الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنطولوجيا العراء المكسيكي

أنطولوجيا العراء المكسيكي
17 أغسطس 2016 20:42
إسماعيل غزالي تقرّ الأوروغوائية «أوكسيليو لاكوتور» بصفتها ساردة، أنّ نص تعويذة للكاتب الشيلي روبرتو بولانيو سيكون حكاية بوليسية، قصة رعب وجريمة وفق توصيفها، دون أن تبدو كذلك. تطلق على نفسها نعوتا شتّى أبرزها: صديقة كل المكسيكيين/ أمّ الشعر المكسيكي/ تشارّو أي هندية أصلية.. إلخ. يمتنع عليها تذكر السنة التي حلت فيها بمكسيكو مرجّحة ثلاثة تواريخ دون يقين (1962/ 1965/ 1967)، ولا كيف جاءتها ولأيّ هدف، فالشيء الوحيد الذي تدركه أنها منذ جاءت المكسيك لم تغادرها أبداً. لاذتْ بقدرها اللعين، وطرقتْ باب شاعرين إسبانيين يقيمان في العاصمة هما: «ليون فيليبي» و«بدرو غارفياس»، مقترحة نفسها عليهما ككنّاسة غبار، فيما كانا يصرفانها عن ذلك بذريعة أن الغبار يتوافق دائماً مع الأدب. هنا أدركت أوكسليو الباحثة عن ظلّ المعاني بأنّ الغبار جزء من الكتب، ولن ينفع كنس شيء جوهري وأبدي. هاوية في مزهرية بعد قصة الغبار والكتب سيتضح أن أوكسليو غريبة الأطوار، إذ يسترعي انتباهها شيء لافت استحوذ على إغوائها ويقظتها: المزهرية. هذه التي تجعلها تجهش بالبكاء، وتتوجس في تلّمس حافتها الشبيهة بفوهة بركان، ثمة جحيم يربض في قعر المزهرية، كوابيس وألم وفقدان... فيها دائماً ما يكتنزه سؤالها اللاذع: أيدري الشعراء ما يربض في فوهة مزهرياتهم التي بلا قاع؟. حتى التنزه في غابة «تشابولتبيك» لا يستطيع أن ينسيها المزهرية وحزن الشاعرين اللذين تطوعت لتنظيف بيتهما دون أجر، فكانت الخدمة مجانية، والمقابل هو أن تجاور حزنهما وكتبهما ومزهريتيهما لا غير، فأهدياها تماثيل وكتباً فقدتها فيما بعد، كتب وتماثيل صارت جزءاً من هواء مكسيكو العاصمة بل رمادها. عبر هذيانها المستطرد تفصح أوكسليو عن شخصيتها المجنونة كشاعرة، متفرغة للتسكع في ميكسيكو، دائمة التأهب للتطوع في أعمال موازية، كارتياد كلية الفلسفة والآداب لتساعد في كتابة محاضرات البروفيسور «غارثيا ليسكانو» على الآلة الكاتبة، أو تترجم نصوصاً من الفرنسية، وأحياناً تتعاقد معها أقسام الكلية لشهر أو أسبوع في وظائف متبخرة... إلخ. وهكذا قيّض لها أن تتعرف على شعراء المكسيك الذين أقرضوها دواوينهم، حتى صارت عالمة بكل مآسيهم، وظلتْ تلازمهم في هذر سهراتهم وتقرأ كتاباتهم وتعلّق وتعقّب عليهم بكلمات لا تنتهي، بل تعطي مواعظ للمبتدئين، وتستمتع بواقع المكسيك أنّى فاجأها بحادثة بشعة كانتحار «لوبث أثكاراتي» مثلاً، كما فاجأها بشيء أبشع من ذلك هو فقدانها لأسنانها في أحداث الهجوم العسكري على الكلية، حيث كانت تقرأ للشاعر «بدرو غارفياس»، فهي تدمن عادة القراءة في الحمامات هذه التي تعتبرها كابوسها الأثير. من داخل غيبوبة المرحاض الذي يعادل برج مراقبة لها، سفينة لرصد كل الأزمنة، ستتذكر فيه صديقتها المولعة بالمسرح إلينا وعشقها للإيطالي باولو الذي كان ينتظر فيزا لكي يجري حواراً مع فيديل كاسترو في كوبا، وبعدها تختفي إلينا العرجاء وتقفل أوكسليو راجعة إلى بوهيميتها مع شعراء المكسيك، إذ تتعرف إلى شاعرها الأثير، شاب يدعى أرتوريتو بيلانو، وأرتوريتو بيلانو هو الشخصية الشعرية التي يضعها الكاتب روبرتو بولانيو كمعادل سردي له في كل كتاباته، فهو شاعر من تشيلي محسوب على الجيل الجديد من الشعر المكسيكي (جيل خارج مباشرة من الجرح المفتوح لـ «تلاتيلوكو» مثل نمل أو جنادب أو قيح) ص 67. جيل تفجر بشكل طارئ وكارثي (لم يكن ليفهمهم أحد، كانت أصواتهم التي لا نسمعها تقول: لسنا من هذا الجزء من العاصمة، نحن قادمون من المترو، من الأعماق السحيقة للعاصمة، من شبكة المجاري، نحيا فيما هو أشد حلكة وقذارة، هناك حيث ما كان لأشد الشعراء الشبان خبثا إلا أن يتقيأ) ص 68. تستطرد أمّ الشعر المكسيكي في حكايات متعاقبة، تتموج في إيقاع هذياني، كأنها تحكي من داخل غيبوبة ما. حكايات ما أن تسترسل وتمتدّ حتى تنكشف دوامتها فيما يشبه دواراً، هو دوار الساردة التي تعاني من اختلال في ذاكرتها، خاصة حين يستقرّ القمر في المحاق، مثل عنكبوت في مرحاض السيدات: حكاية عن التحولات الثقافية الصارخة ذات الجروح النرجسية، بكل انزياحاتها الاجتماعية والسيكولوجية، وكذلك حكاية عن الرسامة ريميديوس فادرو والشاعرة ليليان سيرباس وزوجها كوفين وابنها الرسام كارلوس كوفين سيرباس... الخ، إلى أن تنتهي الحكايات جميعها في اتجاه واحد، هو العراء المكسيكي، في قعر الوادي، حيث الهاوية التي ينجرف إليها أطفال أمريكا اللاتينية، وهم يلهجون بأغنية عن الحرب، أنشودة بالأحرى عن بطولة جيل من شباب أمريكا اللاتينية تمت التضحية بهم. مذبحة تراوح الرواية مكانها في الحادثة المأساوية لمذبحة حي تلاتيلولكو، حين داهمت القوات الحكومية ميدان الثقافات الثلاث بالعاصمة المكسيكية ضد المتظاهرين السلميين من الطلبة والمدنيين وقتلت أكثر من ألف شخص مع جرح الآلاف واعتقال الكثير... وترصد عبر شخصيتها المركزية «أوكسيليو» المضاعفات الوخيمة لهذه المذبحة على جيلها والجيل اللاحق، فلا ينزاح عن بال أوكسيليو لحظة وجودها بالمرحاض لحظة وقوع الكارثة. اللحظة الشبيهة بثقب أسود في وعيها، هو نفسه الثقب الأسود في وعي شعراء جيلها. تستغور الرواية مدينة مكسيكو المتاهية وتعرّيها بحذاقة، ترسم خرائبها وكوابيسها، تضيء شرورها وتفجّر مناطق بشاعتها، وجمالها الصادم أيضاً... إنها ميكسيكو بتخييل شعري، تحكي زمنها السري امرأة على حافة الجنون، مسكونة بصاعقة مذبحة 1968. عن حُفر مكسيكو إذاً ومراياها المفزعة، عن أنطولوجيا الشعر المكسيكي وتحولاته الصارخة، عن مآلات الفن والرسم والموسيقى والكتابة، عن الجنون والهلوسة داخل الحلم والسرنمة والضياع الفادح، عن الهاوية التي انتهى إليها شباب أمريكا اللاتينية... تتشابك وجوه الرواية وتتشظى مرايا النص، والخيط المضطرب وحده تمسك به الأروغوائية القادمة من مونتفيديو، الساردة التي تغويها الحركة اللاهبة لجماعات الشعر في مكسيكو أواسط الستينيات القرن الماضي وبداية السبعينيات، كأنها عرّابة الخرائط الشعرية الطليعية التي عاشت في صلب زخمها الفوار. إنها حكاية رعب فعلاً، غير أن بلاغتها البوليسية غير محبوكة بمنطق الأدب الأسود المعروفة، فالجريمة هنا إنسانية، وليست خاضعة لقوانين الإثارة السائدة. جريمة في حق جيل بأكمله، مكشوفة وعارية، وأثرها الصاعق على وعي شخوصها غائر كهاوية بلا قرار، مثل هاوية المزهرية التي كانت أوكسليو تفزع من ملامستها، وتستغرب لحجم الغبار الذي ينام في حفرتها... الغبار الذي آلت إليه حياتها كشاعرة عاشت صخب المرحلة الطليعية لجماعات الشعر المكسيكي بالطول والعرض، الشيء الذي جعل منها أُمّا لهذا الشعر، بل أما لكل المكسيكيين بالأحرى. ....................................... * روبرتو بولانيو، تعويذة، ترجمة: أحمد إحسان، دار التنوير، لبنان، 2012. جروح الشعراء الراوية حكاية عن التحولات الثقافية الصارخة ذات الجروح النرجسية، بكل انزياحاتها الاجتماعية والسيكولوجية، وكذلك حكاية عن الرسامة ريميديوس فادرو والشاعرة ليليان سيرباس وزوجها كوفين وابنها الرسام كارلوس كوفين سيرباس... إلخ، إلى أن تنتهي الحكايات جميعها في اتجاه واحد، في قعر الوادي، حيث الهاوية التي ينجرف إليها أطفال أميركا اللاتينية، وهم يلهجون بأغنية عن الحرب، أنشودة بالأحرى عن بطولة جيل من شباب أميركا اللاتينية تمت التضحية بهم. اشتباك السرد بالشعر تعويذة روبرتو بولانيو، نصّ متعدد وهلامي يتمثل في النزعة السردية التي ابتكرها الشاعر المكسيكي سانتياغو، والشهيرة بـ« ما بعد الواقعية السحرية». فالحضور القوي لسيرته الذاتية دامغ عبر استقصائه النوستالجي لمناخ جيل صدمة 1968، والتوظيف الاستعاري لشخصيته البديلة «أرتورو بيلانو» يعزز هذا التخييل الذاتي لأطوار محتدمة من حياة بوهيميته في مكسيكو، فضلاً عن اشتباك السرد بالشعر واستمزاج اليومي بأسلوب التوثيق الصحفي، مع نزوع تجريبي مؤسس على حبكات دوارة، وتكرار غير مجاني تتنامى به وتيرة الحكي وتتغدى به الوحدات السردية المتناسلة، بالإضافة إلى تداخل الأسطوري والواقعي دونما استناد إلى نية الخرق أو الانحياز إلى السحري المنبوذ هنا. وجه أسلوبيّ آخر بارز في رواية تعويذة، هو سفرها كنص داخل كتابات الآخرين وتجاربهم، إذ تصنع من روايات وقصائد ولوحات، مداخل ومخارج في متاهة حكيها، كما تصنع من أسماء الكتاب والشعراء علامات لتخييل يموج به المتن السردي ويزحزح المعاني إلى حدود قصوى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©