الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نظرة الإسلام إلى العمل والمهنة

نظرة الإسلام إلى العمل والمهنة
24 يونيو 2010 21:12
لعل مما حظي باهتمام بالغ فى تراثنا الإسلامي ما يمكن أن نطلق عليه«علم الأخلاق العملي»، والذي من خلاله يتم البحث فى أنواع الملكات الفاضلة التى ينبغي على الإنسان أن يتحلى بها ويمارسها فى حياته العملية وذلك مثل الصدق، والأمانة، والوفاء بالعهد، والشجاعة، والعدل، والرحمة، ومن ثم ندرك أن الهدف من الجانب العملي في الأخلاق، هو الجانب التطبيقي الذى ينقلها من أبراجها العاجية إلى الممارسة والواقع فى المهن المختلفة، وهذه هي الغاية الحقيقية من الأخلاق فالمرء لايكون فاضلاً لمجرد أنه يعلم مايجب عليه فعله، بل فضله وشرفه فى أن يعمل مايجب عليه فعله، وهو عالم لماذا يقوم بهذا العمل على هذا الوجه بعينه دون غيره من وجوه الفعل المختلفة. من هذا المنطلق نقول إن النظرة إلى المهن المختلفة وتقسيمها بحسب المرتبة إلى شريفة ووضيعة أمر لايعرفه الإسلام، إذ الإسلام يرى أن الشرف والخسة في مجال المهنة مداره فى وجود العمل وعدمه. فالعمل أيا كان نوعه- مع استصحاب مشروعيته والالتزام بأخلاقياته وإتقانه والنبوغ فيه - هو قمة الشرف والعظمة في شرعه ومقرراته. أما انعدام العمل، أو وجوده مع فقد مشروعيته، والتخلي عن أخلاقياته، فهو قمة الوضاعة والمهانة. وليس هذا فحسب بل إن صاحبه فى هذه الحالة - كما بين الإسلام- يستحق الذم والمقت والعقاب من الله ومن الناس. وقد تضافرت النصوص من- كتاب وسنة- على بيان هذا المعنى وتأكيده، أما من الكتاب فنجد قول الحق سبحانه: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ «الملك: 15. وقوله تعالى « فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »الجمعة: 10 . فهاتين الآيتين قد ورد فيهما الأمر بالسعي واحتراف المهنة دون تحديد لمهنة بعينها، لأن المهن المختلفة فى نظر الإسلام سواء، غاية ما هنالك أن يلتزم الإنسان بمشروعيتها، والقيام بحقوقها والالتزام بأخلاقها وآدابها، وذلك لأنه لابد من العرض على العليم بخفايا النفوس، وماتكن الصدور، ليكون بين يديه سبحانه، الحساب على الإخلاص والالتزام بآداب وحقوق الأعمال والمهن والوظائف. ومن ثم يقول سبحانه: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» التوبة 105، ولعلنا نلحظ ذكر «المؤمنين» بعد الأمر بالعمل مما يوحى معه إلى مراعاة الأبعاد الاجتماعية فى الإتيان بالمهن والأعمال المختلفة. أما من السنة : فإننا نجد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذى رواه الإمام البخارى «ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»، وعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الممتهنين الذين يسعون لسد حاجاتهم، وحاجة من يعولونهم من المجاهدين في سبيل الله، حيث مر على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - رجل، فرأى الصحابة من قوته وجلده ونشاطه فقالوا: لو كان هذا فى سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما روى الإمام الطبرى: «إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو فى سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو فى سبيل الله، وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو فى سبيل الشيطان «. ولعلنا نلحظ في هذا التوجيه النبوي الكريم ما يفيد أن العمل إذا جرد من الخلق القويم، وحفة الرياء والمفاخرة، كان مآله إلى بوار، وصاحبه إنما يسير على طريق الشيطان ،وهذا حث صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - على الالتزام بأخلاق المهنة والعمل بحقوقها وآدابها. ويبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم فى حديث آخر كيف أن الشرف والرفعة فى امتهان الحرف والتزام العمل، والدونية والخسة فى انعدام الحرفة والمهنة لأن بانعدامها تصعير الخد للسؤال وهذا ما يأباه الإسلام لأتباعه، يقول- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذى أخرجه البخاري في صحيحه» والذي نفسى بيده لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه» وفى رواية «فيحتطب، فيبيع، فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس». ويقول صلى الله عليه وسلم- كما روى الإمام الترمذي- فى فضل المتاجرة المقترنة بالالتزام بأخلاق المهنة وآدابها «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء» وعلى النقيض من ذلك بين النبي- صلى الله عليه وسلم- أن عدم الالتزام بأخلاق المهنة والعمل، من شأنه أن يحجب إجابة الدعاء حيث ذكر الرسول- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي من حرام فأنى يستجاب له « وفي الاهتمام بالعمل دون تمييز عنصرى لنوعه أو جنسه نجد النبي صلى الله عليه وسلم - يقول فيما أخرجه الطبرانى» إن الله يحب العبد المحترف» ويفاخر النبي- صلى الله عليه وسلم- بيد علاها الكد من عناء العمل فيرفعها ويقول «هذه يد يحبها الله ورسوله « وفى رواية أنه قبلها. وعلى نفس الدرب سلك المسلمون نهج نبيهم- صلى الله عليه وسلم- فها هو الفاروق عمر يقول: «يعجبنى الرجل فأسأله عن حرفته فإذا لم أجد له حرفة سقط من نظرى» وكما سبق وأشرنا ليس مدار الشرف والخسة فى الإسلام يعود بالنسبة للعمل وعدمه فحسب، بل إلى آدائه على وجهه الأكمل، وهيئته الأتم مع الالتزام بأخلاقه وآدابه، وهذا ما يشير إليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذى رواه البيهقى» إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه». ومما يدل على تأكيد تلك المعاني السابقة أن كثيراً من أنبياء الله ورسوله كانوا أصحاب مهن وحرف، فما قصروا فى عملهم ومهنهم، بل أدوا واجبهم نحوها على أكمل ما يكون ملتزمين بآدابها وأخلاقها ليكونوا بمسلكهم القدوة للبشرية جمعاء .وإذا كان ما تقدم يعبر بوضوح عن تصور الإسلام للمهنة أو العمل واحتفاؤه بها فإن هذه النظرة الإسلامية نبعت من كون البشر خلق الله تعالى، ومن رحمته أن يسر لكل منهم حرفته ومهنته، فلا تفاضل بين مهنة وأخرى بالشرف أو الخسة، ما دام يأتيها صاحبها بحقها ،ومن ثم كان قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم « اعملوا فكل ميسر لما خلق له «. ولا غرابة في ذلك فكل عمل يسهم فى دفع عجلة الحياة وجلب الخير للمجتمع هو عمل شريف وصاحبه إنسان شريف يستحق كل التقدير ولايجوز لنا أن نستهين بأى مهنة أو حرفة مهما بدت ضئيلة فإنها فى النهاية لها أهميتها فى حركة الحياة ككل ،ولاتستقيم الحياة دونها ،والعمل الذهني مثله مثل العمل العضلي كلاهما ضروري لحركة الحياة ولايمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر وقد كان أنبياء الله تعالى جميعاً يمارسون بعض الحرف وفى مقدمتها رعي الغنم ولم يقلل ذلك من قيمتهم ومكانتهم عند الله أو عند الناس. من هذا المنطلق تناول علماء الإسلام المهن المختلفة، وبيان أحكام الإتيان بها، والالتزام بآدابها دون تفرقة بين مهنة وأخرى. ولا أدل على ذلك من قول الإمام ابن تيمية « قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وبن حنبل وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهما :إن هذه الصناعات: كالفلاحة والنساجة والبناية ،فرض على الكفاية، فإنه لاتتم مصلحة الناس إلا بها « ... – ويقول فى موضع آخر- « إن هذه الأعمال التي هى فرض على الكفاية متى يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، ولاسيما إن كان غيره عاجزاً عنها ،فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ،ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ،ولايمكن الناس من ظلمهم». هكذا نظر الإسلام إلى المهنة فى مصادره التشريعية، وتراث مفكريه، فأبطل الازدرائية التى تسيطر على مخيلة بعض الناس ممن لهم تصور عنصري لحرف ومهن معينة ،فجعل كل مجد في مهنته وملتزم بأخلاقها يتهادى فخراً بهذه النظرة التقديرية النابعة من الموضوعية الملهمة من تشريع السماء ،الذى صدع به خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام. لهذا نظر الإسلام فى نصوصه وتراث مفكريه إلى المهنة والعمل في إطار من الأخلاق والفضيلة تحفها كفاءة قادرة، وأمانة مانعة، وإحسان يختزل أسمى المعاني الإنسانية فى سياق حروفه ومفرداته. موقناً أنه لو كان للفضيلة عبادة تعبد الله بها لكان لها من أخلاق كل ممتهن صح إيمانه ،وخلصت سريرته فى مجال مهنته وتخصصه مسجد تعبد الله فيه .والصفة الأخلاقية التى يريد الإسلام من خلالها أن يحقق مثالية الواقع فى المجال المهني وغيره ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه ،وقطرات كده وعرقه فى ثوب التاريخ ،تحيكه الأمة لنفسها من أعمار أبنائها لتتخذ منه عماداً لبلوغ عزها ومجدها موقنة أن قوة خلق الإنسان فى مهنته هى التي تجعله ثابتاً فى مركز تاريخه، لا متقلقلاً فى تواريخ الناس وترهاتهم وفي الوقت ذاته يكون محدداً بعظائم شخصيته الخالدة لا بمنافع شخصه الفاني، ناظراً فى الحياة من خلال تفاعله مع أحداثها إلى الوضع الثابت للحقيقة لا إلى الوضع المتغير إلى المنفعة. وبهذا تكون معايير وأخلاق المهنة مادة تستلهم منها الأمم مادة سموها ونهضتها. تغير بها ما أغبر من وجه الزمان في إطاره المادي، خالعة عليه حلل الأخلاق والفضيلة ،ملبسة إياه تاج الأمانة والإحسان. د. محمد عبدالرحيم البيومي أستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©