض المحتلة في فلسطين، عطفاً على أن نجوم برامجه في ذلك الوقت البعيد نسبياً كانوا من نوعية الرجال العظام أدباً وفكراً، ثقافة وسياسة، اقتصاداً وديناً، ولذا كانت الفرص التي تجتمع فيها الأسرة من حول التلفاز وقتاً ممتعاً للاستزادة من المعرفة الإيجابية الخلاقة لا العكس. في ذلك الوقت اعتبر التليفزيون من عوامل توحيد الأفكار والمشاعر بين الناس، يوحد من عاداتهم وتقاليدهم وأنماط سلوكهم وقيمهم لأن الآلاف منهم يشاهدون المؤثرات نفسها، فهو يساعد على تحقيق وحدة الفكر والمعايير والثقافة والأذواق الجمالية، وهو بذلك كان أداة من أدوات التثقيف وتكوين الذوق الفني والحضاري... هل استمر الوضع على هذا النحو لاحقاً؟ بالقطع اختلف المشهد طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً، ومساحة إجمالية، فالبداية من الفضائيات العربية، والتي باتت تهتم بتقديم ما يشاغل العقلية الاستهلاكية حتى في الأفكار وليس في السلع والمنتجات وحسب، هذه جعلت من اهتمامات الأسرة تتدنى من القضايا المصيرية الوطنية، لتنقلها إلى سياقات التسطيح تارة والانبطاح تارة أخرى، بل إن بعض أفراد الأسرة الواحدة ينقسمون حول قضايا وهمية لا مسائل جذرية تبنى المجتمعات، وتهيئ الأجيال القادمة للصراعات التي تتخفى وراء الأبواب. وعلى جانب آخر بدأت الفضائيات الأجنبية، غربية أو شرقية تعمل بدورها على اختراق العقلية الأسرية العربية، فالمادة التي تبثها تؤثر تأثيراً واضحاً على الأطفال والمراهقين، تأثيراً يصل إلى درجة التقليد الوهمي الأعمى، وفي هذا كارثة مزدوجة، هددت ولا تزال الأسرة العربية إذ جرى الفرز الأسري هنا في طريقين... ماذا عن ذلك؟ أما عن الأول فيمضي في طريق شق «النسيج الاجتماعي» الأسرى، عبر وجود نسق فكرى واجتماعي، ثقافي وروحي جديد، مغاير، وغالباً يعاكس الموروث الأسرى الأخلاقي السائد، نسق مقلد غير مبدع موسيقياً وحركياً، درامياً ونقدياً، استشرافياً وتراثياً، وهذا هو الذي يخلق الحاجز بين الأجيال، ويفقد أواصر العلاقات الأسرية وقدرتها على مواجهة تحديات العصر، وباختصار القول إنه يبث روح التفريق عوضاً عن الوحدة. الطريق الثاني، خطير جداً في مفهومه ومضمونه، ذلك أنه أمام حالة الغزو الثقافي والأفكار التي تطير بأجنحة عبر الأثير، ولا تسعى عبر المركبات العسكرية أو الصواريخ المحمولة جواً، يجد البعض أن الرجوع إلى الخلف كثيراً جداً هو الحل، والاحتماء بالتراث السلفي هو الطريق، وليته كان اقتداء إيجابياً أو خلاقاً لفكر السلف الصالح، لكنه يسعى إلى التشدد والتعصب اللذين يقودان إلى العنف، كطريق للضعيف في مواجهة القوي، فكرياً وحضارياً، صناعياً وعسكرياً، وكم من أسر في واقع الحال وجدت أنفسها أمام واحد أو أكثر من أبنائها قد سعى مسعى متطرفاً وراء جماعات ظلامية بعينها... هل كانت الفضائيات هي نهاية المطاف أم بداية رحلة جديدة من رحلات التكنولوجيا الحديثة وتأثيراتها السلبية على استقرار الأسرة العربية في الحال والاستقبال؟ عبادة الإنترنت هل يشكل ظهور الإنترنت استهدافاً خاصاً للأسرة؟ يمكن القول بداية إن الإنترنت هو آخر وأحدث أدوات ووسائل الاتصال، والتي أحدثت ثورة فاقت ملايين المرات ما قبلها من أدوات معرفية، لا سيما إذا أخذنا في عين الاعتبار كل تجليات الإنترنت المعروفة حتى الساعة من الفيس بوك والإيميلات والإنستجرام ومشتقاتها، عطفاً على ما يستجد من أمور، فقد استطاع الإنترنت إلغاء الحواجز التي كان الزمان والمكان قد وضعها في سبيل الاتصال، ولذلك يبقى تأثيره عظيماً على الأفراد والدول وجماعة الأمم. يعن لنا أيضاً أن نتساءل ما تأثير الإنترنت على العلاقات الأسرية والشخصية داخل المجتمع؟ الثابت أن الإنترنت يؤثر على جميع أنواع العلاقات لأنه يمكن أن يحجب الطابع الشخصي للتواصل، فيسهل على الناس تجنب الكثير من المجاملات التي يقتضيها التواصل الاجتماعي بين الناس. ويمكننا أن نرى ذلك بسهولة في كثير من الحالات، فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن للمرء أن يتذكر الأعياد الدينية في عالمنا العربي وأنساقها الاجتماعية، وطقوسها الحياتية، فقد كان الديدن في الربوع العربية والإسلامية أن الناس بعد صلاة العيد باكراً تسعى إلى بعضها بعضاً مهنئة بالعيد السعيد، مع ما كان لذلك من مردود إيجابي على تقوية العلاقة الإنسانية بين الأسر والأفراد، الأقارب والغرباء، كان المشهد يعني زيادة بوتقة الصهر غير القابلة للكسر من قوتها ومتانتها التي بنيت على أسس من الصخر، لا الرمل... ماذا فعل الإنترنت إذن؟ قبل الإنترنت اكتفى الناس بالاتصال الهاتفي، وعندها كانت تضيع المسحة البصرية في الأمر، ولم تكن أسلاك الهواتف ولا شك تحمل دفء العلاقات الشخصية، غير أن الصوت قطعاً كان يترك بعضاً من الآثار النفسية الإيجابية بدرجة أو بأخرى. هذا الوضع تبدل وتغير بالكلية مع ظهور الإنترنت، فبسبب فاعليته في إيصال الرسائل، بات الكثيرون يفضلون استبدال الاتصال الهاتفي بالإيميلات أو البريد الإلكتروني السريع أو ببطاقة عبر الإنترنت أو برسالة عبر الهاتف المحمول، وساعتها يبقى مستوى الاتصال والتواصل الإنساني أقرب ما يكون إلى نقطة الصفر... هل هذا الأمر يهدد بالفعل بإشكالية خطيرة في العلاقات الإنسانية؟ هذا سيحدث حكماً في المراحل الشبابية القادمة، تلك الأجيال التي لم تختبر دفء المحبة في العلاقات الأسرية والإنسانية، ذلك لأنهم سيكونون قد نشؤوا على استخدام الإنترنت، وسيكون الأمر بالنسبة لهم هو القاعدة، والتلاقي البشري والأخوي هو الاستثناء... إلى أين تقودنا التكنولوجيا الحدثية... إلى فقر العزلة وفلسفة الانعزال؟ أم إلى العودة إلى رحابة صدر الأسرة المفتوح للجميع الصغير والكبير، القريب والغريب، دون تفريق؟ عزلة اختيارية ضمن التبعات الخطيرة التي تفت في جسد الأسر، وفي عالمنا العربي خاصة، تلك المتعلقة بالمراهقين وكيفية التعاطي معهم بعد أن صار العالم الافتراضي ملاذاً لهم، ما يعني المزيد من الهرب والانفصام عن الواقع واللجوء إلى بدائل حجرية لا بشرية. كيف يمكن لنا أن نقدم مقاربة حقيقية لحال الأسرة قبل الإنترنت وبعد في حياة المراهقين؟ قبل ظهور الإنترنت كان المراهقون يقضون أمسياتهم على خط الهاتف، وقد كانوا يعتبرون البيت مكاناً للراحة واستجماع القوى، يلجأون إليه في وقت متأخر من الليل بعد أن ينهكهم «التخالط الاجتماعي» خارج المنزل. وكان الأهل يقلقون عليهم من كل ذلك ويصابون بكثير من الخيبات فيما يخص سلوك أولادهم. أما الآن فيتمنى بعض الأهل لو كان الأمر ما يزال على تلك البساطة... لماذا؟ في أيامنا هذه، يقضي الكثير من المراهقين وقتاً طويلاً على خط الإنترنت، فيتحادثون عبر «الشات» مع أصدقائهم في المدرسة والجامعة، وهذا النوع من التواصل سهل بالنسبة لهم، فهو سريع جداً ومتوافر دائماً بحيث لا يبذلون أي جهد أثناء التواصل، ولهذا لا يتعلمون منه مهارات اجتماعية كافية. هنا يتساءل علماء النفس والاجتماع عن الإشكالية التي ستصيب هؤلاء غداة أن يضحوا شباباً مقبلاً على الزواج وتكوين الأسر، فكيف لهم أن يتعلموا فنون التعرف الراقي والأخلاقي على الجنس الآخر وهم لا يتواصلون مع البشر وجهاً لوجه؟ المشكلة الحقيقية هي أن هؤلاء المراهقين يظنون أنهم يتعلمون تلك المهارات من خلال التواصل عبر النت، ويعتبرون أنهم ليسوا معزولين اجتماعياً، ويشعرون بالرضى لأنهم محاطون بعد كبير من الأصدقاء على خط «النت» ويعيشون «حياة اجتماعية نشطة». لكن الحقيقة هي أن كثيراً من هؤلاء المراهقين يخدعون أنفسهم إذ يظنون بأنهم غير معزولين اجتماعياً، لأنهم معزولون بالفعل، فالتواصل مع الآخرين «وجهاً لوجه» يختلف كثيراً عن التواصل معهم عبر شاشة الكمبيوتر. التواصل «وجهاً لوجه» أصعب بكثير ويحتاج إلى مهارات اجتماعية أكثر بكثير مما يحتاجه التواصل عبر الشاشة، والجهد الذي يبذلونه عندما يتواصلون مع الآخرين مباشرة يصب دائماً في مصلحتهم. الإدمان الجديد هل بات على الأسرة ونحن في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أن تواجه نوعاً جديداً ومراً من أنواع الإدمان؟ القصة يمكن أن تبدأ من حدود «غرفة الدردشة»، أحد أخطر إفرازات تكنولوجيا الإنترنت الحديثة، وهي بلا شك آلية مدمرة للعلاقات الأسرية الواحدة، وتقود حتماً إلى العزلة الاجتماعية، انطلاقاً من عدم حاجة الفرد إلى بشر حقيقين من حوله. تطورت غرف الدردشة لاحقاً إلى مجموعات «الفيس بوك»، وهذه بدورها عززت من مخاطر «الفردية»، اختصاماً من الحياة «الجماعية»، وما بين المشهدين ترسخ للمراقبين أننا إزاء «إدمان الإنترنت»، إنه نوع جديد من الإدمان، وهو مثل أي إدمان آخر، يبدأ بتناول جرعات بسيطة، ثم يتزايد الاحتياج، ثم تصبح الجرعات أمراً ضرورياً في حياة الشخص، وفي حالة إدمان الإنترنت تزداد الحاجة إلى قضاء المزيد من الوقت أمام الكمبيوتر، حتى يمكن للفرد أن يحصل على المتعة نفسها التي كان يحصل عليها بقضاء فترات قليلة في البداية، فهل من فارق بين إدمان الإنترنت والاستعمال العادي له؟ المؤكد أن أستخدام النت بشكل عادي لا يؤثر سلبياً على الأسرة، وترابطها، فكلنا نهتم يومياً بفتح بريدنا الإلكتروني والبحث عماً نريد على الشبكة الدولية، وقراءة الأخبار بطريقة ربما تكون أسهل من تصفح الجرائد الورقية، ولكننا نعرف بالضبط ما نريد أن نحصل عليه، ونقضي الوقت المناسب الذي لا يتعارض مع التزامات حياتنا الأخرى. أما إدمان الإنترنت فهو حالة من «الضياع اللاإرادي» دون أن يعني الفرد ما يريده بالضبط، ودون أن يراعي التوازن بين أنشطة حياته، ودون أن يعني قيمة الوقت، وجميعها تختصم من أي علاقة أسرية ناجحة. تداعيات الخيانة الأسرية هنا نلفت الأنظار إلى بعض الحقائق وفي مقدمتها أن إدمان المشاهدة الجنسية التي تتوافر بكثرة على شبكة الإنترنت أمر خطير يؤدي إلى الانشغال الزائد بالجنس، الأمر الذي يصرف الفرد عن الاهتمام بالدخول في علاقة اجتماعية راقية مع الجنس الآخر تقود إلى ارتباط زوجي وأسري سليم، هذا في حالة غير المتزوجين من العزاب، وفي حال المتزوجين فإن الأمر سيكون ولا شك أشد صعوبة، فإدمان المشاهد الجنسية يخرج الفرد من الواقع إلى الخيال، ويقوده إلى مقاربات غير واقعية بين ما يراه عبر الشاشات سواء فضائيات أو كمبيوتر، وبين حياته الزوجية، والتي تعلو كرامتها حدود التمثيل الأعمى والمنبوذ لما يراه، وينسى أو يتناسى كل من الزوجين أو أحدهما، أن ما يراه ليس إلا صناعة سيئة السمعة وتجارة غير نظيفة هدفها الربح غير الحلال في البداية والنهاية. هذا الإدمان وللأسف الشديد روج للخيانة الزوجية في عصورنا الحديثة ترويجاً ربما لم تعرفه روما وأثينا في عصورهما الوثنية، فالخيانة اقتحمت المنازل عبر التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها دون أي استئذان، وقد تحدث الخيانة – وغالباً ما يجري ذلك – في وجود الزوجين أو أحدهما في المنزل ودون الحاجة إلى مغادرته وارتكاب الفحشاء في نطاق جغرافي بعيد، فالأمر لا يحتاج إلى أكثر من «كبسة زر» أو «ضغط فأرة» لتفتح أبواب الشر والرذيلة. الإشكالية هنا ليست عربية أو غربية، إنها مهدد كوسمولوجي، وهذا ما أظهرته دراسه جديدة لمؤسسة «مؤشر الإنترنت العالمي» جرت في شهر مايو آيار المنصرم، في لندن، والتي أشارت إلى أن «الخيانة هي العنوان الصارخ للعلاقات التي تتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة على الإنترنت». «هل أعطى الإنترنت للخيانة أجنحة جديدة»؟ هذا كان عنوان لصحيفة اللوموند الفرنسية، التي اعتبرت هذا الاختراع أداة لزلزلة كيان الأسرة، حتى وإن كان مفهوم الحياة الزوجية موجود ومعروف في مختلف مجتمعات العالم منذ زمن بعيد ويأخذ أشكالاً وصوراً مختلفة، إلا أن انتشار وسائل الاتصال الحديثة، مثل الفيس بوك وتويتر وواتساب وسكايب، وغيرها من الوسائل، ساهمت من وجهة نظر الكثيرين في تفشي الظاهرة، نظراً لأن البعض يرى في تلك الوسائل تسهيلاً لإقامة علاقات عبر هذه المواقع بين الجنسين.. فما النتيجة المباشرة؟ قطعاً النتيجة تفاقم الخلافات الزوجية، ثم حدوث الطلاق، ثم تكرار التجربة الخاطئة من جديد، وبذلك يضيع تماسك الأسرة وتلاحمها ضياعاً مؤكداً ومعها يفقد الأبناء الثقة في الغد، وفى البناء الأسري لاسيما إذا وقفوا على ناصية الأزمة ومسبباتها، والمحاكم حول العالم تعج بملايين الدعاوى في هذا الإطار. تقليص الحرية الشخصية تحتاج القضية التي نحن بشأنها إلى أبحاث مطولة ودراسات معمقة، واستفاضة متأنية لما لها من أهمية وحساسية وخطورة على المجتمعات البشرية، كما أن هناك العديد من النقاط القائمة بذاتها مثل الأطفال في الأسرة الحديثة، واقترابهم من تلك الآليات وخطورة أن ينشأ من حولنا «رجال آليون» لا «بشر حقيقيين». غير أنه يبقى قبل الانصراف علامة الاستفهام التالية: هل التكنولوجيا الحديثة بكل أطيافها في نهاية الأمر نعمة مطلقة أم نقمة كاملة؟ هناك لا شك جوانب إيجابية للتكنولوجيا الحديثة، لا يستطيع أحد إنكارها، وهذه لها رؤيتها الخاصة، ونحن هنا كنا نلفت الأنظار للمساوئ، لكن في جميع الأحوال يمكننا القول إن البلبلة القائمة اليوم في عالم الاتصال تقتضي لا ثورة تقنية فحسب، بل إعادة صياغة كاملة للوسائل التي بها تدرك البشرية العالم المحيط بها، وتتحقق من هذا الإدراك وتعبر عنه، فوضع الصور والآراء في متناول الجميع ونقلها السريع من قارة إلى قارة له نتائج إيجابية وسلبية في آن على النمو السيكولوجي والأخلاقي والاجتماعي على الأسرة وعلى المجتمع دفعة واحدة، وعلى التبادل بين الثقافات، وعلى إدراك القيم ونقلها، وعلى الأفكار العالمية والفلسفات والقناعات الدينية. على أن الحقيقة المؤكدة بالمطلق اليوم هي أن التكنولوجيا الحديثة، لاسيما تكنولوجيا الإعلام والاتصال تحقق إنجازات جديدة ومتقدمة ومنتظمة إلى جانب قدرة عظيمة في مجال الخير والشر، وبعيداً عما تتمتع به تلك التكنولوجيا من قدرة هائلة، فإنها لا تعدو كونها وسائل إعلام وحسب، أي أدوات قد تكون في خدمة الخير أو الشر، ويعود ذلك إلى اختيارنا نحن. لا تتطلب وسائل الإعلام والتكنولوجيا الجديدة مناقبية جديدة، تلك مهمة يعود لكل منا أن يضطلع بدور معين فيها، وعلى الجميع اختيار مستقبل أسرته عبر إرادة حرة في زمن العولمة التي تسعى لتقليص الحرية الشخصية لصالح الاستبداد الماورائي للفعلة والحكام الخفيين لهذا العالم، وهذا حديث آخر. الإدمان البصري هناك قضية قائمة بذاتها تحتاج ربما إلى قراءة مفصلة لاحقاً، وتتصل بأحد أخطر أنواع الإدمان التي تقود إلى مهدد كبير وخطير بالنسبة للأسرة، ونعني بهذا المهدد، إدمان المشاهد الجنسية والأفلام الإباحية (البورنوجرافي)، فالآن وأكثر من أي وقت مضى صار توافر المواد الجنسية الإباحية أمراً في منتهى السهولة، حتى أن من الصعب مراقبته أو التحكم به من أجهزة الدول، بعد أن امتلأت شبكة الإنترنت بكل أنماط الإثارة الجنسية، وبأشكال من العلاقات الجنسية، سواء الطبيعي منها أو الشاذ، وهناك أبحاث عديدة أثبتت أن مشاهدة الصور الإباحية أدت بالكثيرين إلى إدمان الجنس من خلال النظر، وهي حالة إدمانية يطلق عليها تعبير الإدمان البصري. أزواج جواسيس لا يفوتنا الإشارة إلى جزئية مهمة هي نتاج مباشر للانفلات الأخلاقي الذي يمكن أن تحدثه آليات المعلومات والتواصل الحديثة، وغالباً ما يسبق مرحلة الانفصال، وهي أن الابتكارات الجديدة عينها، تجعل من الزوجين جواسيس يعيشون تحت سقف واحد، فالكثير من أدوات التجسس متوافرة في الأسواق، ويمكن زرعها في المنازل أو أجهزة الهاتف، ما يعني أن الشكوك تتكاثر وتتوالد، من وراء رسالة على الهاتف، أو صورة عبر الفيس بوك، وهذه هي الضريبة القاسية للاستخدام غير المنظم أو المرتب أخلاقياً وإنسانياً للتكنولوجيا الحديثة، والتي باتت نقمة لا نعمة، سيما أن جدارات الخصوصية قد سقطت وكل شيء معلوماتياً أصبح مباحاً ومستباحاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©