الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الزقاق القديم.. حارس يغلف المهجة بالأديم

الزقاق القديم.. حارس يغلف المهجة بالأديم
17 ابريل 2013 20:42
ككاهن بوذي، يحصد تأملاته بعدد ذرات الرمل.. ككائن قديم قِدم الوجد والوجود، يرصد تحولات الأشياء من حوله، يحرس الجدران التي لم تزل تحفظ الود مع الذاكرة. الزقاق القديم، كألبوم يغرق بالصور، ومشاهد زمن مرَّ من هنا كطائرة مخطوفة.. يقرأ شخبطات صغار كانوا ولم تزل أناملهم محفورة على الطين، في الليل يسلط ضوء النجم ويستدعي الصحائف والكتب، يستعيد سحابات أمطرت وعياً ثم زالت إلى أفق بعيد.. يشم الرائحة، والرغيف المحروق على جمرات السيدات الراهبات، الغارفات من المعين لهفاً وشغفاً، يشم الرائحة ويحتسي شاي المساءات، عندما كان الحصير يفرد جناحاً من الود، وعرفان الوجدان يشم الرائحة، ويسرد قصة مكان لا يشبهه مكان، كان في الأزمان امتحان، ومحنة ومنحة، وسحنة ترشق الوجوه بأسئلة القيظ اللاهب، وعلامات استفهام، ربيع يلون أشجاره بأجنحة العصافير، الذاهبة في قراءة التاريخ، بلهوجة الفلاسفة السوفسطائيين. الزقاق القديم، الكليم المتهجد المتصهد، المرتعد برداً وأحلاماً، يقضي في المساء، يحلب ضرع الزمن، ويتوسد لوعة المشتاق، إلى وجوه مرت من هنا ثم رحلت.. مسرف في التذكر، حين تقف عند فاتحة السؤال، يطور الفكرة نسلاً وجودياً، يطورك سهلاً تتناسل على أديمه أعشاب الفكرة الجهنمية. مكان للزمان الزقاق القديم، مكان للزمان، وكتاب يقلب صفحاته على مشاهد وصور وأحداث، يحطب في ذاكرتك، يفرقع الأعواد اليابسة، تتفرق أنت ما بين حر ونشر، وسفر، ونهر من دماء تحركت في العروق كأنها الشلال يأتي من علٍ، تتمزق أنت، وفي عينيك تذوب قطع الملح ساخنة، تتحرق أنت وفي أحشاء السماء، نجوم لم تزل تشعل فوانيسها، محتفلة باليوم الموعود.. تتطرق أنت لحفيف من لحنه الأبدي، في سرية محكمة، وتنامي في القلب كرقصة الزار، فيها من الكذب الكثير، فيها من الحقيقة القليل، لكنك تصدق أن للجسد رعشته الفطرة، وتنمو عرفاً يتكالب ضد الوعي، ضد مكونات الفلسفة الإنسانية مهما كانت يقظة.. ومحنكة.. في الزقاق القديم، تتقلد الجدران، معرفة البدايات وهيبة النهايات، وما جرى لقصة «حي بن يقظان» عندما خالف «أبسال»، «أسلان» لكن الوجود ظل يقضي حاجة الوعي، بما توفر من قدرة على التأمل. في الزقاق القديم، تهرب قطة الجارة، برأس السمكة المسروق، تقفز جداراً، وتحتفظ بالغنيمة، في منأى عن العيون.. لكن الصوت المبحوح يظل ملاحقاً اللص، العتيد، متوعداً مهدراً، مندداً شاجباً مطالباً باستعادة الحق إلى أصحابه.. في الزقاق القديم تصحو ذاكرة تفرك جنونها، تسفر عن سعرات حرارية، أطفأت بفعل التقادم الزمني، ولم يبق سوى اللون والرائحة.. لم يبق سوى حشد هائل من النواميس الباكرة، ترتل آيات ذكرها ثم تهجع للنوم العميق.. في الزقاق القديم حلم كرائحة السدر، كثمرة اللوز يتساقط وجداً طفولياً، يحط على كتف الزمن، عصفور ملتاع إلى قرين. وهنا أنت ذا.. تواصل الأسئلة، تكبر كالسنابل في حقل القمح، تكبر كالفضائل في عرف الأولين، تكبر كالفصائل في قناة الدم، وها أنت ذا، تختصر الزمن، تعود إلى المثال، والتمثال صورة رسمت من فحم التنانير، لم يبللها الزمن، لم يختزلها المطر، هي هكذا مجللة بالبهاء والدعاء، والرحاء والدعاء، والاستدعاء، تقول لك هذا الجدار وذاك الجدار، ما بينهما الأسرار والأخبار، وشهقة إمرأة غابت في الوعي، ساعة نسيان الحقيقة، ذابت في الحلم، لحظة هروب المنطق، ذهبت في القلب عميقاً في تجاويف اللحظة الراهنة، ذهبت في العقل بعيداً في تجاعيد القوة الكامنة، ذهبت في الروح، تحصد حبات اللوز، وتقطف النبق من أعطاف الزمن المحترق.. هذا الزقاق يغلف رسائله بأوراق القلب، يكتب عتاباً برضاب الشفة المتناهية التجلد، يكتب خطاباً مشحوناً بالحرقة، لحمامات تركت أعشاشها هاربة مغتسلة برذاذ الريح، وما شاع عن الغيم من بلل.. هذا الزقاق الآن في اللحظة المتوترة، ينجز آخر كلمة في الرسالة المطولة، ماهراً الخاتمة ببصمة من إبهام، مقلقلاً الوجود بالحشرجة، وما فاض من عويل داخلي يفجر ضجيجاً في خلايا الكون، ويزلزل الكواكب والنجوم، ويخلخل موازين العلاقة ما بين نجم ونجم، وما بين حلم وحلم، ويمضي في ترسيخ الصورة، بقدر ما كانت الصورة جلية، ممتلئة بالجمال.. هذا الزقاق كعاشق، لم تصله الرسالة الأخيرة، حين اشتاقت الروح إلى كلها الكوني، متحدة مع الوجود بفصاحة الكائنات الخلاقة.. هذا الزقاق، كجواد فرَّ وأدبر، ونحر وانتحر، فاستمر في نزف الأشواق بلا جدوى، والمبرر أنه القديم. هذا الزقاق، كمرحلة ما بعد الفراغ، تبحث عن لعبة «الأرجوحة»، عن «العظيم»، عن تفاصيل دقيقة ضاعت في رمل الذاكرة، متحركة في المجهول، والمعلوم أنها الثقوب في الجدار، والشقوق، في سقف السجايا الهاربة من المكان، هذا الزقاق، كسفينة أطاح بها الموج المضطرب، وبعض ما خرب في الأحشاء والأرجاء، والأنحاء، فانطوى السجل على صورة شائهة، باهتة، تتمرغ في تراب الزمن، قد تغسل جناح الطير من عفن المكوث بلا جدوى، من سجن البقاء بلا معنى، من محن التطابق مع زمن لا يشبهه شيء.. في هذا الزقاق، رحلة طويلة، لقافلة مرت من هنا، ثم دلفت إلى زقاق آخر، ثم عرجت على باحة مدلهمة، ثم غاصت في الشجون والشؤون، ثم بحلقت في السماء ولم تجد النجوم التي كانت ترقص في حوش السماء، ثم التفتت، ثم أشاحت في وجوم، ثم استرخت قليلاً بعد تعب، ثم نهضت تبحث عن ذات مستلبة، لم تجد سوى نصف تمثال، معقوف على الأرض، ثم مسحت الأرض براحة مرتعشة، ثم نهضت ثانية، حملقت في الأفق، لم تجد سوى شمس أصابها الكسوف، تنادت وتناجت، ودعت أن يخرج النور من بواطن الثغور، ويحمي الله كل زقاق شج رأسه، كأنه في حوقة وغى.. هذا الزقاق، المتسائل عن فتى غر أصابه المس ساعة خروجه من باب المعرفة، فاستدعيت له العراقة وقارئة الكف دون جدوى، وبعد حين من زمن استفاق الفتى على رعشة هزت البدن والزمن، واكتسحت النواصي من البدء حتى النهاية، ولما عرف السبب، لم يخف أحد دموعه، على فوات الأوان، وضياع كلمة السر في ذلك المكان، حيث صار الحب لعبة عبثية، يجوز فيها المراوغة، وتبادل الأدوار والأطوار. الأحلام والأوهام في هذا الزقاق، قصة سحرية، رمزية، لحادث غرق في بحر من الرمل، فعندما غاصت قدما الفتاة، المرتبكة، في غضون التراب وثناياه الرطبة، قيل في البدء أن المكان مسكون، ولابد من وسيلة للهرب، ولكن بعد فوات الأوان، يكتشف العرافون أن المعرفة وحدها لاتكفي، إذا لم تكن معززة بالمشاعر الطيبة، الأمر الذي ألَّب الأفكار، وشحذ الأمطار كي تغسل الجهل من جذوره، حتى يعرف الناس أن الأحلام لا تلطخ بالأوهام، وأن أي زقاق، لا يجلب وعيه من ذاته، هو زقاق خائب، منكوب ومعطوب.. في هذا الزقاق، لم تزل بعض الحبال معلقة في هواء الذاكرة، تبحث عن تغاريد أثاث رائعات، يخلبن اللب في ترتيل الأناشيد في يوم الصيد، وحين تصغي آذان الطير لأجمل ما أنتجته الحناجر الأنثوية من هديل يتسرب إلى القلب كأنه الرعد المجلجل. في هذا الزقاق.. تذكرة سفر، إلى محطات وكواكب وجزر، القوارب هنا كانت لعب الصغار اللاهين، في سراب الوعي، الغارقين في محاريب الذاكرة المفتوحة، السابحين على موجات رملية، طائعة صاغرة، المكتسية بحيوية الطفولة، ورعونة الحلم، النابت كأعشاب بحرية ملفتة.. في هذا الزقاق، إمرأة جلست طويلاً، غنّت، ورقصت الصغار، وباعت لهم الحلوى، متشهية البذرة التي تمنحها حق الأنوثة.. في هذا الزقاق إمرأة مرت مراراً وتكراراً، وبضاعتها على رأسها، تبيع للأخريات قماشة «الساري» و»البرسيم»، وتبيع حرير الكلام المنمق، وما فاض من أنساق روحها المتجلية بالشفافية، والعرفان بالجميل.. في هذا الزقاق امرأة، أطلت من جدار تبحث عن وجه غاب طويلاً، ولم يعد بعده سوى الفراغ يجلد صبرها بالصورة المتوهمة. في هذا الزقاق، حلم إمرأة تعثر وتبعثر، وتدثر في الرمل، متخفياً عن عيون ومجون وجنون، في هذا الزقاق حلم إمرأة، تكسرت زجاجته عند حافة الشغف، فامتلأت أمطاراً تمسح أسراراً، غابت في الوعي كثير، تتساءل في رهافة الأنثى، الذي مرّ من هنا، أخفته سحابات حمقى، وصار المكان مجالاً للحيرة، والأسئلة المثيرة.. في هذا الزقاق، قلب إمرأة، إمتزج بالرمل، وبقايا أثر أقدام، ثارت حفيظة الكون لها واستشاط القمر غضباً، فكيف تعشق إمرزة، ولا يتزلزل الكون استجابة؟ في هذا الزقاق، أحاديث عن هذه وتلك، وعن هذا وذاك، غُسلت مع فناجين القهوة، حتى صارت «غسولاً» وأثراً من بعد عين.. في هذا الزقاق، قصة الهجرة من البحر إلى القمر، ورواية بوليسية طارد فيها الشيطان قلب الإنسان، حتى بدا الزقاق، شاهد لم يشهد سوى حكايات وهمية لمنجمين ظنوا أن النجوم تتساقط عندما يرجم الشيطان مجرم.. في هذا الزقاق، ساعة يد نست عقاربها فهرب الزمن من قفص الترقب، حتى بدا الوقت ككثيب تحركه رياح عاتية، وتمضي الجياد في ضياع تحرق المراحل، بمزمار ومسمار.. في هذا الزقاق، لم يبق أمام الزمن سوى أنه يلتقط أنفاسه الأخيرة، ويغيب كما تغيب الشموع تحت سطوة الحرقة الجارفة.. في هذا الزقاق، يتساوى الليل والنهار، كما تتساوى الأخبار في اندثارها، وغبارها ودوارها، في هذا الزقاق أسئلة عن الغياب، تحثو في العيون ملح التغييب، والتثريب، والتسريب، والتهريب، وتعذيب الحلم، وهو يفتل شوارب انتظاره، لصورة لن تعود، مادام الزقاق ألقى حبره في سلة المهملات، وجفت أقلامه وجفت صحفه، والتحف بالعراء المتوحش.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©