الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مضمرات سردية.. وسورية

مضمرات سردية.. وسورية
17 ابريل 2013 20:43
تستعير الرواية من التاريخ فضائه، لتبني فضاءها السردي داخل هذا الحيز، إما بهدف استعادة تاريخ المهمشين، أو المسكوت عنه في التاريخ، أو تقديم قراءة جديدة للتاريخ، أو ينافس فيها المؤرخ على دوره في كتابة التاريخ الحقيقي كما يتصور، أو لغايات أخرى، لكنه في كل هذا ثمة وعي ايديولوجي يحكم تلك المحاولة ويقودها في الاتجاه الذي تفضي به إلى النتائج التي تريد البرهنة على صدقها، نظرا لكونها تنطلق من وعي محدد ومسبق محكوم بغايات واضحة يسعى لتحقيقها. إن علاقة الرواية بالتاريخ وتحديد ماهية الرواية التاريخية ما يزال موضع جدل مفتوح، بل إن كثيرين من الروائيين العرب يبدون حساسية كبيرة تجاه هذا المصطلح عندما تصف روايتهم بأنها رواية تاريخية، مع العلم أن التمييز بين الرواية التاريخية بمعناها التقليدي الذي تخضع فيه لاعتبارات التاريخ الصرفة ووقائعه الزمنية ذات التسلسل الطبيعي، تختلف عن الرواية التي تتخذ من التاريخ فضاء لها، تبني عالمها السردي داخل فضائه ومعه، دون أن تلتزم بمرجعيته. من هنا تبدو العلاقة مع رواية «مدن الأرجوان» لنبيل سليمان خاضعة لكل ما سلف، إذ إنها تعود بأحداثها إلى مرحلة نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات في سورية، مستحضرة حقبة من تاريخها الحديث، شهد مواجهات دامية بين النظام وتنظيم الأخوان المسلمين المسلح، وذلك من خلال حكاية بطل الرواية يزن المثقف والاستاذ والكاتب. الرواية والتأريخ قبل أي مقاربة نقدية للرواية لابد من القول إن أي قراءة للتاريخ تخضع لطبيعة الوقائع والأحداث التي تستحضرها، والسياق العام الذي توضع داخله، والذي يخضع بدوره لطبيعة الرؤية التي يقدمها العمل الروائي للتاريخ، الأمر الذي يكشف عن خطورة مقاربة الرواية للتاريخ، خاصة وأنها تخضع في بنيتها السردية لاعتبارات فنية وسردية في إطار عملية التخييل، وإن حاولت الرواية جاهدة الإيحاء بواقعيتها، مستخدمة لذلك اسماء الأماكن الحقيقية والإغراق في التعريف بتفاصيل الأمكنة، إضافة إلى بعض الشخصيات والوقائع التاريخية المعروفة. لماذا مدن الأرجوان الآن؟ لعل السؤال المفتاح في هذه المقاربة هو: لماذا العودة إلى تلك الحقبة الآن، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما وفي هذا الوقت، الذي يبلغ فيه الصراع الداخلي أوجه، منذرا بكوارث واسعة، بدأت ترتسم ملامحها المريعة بصورة لم يكن أحد يتخيلها؟ لا شك أن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي دراسة المضمر في بنيتها أو استحضار الدوافع التي تحكم مسار الرواية، وكيفية انتخابها للوقائع أو بناء شخصياتها الروائية وتوزيعها، لأنها جميعا تصدر عن وعي مسبق ورؤية للواقع محكومة بهذا الوعي، كما سنكتشف ذلك بعد قليل. يعّرِّف ألن تورين الرواية بالتطابق بين سيرة وبين وضع تاريخي، وتفقد قوتها إذا لم تكن الشخصية المركزية سوى رمز لتاريخ جماعي أو العكس. من هنا فإن من يقرأ الرواية لابد أن يدرك منذ صفحاتها الأولى أن ثمة تماهيا بين شخصية بطل الرواية يزن عمران وشخصية الكاتب نفسه، بل إنه في كثير من المواقع يكاد يقول لك هذا أنا، ما يجعل حضور السيري في هذه الرواية التي تعتبر رواية شخصية بامتياز، كما في غيرها من روايات أخرى لا يحتاج إلى كبير عناء، خاصة لمن يعرف نبيل سليمان جيدا. تنضاف هذه الإشكالية إلى الإشكالات السابقة، ولذلك فإن السؤال الملح هو هل نتعامل مع الرواية كعمل تخيلي بغض النظر عن مرجعية وقائعها التاريخية وشخصياتها الواقعية واسماء الأماكن الحقيقية، أم نكشف عن مدى انسجام تلك الشخصية مع مرجعيتها الواقعية وتعبيرها الصادق عن الواقع بأمانة؟ شخصيا لن أتوقف كثيرا عند مدى انسجام شخصية يزن مع شخصية الكاتب وإخلاصها لها، طالما أنني أتعامل مع عمل روائي قائم على تخيل التاريخ، لكن ما سأتوقف عنده هو الكيفية التي انبنت فيها شخصيات الرواية من جهة، ومن جهة أخرى عملية الاستنتساب والاستدعاء لجوانب محددة من تاريخ تلك الحقبة، وغض النظر عن جوانب أخرى، أو المرور العابر بها، على الرغم من إدراكنا أن هذه الرواية ليست عملا تأريخيا، لكن خطورتها تظهر فيما تحاول أن توحي به، وأن تقوله حول تلك الحقبة التي ما تزال مفاعليها وخلفياتها تفعل فعلها في المشهد السوري الدامي. ولعل ذلك أحد الأسباب التي دفعت الروائي للعودة إلى تلك الحقبة. عنوان الرواية المؤلف من جملة اسمية ذات بنية استعارية، تضع المتلقي منذ البداية في فضاء التجربة المقدمة، ذلك أن الأرجوان هنا، هو رمز للدم الذي وسم تلك المرحلة من تاريخ سوريا المعاصر. تبدو سلطة الراوي/ الكاتب بادية في متن السرد الحكائي، فهو موجود في كل مكان وعارف بكل شيء، بل هو محور جميع أحداث الرواية، وبطلها دون منازع، على الرغم من استخدامه لضمير الغائب في سرد أحداث الرواية، وانشغال جملة الاستهلال بتقديم شخصية آصف عمران شقيق بطل الرواية، وزوجته رمزية إضافة إلى وصف المكان. تتميز الرواية عادة بتعدد اللغات التي تعكس تعددا في وعي شخصياتها، لكنه عندما تهيمن شخصية بطل الرواية ومنطوقها على أحداث الرواية ولغتها، فإن إمكاينة بروز لغات أخرى يتراجع لاسيما أن استخدام الوثيقة المكتوبة يظل محدودا، حيث تتقدم لغة الوصف والتداعيات والمنولوج الداخلي، خاصة أن أغلب شخصيات الرواية هي شخصيات مثقفة ويسارية تمتلك وعيا متقاربا، ولغة متماثلة في خطابها ومواقفها، الأمر الذي يجعل لغة السرد في هذه الرواية تقع في التنميط، والتداعي: «تعالي يا صديقتي لنتفرج مع صفا على برنامج استديو الفن، فأنا وهي وحيدان الليلة على غير العادة. وصفا كما تعلم مولعة بالتلفزيون اللبناني. ومنذ أهلت هذه الشابة الساحرة في هذا البرنامج تعلقت بها مثل صفا: ماجدة الرومي يا حلاج، اسمع يا طيور وترحم على اسمهان. ترحم على القصبجي. ترحم على الوحدة السورية العراقية التي أعلن التلفزيون اللبناني وفاتها قبل أن يقدم ماجدة»، لكن الأهم من كل هذا الوصف السياحي للأماكن والإغراق في استعادة تفاصيلها، وهي أمكنة تمتد بين مدينتي حلب واللاذقية بصورة خاصة، إلى جانب أننا لو حذفنا جزءا منها لاسيما القسك الخاص بخطاب عنان لما أثر على السياق العام لأحداث الرواية. في دلالة الشخصيات تتوزع الشخصيات الروائية عند نبيل سليمان على نوعين متناقضين من الشخصيات، فهناك شخصية بطل الرواية القريبة من أحزاب اليسار الشيوعي المعارض، والمتواطئة معها، على ما بينها من خلافات تمر بها الرواية بصورة عابرة، وشخصية شقيقه واصف التي يقع يزن عمران في علاقة جسدية معها ( ...) وهي شخصية تقع ضحية طيبتها وسذاجتها، لكن الملفت للنظر هو شخصية عنان الحموي صديق آصف وزوج أخته وتحولاتها العجيبة باتجاه التدين والتعصب. خطورة التعامل مع التاريخ هي في طريقة عرضه وتمثله وتقديمه، وإذا كانت شخصية بطل الرواية تتميز بغياب حسم خياراتها السياسية ومواقفها من السلطة، إضافة إلى استغراقها في مغامراتها الجنسية، فإن مشكلتها تكمن في تقديم الشخصية النقيضة لها واختيارها لتمثيل الطرف الآخر في تلك المعادلة التي راح الصراع الدموي يرسم مواقعها، ومواقفها، حيث تبدو الشخصية الأخرى أسيرة نمط وعيها الثقافي والاجتماعي وبيئته الحاضنة له، ما يجعلها عاجزة بالتالي عن التحرر من تأثيره الحاسم عليها. المشكلة الثانية تتمثل في استخدام الروائي للوثيقة، وهي في الغالب تعتمد على المشافهة التي لا يمكن الركون إليها، حيث يسعى الكاتب من خلالها إلى استحضار الجذر التاريخي لهذا الصراع، دون أن يستدعي جوانب هامة من عوامل الواقع الراهن، ساهمت في تأجيج حالة الاشتباك فيه، وإن بدا الكاتب مهتما بإبراز السطوة الأمنية للدولة. إن التمثيل لحالة الواقع من خلال تلك الشخصيات يعكس وعيا لم نزل نعايشه في اللحظة الحاسمة، فهو من جهة ما يزال مسكونا بإرث الماضي ومخاوفه من جهة، ومن جهة أخرى تظل أسيرة تلك الثنائيات الضدية التي يجري تقسيم الواقع والقوى الاجتماعية فيه، على أساسها. من هنا يمكن أن نفهم جانبا مهما من المواقف الراهنة مما يحدث وجانبا مهما آخر من استعادة ذلك التاريخ وتمثله سرديا في هذه الرواية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©