الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عمى ساراماغو

عمى ساراماغو
11 سبتمبر 2008 01:10
البصر هو إحدى النعم الكثيرة التي وهِبت للإنسان؛ وهو سبب رئيسي في أن نعيش الحياة الأجمل، أن نستمتع بالنقي والزاهي والفاتن، من مشاهدة الطبيعة إلى مشاهدة ومطالعة الجمال في اللوحة وفي الكتب·· مشاهدة الوجوه الجميلة وهي تحدق بعيونها فينا، بابتساماتها التي تدفع اللحظة إلى الأجمل·· مشاهدة الحبيبة والمطر وشروق الشمس· ولكن ما الذي يحدث إذا ما فقدت مدينة بأكملها حاسة البصر؟! في روايته ''العمى'' يقدم الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1998 في 379 صفحة إجابة تصل إلى حد الفزع، عندما بدأ سكان إحدى المدن يفقدون أبصارهم واحداً تلو الآخر، بسبب عمى معدٍ انتشر كالنار في الهشيم بين الناس ولم يكن أمام الحكومة سوى أن تقوم بعزل المصابين في محجر صحي حتى لا ينتشر هذا العمى الأبيض الذي حدده ساراماغو بناء على أن الأعمى لا يرتسم في عينيه ظلام أسود بل بياض في بياض وكأن دلالة ساراماغو من العمى الأبيض بأن يعيد كل شيء إلى لحظة العدم، لحظة اللا شيء، ماسحاً كل الخبرات الحركية بإطفائه للبصر· وفي هذا العمى المفزع لا يعود الناس إلى مرحلة سابقة، ذلك لأنه لا شيء يمكن وصفه في السابق مقابل حالة العمى العامة التي سادت بين الناس، لذا يمكن القول عن حالة العمى هذه إنها توقف للزمن وتعطل كل مدركات الماضي· وفي الرواية يتمكن العميان من مغادرة المحجر الصحي بعدما لم يعد أحد بمنأى عن هذا العمى، ليهيموا في المدينة من دون دليل، يبحثون بما تبقى لهم من حاستي اللمس والسمع عن ما يشبع حاجات الجوع والعطش للأكل والشرب، وفي هذا الضياع الكبير يصلون إلى الدرك الأسفل من المهانة البشرية بسبب عدم القدرة الجماعية على الإبصار· وفي ''عمى'' ساراماغو تبقي امرأة واحدة مبصرة لم يأتها العمى ولم يحدد لها اسماً، ولكنه يشير إليها بزوجة الطبيب كجميع شخصيات الرواية (بلا أسماء) ليسرد تفاصيل الرواية من خلالها، ذلك إن عُميت فإنه بالتأكيد سوف يعمى قلم ساراماغو ويتوقف السرد؛ فزوجة الطبيب، هي الوحيدة التي رأت كل شيء، رأت كيف يمكن أن يؤدي انطفاء البصر إلى انطفاء كل القدرات والخبرات، إلا الحب الذي بقي ناصعا في كل العمى الذي اجتاح المدينة، وكأن ساراماغو يريد أن يقول لنا إننا لا نستطيع التوقف عن الحب ولا نستطيع التوقف عن حاجتنا إلى بعضنا بعضاً كبشر كي نستمر في العيش بجمال وتستمر الحياة· فالعمى الحقيقي هو أن يخفت بريق القلب ويتوقف عن التوهج بالحب، وليس في انطفاء البصر؛ العمى هو عمى البصيرة حين تغيب الرؤية المتزنة والحكيمة؛ العمى هو عندما يكثر الجهل في المجتمعات ويتحكم في مصير الحياة· والعمى كما يقول ساراماغو في آخر الرواية على لسان إحدى شخصياتها: لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرَون، بشرٌ عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرَون·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©