الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمد فريد أبوسعدة: أسرتنا ذهنية الاختصار والتوحيد

محمد فريد أبوسعدة: أسرتنا ذهنية الاختصار والتوحيد
19 ابريل 2012
تشكل تجربة الشاعر محمد فريد أبوسعدة واحدة من التجارب الشعرية المهمة التي نسجت خصوصيتها بدءا بديوان “السفر إلى منابت الأنهار” عام 1985 وانتهاء بـ”أنا صرت غيري”، لتقدم رؤية مغايرة سواء في الأعمال التفعيلية أو قصيدة النثر. أبوسعدة نال جائزة الثقافة 1969 وجائزة الدولة التشجيعية 1993، ومن دواوينه “وردة للطواسين”، “الغزالة تقفز في النار”، “وردة القيظ”، “ذاكرة الوعل”، كما أن له مسرحيين شعريتين “حيوانات الليل”، “عندما ترتفع الهارمونيكا”. ويعمل مديراً للنشر الثقافي بدار المعارف، كما عمل بالإخراج الصحفي، وعضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة. في ما يلي حوار معه حول تجربته الشعرية، ومواقفه من مجريات الواقع: ? تجربتك الممتدة على مدار أكثر من ثلاثين عاما كيف بدأت وفي أي أجواء ولدت؟ ? في الثامنة تقريبا، كانت “السبع بنات”، ـ الحي الذي نسكن فيها ـ حيّا أرستقراطيا، نظيفا وهادئا، وفى ورديات خروج العمال الثلاثة، من الشركة القريبة، تعبره الألوف ـ إلى أنفاق السكة الحديد، التي تصل الحي بباقي أحياء المحلة ـ راكبين الدراجات إلى قراهم البعيدة، هذه المشاهد اليومية بالإضافة إلى مشهد خروج تلاميذ مدرسة الفرير، ويحملهم العربجية إلى الحناطير كما لو كانوا بهشاشة غزل البنات! بالإضافة إلى مشهد خروج راهبات السبع بنات، في عيد مريم السنوي، يحملن شموعا ويمضين ضارعات: كيرياليسون!. كانت هذه المشاهد تنحت في وجداني أثر الواقع الأول، وتساهم في تكوين وعي الصبي الذي كنتُ، بالتناقضات التي تبطن هذا الواقع. في هذا البيت كانت أمي “ترتب” لشيخ يأتي كل أسبوع ليقرأ القرآن، وفيه بدأت القراءة في الكتب القليلة التي وجدتها، أعداد قليلة من سلسلة “كتاب الشعب” كانت هي مائدتي الأولى. كنت أحب الرسم، واشتهرت بين عائلتي وزملاء المدرسة بـ”الرّسيم”، وكان أساتذتي يحتفون بي، لأنني أرسم لهم ما يطلبونه لتزيين حوائط الفصول، عرفت مبكرا الولع بالبنات، حيث كانت العائلة تجتمع كل جمعة عند جدتي أم أبي، التي خصص لها حجرة في البيت، وكنّ يتنافسن في محبتي، أنا ابن سيد العائلة! في العاشرة عرفت مكتبة البلدية، فأصبحت الإجازات المدرسية دواما لي في المكتبة، قرأت ديوان شوقي ورامي وروايات السباعي وإحسان عبد القدوس. طريق البدايات ? البدايات الأولى للطريق للشعر؟ ? في عام 1963 تعرفت على المنسي قنديل عندما تهدمت مدرسته وجاء، إلى مدرستي “فترة ثانية” وفي نفس العام تعرفت على صديقه جار النبي الحلو، وفي صيف 1964 كان قد أصبح لنا مكانا أثيرا لتبادل الكتب وخوض المناقشات في شادر خشب يمتلكه محمد رجب، كنت شغوفا بالفلسفة الوجودية سارتر ـ سيمون دي بوفوار ـ كامي، وكنت أقرأ أعمالهم المتوافرة بحماس شديد، ومشغوفا بالمسرح حتى أنني كنت أحتال للذهاب إلى القاهرة ـ وكان معي المنسي قنديل ـ لنرى “الفتى مهران” و”ليلة مصرع جيفارا” و”حلاق بغداد” وغيرها الكثير مما لا أذكره الآن. كنا نستخدم كارنيهات الغير لاستعمال القطار، ونقيم عند عم المنسي في شبرا، لقد كان اكتشاف إمكانية الذهاب إلى القاهرة بكارنيه آخر من أهم وأمتع الأشياء!. فقد اكتشفت دار الكتب وخلال ثلاثة أو أربعة أيام كنت أجلس الساعات الطويلة أقرأ نازك الملائكة والبياتي والسياب وصلاح عبد الصبور ونزار قباني وحجازي وأملأ كشاكيلي بقصائدهم، وأشعر أنني ضئيل جدا. ? وماذا عن رؤيتك ومفهومك للشعر اللذين شكلان تجربتك فيما بعد؟ ? كنت مشغولاً، حتى أوائل السبعينيات، بهذه “التقدمية” التي تخايل كل القصائد، بالرغم من تباين كتابها من الناحية السياسية وتراوحهم بين أقصى اليمين وأقصى اليسار!، وأتصور أن العمل السياسي، الذي كان يقوده بعض النقاد الماركسيين، ساعد على تكريس هذه الوصفة لأنها تستجيب أكثر من غيرها بضرورات النقد والتحريض، وشكلت الواقعية الاشتراكية بكل التباساتها قناعات معظم المبدعين، وبشكل أكثر انضباطا أمثالنا من المنخرطين في العمل السياسي، فكان علينا أن نثمن جوركي بأعلى من تشيكوف، وناظم حكمت بأكثر من ت. س. اليوت، وبريخت بأكثر من أرثر ميللر، وأحمد فؤاد نجم بأكثر من أدونيس. وبدأت أفكر على هذا النحو: إذا كنا جميعا نقول الشيء نفسه تقريبا، مسايرة للناصرية، أو مناهضة لها فالأهمية إذن لم تعد في القول وإنما في كيفية القول!. وفى إطار هذه المراجعات الحارقة رحت أتأمل فهمي للشعر، فحصت من جديد أسئلة الشعر، سؤال اللغة، سؤال الإيقاع، سؤال التراث، سؤال البنية. وارتحت إلى اعتباره صيغة تجمع بين المجاز والموسيقى، المجاز باعتباره تشكيلا في المكان، والموسيقى باعتبارها تشكيلا في الزمان يتعدى معيارية الإيقاع، أما الصيغة التي تمزج بين هذه التشكيلات وتجعل منها كلاً واحداً أكثر من مجموع عناصره فهي البنية كما أراها. مواقف ومؤثرات ? هل ثمة مواقف أو تأثيرات كان لها انعكاسات على تجربتك؟ ? كنت طوال تجربتي أشبه بمن يقشر لحاءات الشجرة، لحاء بعد آخر، راغباً في الوصول إلى اللب، حيث النسغ الحقيقي للشعر. وهناك حدثان مهمان في تجربتي منذ أواسط السبعينيات، الأول هو القفزة المدهشة في تجربة محمود درويش، والثاني ما حدث في كامب ديفيد، لقد ساهما هذا بشكل شعري وهذا بشكل سياسي في التوقف وإعادة النظر من جديد. وأثناء إقامتي في جدة لمدة خمس سنوات شغلتني التجربة الصوفية مما كان له أكبر الأثر على تطور إحساسي بالإيقاع، كنت مأخوذا بما في كتابات النفري والحلاج وابن عربي والبسطامي والسهرودي والتوحيدي من إيقاع غريب، مدهش، إيقاع لا يتلمس تحققه بالانضباط ولا يفعل فعله السحري بالجهارة والتكرار، وتساءلت كيف يمكن استدراج هذا الزخم التراثي إلى بنية الشعر الحديثة في إطار مغلف برؤية تشكيلية. ? البعد الصوفي في تجربتك يصل إلى أعمق من ذلك برأيي؟ ? صحيح فهو بعد له علاقة بطفولتي، حيث كانت جدتي لأبي تفتح لي، في سمر الليالي البعيدة، صرة الحكايات الغريبة عن الخوارق وكرامات الأولياء، وبقدر ما كانت مشوقة وتمتلئ بالمفاجآت، بقدر ما كانت تقدم لي صورة للإنسان الكامل، صورة يصبح فيها الإنسان قادرا على الطبيعة، متجاوزا لشروط الضرورة، سابحا في أفق خالص من الحرية (...). مجريات ومتغيرات ? كيف ترى لتأثير ثورة 25 يناير والمتغيرات المترتبة عليها عامة وعلى رؤيتك الفكرية والإبداعية؟ ? استطاعت ثورة 25 يناير أن تكسر ثقافة الخوف، لقد نزل “حزب الكنبة” الممثل للأغلبية الصامتة ـ الذي كان يتابع الأحداث عبر شاشات التليفزيون ـ إلى الشارع ليصنع بنفسه الأحداث! إن كسر الصمت، واعتداد كل فرد بصوته، وبكونه مصريا، يستحق حياة أفضل مما أرغم عليها، كما كان نقلة فارقة في الوعي السياسي للمصريين، إلا أنه من فرط هذا الاعتداد ظهرت سلبيات عدم الثقة بالآخر، فلم تستطع الثورة أن تشكل عقلا واحدا يدير معاركه مع فلول النظام. لست خائفا، وعلى المبدع أن يدافع عن قناعاته الجمالية، كما يدافع الآن بدمه عن قناعاته السياسية، كسرُ الخوف الذي منحَ الجميعَ الحرية في أن يعلنوا ويدافعوا عن آرائهم ـ بمن فيهم الذين اضطهدوا طويلا أو استعملوا كفزاعة للغرب ـ لا ينبغي أن نسمح لهم أن يصبحوا فزاعة لنا نحن المبدعين المخالفين لقناعاتهم أو رؤاهم السياسية أو الجمالية. لقد عشنا قبل الثورة ثقافة مأزومة، عنقود من الأزمات، مثلا أزمة عدم قبول الآخر، كل فريق يتصور نفسه الفرقة الناجية، ثم لا يكتفي بالارتياح إلى كونه على الحق أو الصواب، بل يسعى إلى قهرك على أن ترى ما يراه، وتفعل ما يريدك أن تفعل. هناك أيضا ثقافة الشائعة التي تفشت مع تهاون الناس في القراءة الجادة، فأصبحت الكثرة تعرف أخبار الشخص ولا تعرف عن إبداعه، تعرف فلان طبعا ماذا قرأت له يهرش في رأسه محرجا. هناك أيضا ثقافة الثنائيات، ففي الشعر هناك المتنبي وأبو تمام، شوقي وحافظ، صلاح عبد الصبور وحجازي، أمل وعفيفي، فلان وفلان وهكذا، إنها ذهنية الاختصار والتوحيد التي لا تقبل بالتعدد، كان الخوف هو ما يكرس هذه الأزمات، جاءت الثورة كاسرة هذا الخوف، ومتيحة فضاء هائلا لإعادة النظر في كل شيء، ولعل بعض الارتباك كان ناتجا من التعدد المفاجئ بعد عقود من التنميط الفكري، لقد بدأ عصر جديد، بدأ وسوف يستمر، وأن ثقافة جديدة تقبل بالآخر، وتؤمن بعدم احتكار طرف من الأطراف للحقيقة، ولا تعمل على تنميط الفكر بإزاحة المخالف، أو تقليص الغنى الثقافي والإبداعي عبر اعتبارها فرض كفاية وليس فرض عين، أنا متفائل – رغم الصعوبات – بأن مصر جديدة وقوية، ستنهض كالفينيق من رمادها. ? لكن ألا يقلقك صعود تيارات الإسلام السياسي؟ ? إن هذا الصعود يعود ـ في ما أرى ـ إلى فساد الحكم خلال أربعين عاما، أي منذ تصفية المشروع القومي الناصري، والتحالف مع خصوم هذا المشروع في الغرب وفى المنطقة العربية، الأمر الذي أدى إلى بيع القطاع العام، وتبني الاقتصاد الحرّ في مرحلته المتوحشة، وسيطرة رأس المال على الحكم (أي الرجوع عن أحد أهم أهداف ثورة يوليو!) فتفشى الفساد وعادت الأمور إلى ما يشبه الوضع الاقتصادي قبل 1952، أقلية تملك كل شيء وأغلبية لا تملك أي شيء، لقد صار أكثر من 40 % من المصريين تحت خط الفقر، كانت مصر حبلى بالثورة، وكانت بروفتها الأولى في أحداث يناير 77، لكن أحدا من الذين يحكمون لم يفهم وتمادوا أكثر، في ظل هذا الوجع الذي لم يعد يكفيه المسكنات التي أخذت شكل التسول من جهة والرشوة من جهة أخرى (كما في الصياح في عيد العمال: المنحة يا ريس!) كان الشعور بأن النظام الذي يدّعى انه ديمقراطي، ويضع في دستور 71 المادة الثانية (التي تقول إن مصر دولة إسلامية، وأن الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع)، هذا وغيره كثير كان يصنع مفارقة هائلة مع اضطهاد هذا النظام للإخوان المسلمين! وكان رد الفعل هو تنامي شعور بقبول فكرة أن تجرب مصر هؤلاء المضطهدين من نظام فاسد، والذين كانوا ـ خلال الأربعين عاما ـ يعملون بصبر ودأب على تقديم الأعمال الخيرية للفقراء والمحتاجين الذين يزدادون مع تزايد الفساد والمفسدين. كان هذا الفوز متوقعا، ولم يكن ما سقط سوى نظام فاسد وحكم غير رشيد، ولعل أهم ما أرسته الثورة هو تداول السلطة عبر بطاقة الانتخاب، وهو مكسب جوهري، إذا أردنا أن نستعيد دور مصر الرائد في إقليمها. ويبقى أن أشير معركة الثقافة في المرحلة القادمة معركة حياة أو موت ولابد أن نخوضها وندافع عن مواقفنا المستنيرة، فالإبداع لا يمكن أن يتقيد أبدا بأي شيء، وسبق لنا كمثقفين أن صمدنا ضد قوانين الحسبة وتقييد الحريات والإبداع. ? أخيرا كيف ترى لمصر الثورة والأخطار التي تواجهها؟ ? إن ما كنا نظن أنه حُسم مع ثورة 1919 بشعارها العظيم “الدين لله والوطن للجميع”، وتأسيس الدولة المدنية على المواطنة وسيادة القانون. أقول إن ما يقرب من 100 عام مرت على هذه الثورة العظيمة، وما فعلته جهود التنوير خلالها لم تستطع أن تستأصل هذا السرطان من جسد الأمة، فما أن كَسرتْ ثورة 25 الخوف، وكسرتْ الصمت، حتى ظهر قطّاعو الأذن، وهدّامو الأضرحة، والمتنطعون الذين يطلبون من أخوتنا في الوطن “أقباط مصر” أن يهاجروا ـ إن لم يعجبهم ـ من الدولة الإسلامية التي ينوون إقامتها!. مع ذلك أظهرت الثورة مصر العظيمة، وكم هي أمة وسطية معتدلة منذ اخترعت الضمير قبل التاريخ كما يؤكد بريستد، وكم هي في أعماقها مدنية. والمتابع للفيس بوك وتويتر يرى قدر النكات التي يطلقها المصريون على أصحاب الذقون المربعة الذين خرجوا كواحدة من نتائج تنظيف الأرض لبناء مصر الجديدة!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©