الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مشهدية الجحيم

مشهدية الجحيم
17 أغسطس 2016 20:28
العادل خضر كانت مسألة الصُّورة تطرح دوماً، بألفاظ المعارك والحرب، فأولئك الذين يدمِّرون الأوثان لأنَّها علامة على هرطقة وكفر، أو أولئك الذين يصنعون الصُّور المرئيَّة لتمثيل المعنى اللامرئي، هم جميعاً عند الفيلسوفة ماري جوزي موندزان Marie-José Mondzain محاربون (تجارة النَّظرات، ص141). يوجد العنف في كلِّ مكان بأسلحته المختلفة وجنوده واستراتيجيَّاته، وتؤكِّد عبارة «حرب الصُّور»، التي ابتدعها سارج غروزنسكي Serge Gruzinski، أنَّ الصُّورة اليوم قد أضحت موضعاً من مواضع العنف الكثيرة، وينبغي هاهنا أن نفرِّق بين العنف الذي يعصف بالصُّورة فينفيها ويشوِّهها، أو يدمِّرها ويفنيها، والعنف الذي ينبع من الصُّورة بما هي موضع خلاق للخلاف والفتن. يشهد على العنف الأوَّل التَّاريخ الطّويل الّذي تعرّضت له الصّورة في أزمنة وثقافات مختلفة من قبل أعداء الصّورة iconophobes ونُفَاتها iconoclastes. أمّا العنف الثّاني فقادحه الأوّل هو الصّورة. وخير مثال على ذلك الصّور الكاريكاتوريّة الّتي نشرتها الصّحيفة الدّنماركيّة (جيلاندس بوسطن Jyllands-Posten ) لأوّل مرّة في 30 سبتمبر 2005 على أنّها صور تمثّل نبيّ الإسلام. فالأحداث الّتي تلت نشر تلك الصّور تشهد على أنّ العنف المتنامي ككرة الثّلج مع الأيّام كاد يعيد تقسيم الفضاء الجيوسياسيّ بمقولات قديمة هي: دار الإسلام ودار الحرب، ولكنّه يؤكّد من ناحية أخرى أنّ «حرب الصّور» إنّما هو مسرح من المسارح الكثيرة الّتي يدور فيها اليوم ما يسمّيه صمويل هنتنغتون بـ«صدام الحضارات». فمن التّأثيرات الجانبيّة لهذه الصّور الكاريكاتوريّة أنّها أحيت تلك المقولات الجيوسياسيّة القديمة (دار الإسلام ? ودار الحرب) في ثوب جديد، فأعادت بناء المجال السّياسي الحديث بتسميات جديدة كعالم الغرب وعالم الشّرق (في أدبيّات الاستشراق)، أو الغرب والإسلام (في تقسيم هنتنغتون للحضارات). وقد عرفت تونس خلال حكم التّرويكا (الّذي جمع ثلاثة أحزاب تونسيّة هي: «النّهضة» و«المؤتمر» و«التّكتّل» (2011-2014) النّوعين من العنف: تجلّى النّوع الأوّل من العنف المسلّط على الصّورة، والأيقونة بصفة عامّة، في موجة حرق أضرحة الأولياء الصّالحين بوصفها أنصاباً ورموزاً من الشّرك. أمّا العنف الثّاني فقد جسّمته سلسلة من الأحداث ارتبطت في الظّاهر على نحو وثيق بمسألة المقدّسات، ولكنّها في حقيقة الأمر كانت معبّرة عن ظهور وجه جديد من الرّقابة اتّخذت من حرّيّة التّعبير ذريعة لتقييد حرّيّة الاعتقاد. بدأ مسلسل هذه الأحداث مع فيلم نادية الفاني «العلمانيّة إن شاء الله»، ثمّ تجدّد مع شريط «برسيبوليس» أو «بلاد فارس» للمؤلفة والمخرجة الإيرانية مرجان ساترابي. وقد أثار هذا الفيلم بعد بثّه على قناة نسمة يوم 15 أكتوبر 2011 ردود فعل متفاوتة العنف. ولم تتوقّف دورة العنف، فقد استأنفت مرّة أخرى في تونس، في إحدى ضواحيها بأحداث العبدليّة (بالمرسى) في جوان 2012. فقد تجمّع يوم الأحد 10 جوان 2012 عشرات الأشخاص المحسوبين على التّيّار السّلفي أمام قصر العبدليّة بالمرسى للاحتجاج على عرض عدد من اللّوحات برواق «ربيع الفنون» اعتبرت مسيئة للدّين الإسلامي ومنافية للأخلاق. إنّ ما يجمع بين جميع هذه الأحداث والوقائع المتفرّقة في المكان والزّمان هو الصّورة وردود الفعل العنيفة الّتي تجسّمت في الاعتداءات المادّيّة والرّمزيّة على من صنع الصّورة أو من اقتصر دوره على بثّها وترويجها. فهذه الرّدود على تفاوت عنفها تمثّل في حدّ ذاتها قرائن على أزمة عميقة أطلقت عليها أسماء مختلفة من قبيل: «مقدّسات» و«خطوط حمراء» و«هوية» البلاد العربيّة الإسلاميّة، و«قيم» الحداثة و«حرّية» تعبير، وغير ذلك من الأسماء الّتي تحاول تسمية الأزمة وتفسيرها في آن واحد. من هذه التّفسيرات ما يربط الأزمة بالعقد الاجتماعي المرتبط أساساً بالمقدّس. ففي الأزمنة الحديثة لم يعد يوكل شأن رسم حدود المقدّس إلى وحي السّماء بما ينزّل على البشر في الكتب المقدّسة من تعاليم، وما يسطّره لهم في الألواح من قوانين، ذلك أنّ رسم حدود المقدّس قد أصبح شأناً بشريّاً، شأنه في ذلك شأن العقد الاجتماعي الّذي تولّى إبرام عقوده وعهوده ومواثيقه البشر، وكلّ من يعيش في المجتمع وداخل المجتمع. فوضعوا القوانين وسنّوا الدساتير بأنفسهم بطرق مختلفة، دون أن يستنزلوها من السّماء، أو يستوردوها من السّلف الصّالح. وعندما تتعرّض البلاد إلى أزمة عميقة، فمعنى ذلك أنّ هذا الرّابط الّذي يشدّ الجسد الاجتماعي كالبنيان المرصوص قد ارتجّ وتشقّق وتهافت، وهو آيل إلى السقوط إن لم يرمّم أو يعاد بناؤه. وعندما يصاب هذا الرّابط تظهر قرائن كثيرة تشير إلى وجود أزمة، وتقول لنا: إنّ شيئاً ما مقدّساً قد لُمِس وانْتُهك حتّى لا نقول جُرح. فمن تعاريف المقدّس الشّائعة هو «ما لا يلمس»، ومن تعاريفه الدّقيقة أنّه «المنفصل»، أي هو ذاك الّذي بعمليّة الفصل قد انسحب من استعمال النّاس، وابتعد عن فضاء الاستعمال العامّ. إنّ ما تحاول المجتمعات فصله حتّى لا يُلمس هو هذا الّذي انسحب من حياة النّاس بطرق شتّى كتنزيهه بعدم تجسيمه في صورة، أو استحضاره بتجسيمه في صورة. وكلّما لُمس هذا المقدّس أو انتهك اندلعت حرب عنيفة تسمّى «حرب الصّور». والمشكل اليوم أنّ المقدّس قد صار معرّضاً أكثر من أيّ وقت مضى للانتهاك المستمرّ في المجتمعات الحديثة. ويجري هذا الانتهاك اليوم بالصّورة الّتي لا تعترف بالمقدّس. وهي لا تعترف به عندما تجسّمه، كأن تجسّم الذّات الإلهيّة أو شخص الرّسول في الصّور الكاريكاتوريّة، أو حياة بعض الأنبياء في المسلسلات التّلفزيونيّة، وهي حين تجسّم المقدّس المنفصل عن الاستعمال البشريّ إنّما تعيده إلى الدّائرة البشريّة في شكل لا يوافق تصوّر المقدّس عند حرّاس المقدسات باختلاف فصائلهم وأطيافهم. كلّ هذه الصّور على اختلاف منطلقاتها ودوافعها الأيديولوجيّة والفنّيّة والنّفسيّة تنتهك المقدّس، لا لأنّها لا تعترف به فحسب، ولكن لأنّ طبيعة الصّورة، خاصّة الّتي جعلت المقدّس موضوعها، منخرطة بالضّرورة في حرب هي «حرب الصّور»، فالصّورة اليوم قد أضحت موضعاً من مواضع العنف الكثيرة، وليس تدميرها أو صيانتها سوى مظهر آخر من «حرب صور»، رهانها الأكبر هو الاستحواذ على مونوبول المرئيّ، والصّور الّتي تمثّله وتبنيه. بيد أنّنا لاحظنا، في تونس على الأقلّ، منذ افتتاح دورة الاغتيالات، باغتيال الشّهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، وذبح الجنود، وتقتيل السّوّاح في متحف باردو ونزل بسوسة، وتفجير حافلة الأمن الرّئاسي بالعاصمة، أنّ العنف قد اتّخذ شكلاً جديداً صرنا نسمّيه دون تردّد «الإرهاب»، وهو شكل جديد من العنف لم يعد مجاله فضاء الرّقابة القديم، فضاء حرّية التّعبير والتّفكير والاعتقاد، وإنّما مسرح الواقع، وبتغيّر مجال العنف من الرّمزيّ إلى الواقعيّ تغيّرت معه وسائل تمثيله وتخييله أيضاً، فلم يعد العنف موجّهاً، كما بالأمس، لتدمير الصّورة أو منعها ونفيها، ولا نابعاً من الصّورة في شكل اعتداء على المقدّس، للاستحواذ على مونوبول المرئي واللاّمرئيّ، وإنّما أصبحت الصّورة في حدّ ذاتها وسيلة من وسائل الإرهاب، بل هي جزء لا يتجّزّأ من لوجستيك الإرهاب، وأخطر شأناً وتأثيراً من الأسلحة ذاتها. وحين تستعمل الصّورة ضمن لوجستيك الإرهاب فإنّ «حرب الصّور» قد تغيّرت ملامحها تماماً، وأضحت تحتاج إلى تحليل من نوع خاصّ لفهم الظّاهرة بوسائل جديدة. صحراء الواقع في مساء الهجوم على مركز التّجارة العالمي والبنتاغون، ألقى الرّئيس جورج بوش الابن بالتّصريح التّالي في خطابه الموجّه إلى الأميركيّين بقوله: «اليوم، تعرّض مواطنونا، تعرّض أسلوب حياتنا، تعرّضت حرّياتنا بالذّات للهجوم في سلسلة من الأعمال الإرهابيّة المدروسة والقاتلة. الضّحايا كانوا في الطّائرات، أو في مكاتبهم، كانوا موظّفين، سكرتيرات، رجال ونساء أعمال، عاملين في مؤسّسات عسكريّة، وفي أجهزة اتّحاديّة، كانوا أمّهات وآباء، أصدقاء وجيراناً. فجأة تمّ وضع حدّ لحياة الآلاف من النّاس جرّاء أعمال إرهابيّة، شرّيرة حقيرة. إنّ صور الطّائرات المقتحمة للمباني، صور الحرائق المتصاعدة، وصور المباني العملاقة المتداعية، ملأتنا ذهولاً وعدم تصديق، حزناً مرعباً، وغضباً هادئاً لا يعرف معنى الاستسلام. جاءت أفعال القتل الجماعي مدبّرة ومقصودة لزرع الرّعب في قلوب أبناء أمّتنا ودفعهم إلى متاهات الفوضى ومخازي التّقهقر والارتداد، غير أنّهم أخفقوا، فبلدنا قويّ». (طلال أسد، عن التّفجيرات الانتحارية، ص. 35-36). يصوّر هذا الخطاب سمات نوع جديد من الإرهاب لا يمكن أن توجد أسباب وجوده خارج هذه الوضعيّة الإعلاميّة الديجيتاليّة، وهي من أسباب وجود «الإرهابيّ» أو «الأصوليّ المسلم الانتحاريّ»، كما يسمّيه الفيلسوف والمحلّل النّفسي السّلوفيني تجيتجاك جيجيك في كتابه «مرحباً بكم في صحراء الواقع»، فخارج كلّ مشهد لا يكون لموت «الإرهابيّ» أيّ وقع أو تأثير، لأنّ مفهوم الشّهادة بدوره قد تغيّر برمّته وعلى نحو جذريّ في هذا العالم الدّيجيتالي، فالانتحاريّ لا ينقلب بمجرّد موته إلى شهيد، فهو في حاجة إلى شاهد يشهد عليه ويشاهد موته، ويحوّل ذلك الموت إلى مشهد فظيع كارثيّ. وهذا الارتباط الجديد بين الموت ومشهد الموت، بين الإرهاب ووسائل الإعلام، هو الّذي يصنع من الإرهاب ظاهرة مروّعة عنيفة تنافس في سوق الصّورة والإخبار، نشرة الأحوال الجوّيّة وبرامج النّساء وأخبار البورصة والرّياضة. فقد فهم واضعو القنابل أنّ سادة القنوات والشّبكات الإعلاميّة لا يمكنهم أن يصنعوا كلّ الأحداث داخل الاستديوهات المغلقة، وأنّهم سيظلّون أسرى الأحداث الآتية من الخارج، وأنّ الأحداث الّتي يصنعونها هي أشدّ الأحداث المطلوبة، والأكثر إقبالاً عليها لأنّهم يهيمنون عمليّاً على قطاع العنف الواقعيّ، فكلّ اعتداء بضاعة تُشترى. وكلّما كان العنف بلا حدود في شراسته وقساوته كانت المكافأة الإعلاميّة عالية باهظة الثّمن (بيتر زلوترداك، قصر الكريستال، ص259). إنّ هذا الارتباط الضّروريّ بين الإرهاب والإعلام لا تقتضيه الحاجة إلى ترويض العنف بالصّورة، ولا تحويل كارثة الإرهاب إلى مجرّد مشاهد تلفزيّة مبثوثة من أجل الاستهلاك اليوميّ والتّطهير الفرديّ من انفعالات الهلع فحسب، وإنّما تفرضه الحرب الحديثة بوصفها حرباً بالسّلاح والصّورة في آن واحد. وعندما يرتبط الإرهاب والصّورة على نحو وثيق، فتضحي جزءاً من اللّوجستيك الحربيّ، يصبح الإرهاب مجرّد تسميّة ملطّفة لظاهرة كونيّة اسمها «الحرب». وإن كان ينبغي أن نتساءل عن نوع هذه الحرب: أهي حرب أهليّة تدور رحاها في بلد واحد (كتونس، أو ليبيا، أو مصر، أو اليمن، أو سوريا)، أم هي حرب عالميّة لأنّها تستهدف كلّ النّاس في كلّ أصقاع المعمورة، أم هي امتداد للثّورة بوسائل حربيّة، فإنّ هذه الحرب الجديدة على اختلاف أنواعها ليست ممكنة إلاّ بـ«حرب صور» تلازمها، لأنّها من بعض مستلزماتها. السّينما والحرب يذكّرنا بول فيريليو Paul Virilio في كتابه «السّينما والحرب» بأنّ معارك الثّوّار أو هجمات التّنظيمات الإرهابيّة المختلفة كان يعتمد فيها الثّائرون والإرهابيّون بمختلف انتماءاتهم الأيديولوجيّة على الاغتيالات والتفجيرات والجرائم والتّعذيب من أجل غايات الإشهار الدّعائيّة، فقد كانوا يخلّفون لوسائل الإعلام صور ضحاياهم، مؤكّدين بصنيعهم ذاك أنّ الفعل الحربيّ قد عاد إلى أصوله القديمة حيث يجري التّأثير العصبيّ في الإدراك بطرق مختلفة كمشاهد الحرق والاحتضار والتّعذيب. فالإرهاب يذكّرنا بأنّ الحرب كارثة ينقلب فيها «حقّ الحياة» إلى «حقّ الموت». ولأجل ذلك لا يمكنها أن تنفصل عن المشهد السّحريّ لأنّ إنتاج هذا المشهد الفظيع أو ذاك هو هدف كلّ حرب، فالقضاء على العدوّ لا يقتصر على أسره، بل على سحره، بجعله يشعر قبل موته بفظاعة الموت الّتي لا تحتمل. ففي كلّ أطوار تاريخ المعارك ينجم رجل الحرب كميكيافال من قبل وتشرشل من بعد ليذكّرنا بأنّ قوّة الأسلحة ليست قوّة فظّة همجيّة بل هي قوّة روحانيّة. ذلك أنّه لا توجد حرب دون تمثيل، (أي عُدَّة أو لوجستيك يُستخدم لتمثيلها وتوثيقها وأرشفتها، كالصّورة...) ولا أسلحة متطوّرة دون تأثير نفسيّ. فليست الأسلحة وسائل تدمير بل هي أيضاً أدوات إدراك، أي أدوات مثيرة للانفعالات الحادّة، لأنّها ذات وقع عنيف من شأنها أن تربك عمل أعضاء الحواسّ ونشاط الجهاز العصبيّ المركزيّ. في هذا المقام ينبغي أن نذكّر بأنّ هذا التّأثيرَ متغيّرُ الوَقْعِ في تاريخ المعارك كلّما تجدّد «لوجستيك الإدراك» logistique de la perception حسب عبارة بول فيريليو Paul Virilio البديعة، ولقد تغيّرت وسائل إحداث هذا الوقع منذ أن أصبح استعمال التّقنيات السّينمائيّة آلياً شائعاً في كلّ النّزاعات الّتي جدّت خلال القرن العشرين، وهو استعمال قد فرضته الحاجيات الاستراتيجيّة والتّكتيكيّة، ففي الحرب العالميّة الأولى تطوّر استخدام المقاطع الفيلميّة الجويّة على نحو كثيف، إذ بفضلها أمكن للقيادات الحربيّة على عين المكان أن تعيد تمثيل المعركة وترتيب وقائعها في ساحة مضطربة باستمرار. وباستعمال الفوتوغرافيا العسكريّة وفيديو حراسة ساحة الحرب ثمّ الرّادارات والأقمار الصّناعيّة فيما بعد، حدث تغيّر بالغ الدّلالة في طرائق تحقيق الأهداف تمثّل في اعتماد الجيوش على الصّورة بدل أشياء الواقع، وتمثيل الأحداث وتصويرها بدل عرض الوقائع، بحيث أضحى التّزوّد من الصّور يعادل تزويد الجيش بالعتاد. وقد دشّنت حرب 1914 نظام الأسلحة الجديد المتكوّن من خليط يجمع في آن واحد وسيلة المعركة والكاميرا، وهو نظام قد استبدل فيه «مسرح العمليات» théâtre d’opération بـ«سلاح المسرح» l’arme de théâtre. ورغم أنّ لفظ المسرح قد أصبح مبتذلاً، فإنّ استمرار استعماله في الخطاب العسكريّ يعكس انقلاباً في الأوضاع الحربيّة، ذلك أنّ تاريخ المعارك إنّما هو في المقام الأوّل تاريخ انقلاب في حقول الإدراك. ولعلّ آخر الانقلابات في حقل الإدراك هو تلك الصّور الفظيعة الّتي ما فتئت تنظيمات الإرهاب الإسلامويّة الأصوليّة المختلفة تتفنّن في صناعتها، فحينما تغرق شبكات التّواصل الاجتماعي وصفحات الفيسبوك الكثيرة بأفلام الّذبح وصور الرّؤوس المقطوعة والإعدامات الجماعيّة والفرديّة العلنيّة والحرق والتّفجيرات والجرائم فينبغي أن نعلم أنّنا دون شكّ في خضمّ حرب ضروس هي «حرب صور» جديدة. ومظهر جدّتها أنّ غايتها القصوى لا تكمن في الاستحواذ على المجال المرئيّ. فبعد أن أصبح فنّ التّصوير نشاطا يوميّاً يمارسه كلّ فرد كطقس مقدّس أصبحت الهيمنة على الصّورة أمراً مستحيلاً، فقد صار بإمكان كلّ فرد أن ينتج صوره الخاصّة، ولم يعد يحتاج إلى وساطة من يصوّره وعونه. هذه الحرّيّة المفرطة في التّصوير وإنتاج الصّور قد استغلّتها التّنظيمات الإرهابيّة اليوم لإنتاج حالة من الهلع القصوى تفوق في تأثيرها العنيف أفلام الرّعب، فهذا النّوع من الأفلام الّتي ينتجها الغرب يهدف إلى حماية الإنسان الغربيّ من هذا اللّقاء الواقعيّ بالأحداث الصّادمة الّتي تبعث على الخوف، فتعمد إلى تعويض الخوف الأصليّ بخوف ثانويّ يمكن العثور عليه في أروقة الفنون والملاهي والمسارح وقاعات السّينما، حيث يتمّ التّخويف بإنتاج الخوف بواسطة تمثيله. فالحدث الصّادم له سمات «الفظيع» الّذي لا يطاق ولا يحتمل. ووقع الحدث الصّادم الّذي لا يحتمل هو ما يرفض الغرب مثوله وحضوره بوصفه تهديداً مادّيّاً للحياة اليوميّة، ولذلك لا يريد مواجهته إلاّ في التّمثيل، أي في الخياليّ، بواسطة الفنون (كأفلام الرّعب) والملاهي والألعاب، حيث يجد فيها المستهلك أو المتفرّج ما يثير من الانفعالات أشدّها قرباً من الخوف الأصليّ، إذ لا أحد يرغب في خوف حقيقيّ ماثل في الواقع. فالذّات الغربيّة هي الذّات الّتي تطرد الخوف وتقصيه بمنع مثوله وحضوره في أرض الواقع، ولكنّها تسترجعه على صعيد التّمثيل، في شاشات السّينما والقنوات التّلفزيّة ومسارح الخيال. ولذلك حين ينبثق الحدث العنيف دون وساطة كما حدث في فرنسا في حادثة شارلي هبدوCharlie Hebdo أو هجمات باريس الإرهابيّة في 13 نوفمبر 2015، فإنّه يُحدث بالضّرورة وقعاً عنيفاً صادماً من أسمائه الشّائعة اليوم «الإرهاب». وهي تسمية للخوف الغربيّ من هذا الّذي ينجم من الفراغ ليفجّر الحدث الرّهيب. وهو الحدث المرتقب الّذي ما فتئت وسائل الإعلام المرئيّة تحاول ترويضه بالصّورة. وهذا الارتباط الجديد بين الحدث الرّهيب وصورة الحدث المرعب، وبين الحدث العنيف ووسائل الإعلام المرئيّ خاصّة هو الّذي جعل من الإرهاب ظاهرة مشهديّة في مجتمع الفرجة. وقد تحقّق ذلك بتحويل الهلع الأصليّ النّاجم من الحدث إلى خوف ثانويّ قد تولّت الصّورة صناعته. الصورة سلاح يمكن أن نتساءل الآن: لِمَ أصبحت الصّورة سلاحاً يستخدمه الإرهابيّ مثلما يستعمل الأحزمة النّاسفة لصناعة الإرهاب؟ إذا جاز لنا أن نتصرّف في قول بودريار Baudrillard لقلنا إنّ الصّورة قد صارت «موضع كارثة لا موضع أزمة»، فالصّورة الّتي يبثّها الإرهاب على شبكات التّواصل الاجتماعي لم يعد من الممكن منعها أو مراقبتها ولا حتّى مقاومتها. فهي بكلّ بساطة تدشّن زمناً سيّاسيّاً جديداً، سمّاه بودريار زمن الشّفافيّة السّياسية أو السّياسة الشّفّافة transpolitique الّتي تحوّل كلّ النّاس إلى رهائن بالقوّة، أي إلى مواضيع غير قابلة للمبادلة لأنّها بلا قيمة وبلا سعر وبلا فائدة. فهي من أجل ذلك فريدة ومقدّسة، فالمقدّس مثلما ذكرنا يفصلنا ويجعلنا خارج دورة الاستعمال، وفي حيازة قوّة لا تتورّع من التّخلّص منه. إنّ صور الرّهائن المذبوحين أو المقتولين، أو المنسوفين، إنّما هي صور بشر قد تحوّلوا فجأة إلى كائنات زائدة على الحاجة. هذا التّحوّل الصّادم هو الّذي تبذله لنا صور الإرهاب وتعرضها علينا دون حياء ولا حرج لا لتنذرنا بقدوم القيامة، وإنّما لتزجّ بنا في قلب الكارثة. إذا استحضرنا لفظ الكارثة «catastrophe» فإنّه يعني في أصله الإغريقي جولة (stroph?) إلى الأسفل (kat?). إنّ ما تدعونا إليه هذه الصّور هو بكلّ بساطة جولة في العالم السّفليّ. هناك نشاهد أفق الإنسانيّة الأخير حيث يفقد البشر نهائيّاً بشريّتهم، في عالم قد فَقَدَ منذ أمد طويل روحه. حرب صور الصّورة، خاصّة الّتي جعلت المقدّس موضوعها، منخرطة بالضّرورة في حرب هي «حرب الصّور». فالصّورة اليوم قد أضحت موضعاً من مواضع العنف الكثيرة. وليس تدميرها أو صيانتها سوى مظهر آخر من «حرب صور»، رهانها الأكبر هو الاستحواذ على مونوبول المرئيّ، والصّور الّتي تمثّله وتبنيه. عتاد الجيوش باستعمال الفوتوغرافيا العسكريّة وفيديو حراسة ساحة الحرب ثمّ الرّادارات والأقمار الصّناعيّة فيما بعد، حدث تغيّر بالغ الدّلالة في طرائق تحقيق الأهداف تمثّل في اعتماد الجيوش على الصّورة بدل أشياء الواقع، بحيث أضحى التّزوّد من الصّور يعادل تزويد الجيش بالعتاد. جولة في العالم السفلي إذا استحضرنا لفظ الكارثة «catastrophe» فإنّه يعني في أصله الإغريقي جولة (stroph?) إلى الأسفل (kat?). إنّ ما تدعونا إليه هذه الصّور هو بكلّ بساطة جولة في العالم السّفليّ. هناك نشاهد أفق الإنسانيّة الأخير، حيث يفقد البشر نهائيّاً بشريّتهم، في عالم قد فَقَدَ روحه منذ أمد طويل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©