الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسرار ملكة وسيرة فَنَّانة

أسرار ملكة وسيرة فَنَّانة
23 يونيو 2010 20:38
“فريدة مصر.. أسرار ملكة وسيرة فنانة” عنوان الكتاب الجديد الذي أصدرته الكاتبة الدكتورة لوتس عبد الكريم عن الدار المصرية اللبنانية. والكتاب يعد وثيقة مهمة لما يحويه من معلومات وصور ووثائق وأحداث نادرة لم يذكرها المؤرخون، ولم ترد في كتاب تناول الملكية في مصـر، لأن المؤلفة عاشت خمس سنوات مع الملكة فريدة، فاستطاعت أن تكتب سيرتها الذاتية التي لم تدونها ملكة مصر. أما الغلاف الخلفي فقد احتوى مفاجأةً فجرتها الكاتبة لوتس عبد الحكيم، ولذا حاول الناشر محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين المصريين ورئيس مجلس إدارة الدار المصرية اللبنانية التي نشرت الكتاب أن يضع هذه المفاجأة على الغلاف الأخير التي تَعدُّ حسب وصف الكاتبة الدكتورة لوتس عبد الكريم “آخر وأهم أسرار ملكة مصر وهي عودة الملكة فريدة إلى الملك فاروق بعقد زواجٍ رسمي قبل وفاته ببضع سنوات”. تقول المؤلفة: “إن فريدة الملكة التي تركت التاج والعرش بكامل إرادتها، ومن أجل كرامتها.. هي نفسها فريدة التي عادت إلى الرجل الذي أحبته بلا تاجٍ وبلا عرشٍ وبلا قوةٍ.. كانت فريدة هي الزوجةُ التي عادت الزوج وهو في محنته، تسانده وتمنحه الحنان والصبر والقوة من قلبها الواسع الملئ بالتسامح والرحمة. هي فريدة التي قالت: “بعد فاروق لن يكون لي زوج آخر”.. وقالت: “هو الذي جعلني ملكة، وهو والد بناتي”.. أما “ناريمان” التي تزوجت العرش، فقد تخلّت عن صاحبه حين ذهب عنه العرش.. وهذا هو الفارق بين الاثنتين”.. يضم الكتاب العديد من الوثائق مثل إشهاد طلاق الملكة فريدة من الملك فاروق، وخطاب موجَّه من الملكة فريدة إلى السيدة سوزان مبارك قرينة الرئيس المصري محمد حسني مبارك، وقدِّر لهذا الخطاب ألا يصل إلى وجهته التي أرادتها الملكة. وصور لجوازي سفر الملكة فريدة وأمها السيدة زينب ذو الفقار. والكتاب يضمُّ مئةً وخمسين صورةً ووثيقةً نادرةً للملكة فريدة والملك فاروق، وعائلتها وبناتها وأحفادها والمحيطين بها من المعارف وأصدقاء الفن والحياة والملكية والسياسة. ضد الصخب تقول المؤلفة عن الملكة: كانت تزعجها الأصوات العالية والكلمات النابية والموسيقى الرخيصة والأغنيات القبيحة والألوان الصاخبة.. تحب النظام والدقة والانضباط إلى حد الوسوسة، تحب الموسيقى الكلاسيك والألوان الهادئة والأدب والاحتشام. ذات نزعة صوفية عميقة وزهد وتجرد وإيمان راسخ بالله خالق المعجزات. تحيط بيتها وكتبها وملابسها وحقائبها بالمصاحف والأحجبة والأدعية والتعاويذ.. كانت أيضًا إلى جانب القرآن تحتفظ بالإنجيل وتحفظ كثيرًا من كلماته.. رسمت لفظ الجلالة في لوحاتها كثيرا وبصور شتى وكانت تقول: أنا أول من رسم لفظ الجلالة وبعدها قلدني الكثيرون. وتكشف الدكتور لوتس عبد الكريم في كتابها: يوم وصولها إلى مصر من رحلة العذاب في سويسرا كانت تتكلم وتشكو وتخبرني بكل ما حدث في رحلتها. وفي شقتها الصغيرة بالمعادي جلست إليها بعد الغياب بمفردي يومًا بأكمله وهو اليوم التالي لوصولها وأقبلت عليَّ في لهفة وحب شديدين تحدثني بأشياء كثيرة عن رحلتها الأخيرة وتفاصيل عن حياتها لم أكن أعرفها.. وحدث شيء غير عادي إذ وجدتني أسألها هل تشتهين شيئًا؟ فأجابتني: نعم ملوخية بالأرانب من يد ماريزا.. (وماريزا هذه الفلبينية التي تطبخ لي). وتعترف المؤلفة أن الملكة فريدة كانت ضحية ذكائها وملكاتها وطاقاتها، بل كانت تلك الطاقات والثورات الداخلية أقوى مما يحتمل الجسد الرقيق فخر تحت وطأة كل ما احتمل. لقد عانت هذه الإنسانة معاناة فوق احتمال أي بشر.. وربما كان عذابها في الفترة الأخيرة مضاعفًا مما أدى إلى سرعة موتها.. بعد يومين تدهورت حالتها تمامًا ونقلت إلى مستشفى (النيل بدراوي) وكان آخر حديث لها معي هاتفيًّا من المستشفى عن مفتاح شقتها وأشياء كان “نيفل” يعرف مكانها هناك.. في المرسم وتسرد المؤلفة أسرارا حول الملكة فريدة كإنسانة وفنانة تشكيلية فتقول: كانت الزيارة الأولى لها في الفيلا التي أملكها بالمعادي.. وقفت تتأمل البناء الخارجي مليًّا وهي شاردة.. أخيرًا قالت ببساطة (البيت ده كبير عليك) وكان بالمنزل (بدروم.. دور أرضي مهمل) قالت لي: سوف أستعمل هذا الدور لعملي هل لديك مانع؟ أجبتها: (هذا شرف كبير ولكني أراه غير لائق ولا مُعَد) قالت لي ( عليك إني أقبله كما هو ولن تصرفي قرشًا واحدًا) في اليوم التالي أتى العمال فأزالوا الأتربة المتراكمة وأصبح المكان نظيفًا لكنه يفتقد إصلاحات كثيرة ودهانات وبناء وديكورًا.. سألتني هل لديك ستائر قديمة لتغطية الشبابيك غير الملائمة بدلاً من تغييرها؟ قلت لها: ستائر قديمة من الدمور استعملها حين السفر لحماية المنزل من الأتربة.. قبلتها ثم صبغتها بصبغة سوداء فصارت كحلية ووضعتها على الشبابيك الملوثة بالبويات القديمة.. ثم أحضرت في اليوم التالي حوامل لتعليق اللوحات ولمبات صغيرة تعكس الأضواء وأدوات للعرض.. ثم وضعت اللوحات على الحوامل دون براويز ولا ديكورات وقالت: هكذا سأعرض لوحاتي دون أي تكلفة واللي عاجبه يشوفها كما هي. وبدأت تنظم المكان وتسبغ عليه من لمساتها وذوقها حتى انقلب إلى شىء جميل يصلح أن يكون معرضًا للملكة فريدة.. وبدأ الناس يعرفون المكان وكثرت الزيارات من أكبر الشخصيات.. مصر الموضوع وتضيف الدكتورة لوتس عبد الكريم أنها كانت تحضر فجأة متى ما عنَّ لها الحضور واشتاقت إلى لوحاتها.. صديقاتها.. تقضي معها أسعد أوقاتها.. في الترتيب، فى إعادة توزيع الأضواء وفي الحوار.. كنت أرقبها.. تحاور كل لوحة حوارًا خاصًا، أحيانًا صامتًا وأحيانًا ناطقًا. في أولى تجاربها أمامي بإحدى اللوحات أرى امرأة شابة جميلة ثم تحيلها الأضواء إلى عجوز شمطاء في لحظة وأصدم وأسألها فتضحك وتجيبني وهي جذلى بأنها تعلمت هذا الفن (السنتيسيزم) في باريس.. وربما كان فنها يعبِّر عن أحاسيسها الرقيقة وأحلامها الممتدة عبر ذكريات ارتبطت بماضيها: النيل.. الفلاحة.. النخيل.. مصر هي موضوع لوحاتها.. تهمس فريدة لطمي النيل، وخضرة الحقول الزاهية، وضوء الشمس الساطعة فوق مرآة النهر العظيم، وتهمس لوجوه الفلاحين الكادحين البسطاء.. تترنم بأغنية مصرية صاغتها ألوانًا وأضواء وكتلاً ومساحات.. كانت تنتقل كالفراشة بين لوحاتها وتلتقي بالجميع من زوار معرضها.. سفير فرنسا.. سفير النمسا.. سفير أمريكا.. وكثير من الفنانين والوزراء والزوار العرب والأوروبيين. (عرفوا المكان وحضروا ليساعدوا أو ينقدوا أو يقتنوا أو يصوروا). وكنت أحضر تلك الزيارات دائمًا.. تخبرني في الصباح بمن سيحضر لأستعد.. وتستقبل زوارها ببشاشة وكبرياء دون تكبُّر وإباء، دون غطرسة. وإلى أن يحدد الغرض وتبدأ جولة البيع والشراء والحديث في النقود تنتحي في حياء وتهمس لي فآخذ المشتري إلى غرفة مكتبي وأتكلم وأناقش ـ في حدود رغباتها ـ ثم أقبض ولا تناقشني في الحساب بل تأخذ ما حصلته لها بسرعة وبشرط ألا يكون ذلك في حضور أحد وبشرط ألا أسيء بأي كلمة أو تصرف إلى كرامتها. ذات مساء قمنا ببيع إحدى لوحاتها لسيدة عربية حضرت واختارتها بنفسها وأخذت موعدًا في اليوم التالى لتحضر وتتسلم اللوحة وتدفع ثمنها ـ وفي الميعاد المحدد جاءت الملكة وغلفت اللوحة بعناية وانتظرنا فإذا السائق يحضر بالنقود ليدفع ويتسلم اللوحة بدلاً عن السيدة ـ وثارت الملكة قائلة: ترسل السائق بالنقود؟! لا لن يأخذ اللوحة وردي إليه نقوده أنا لا أتعامل بهذه الطريقة. زوار آخرون من كبار الكتَّاب والصحفيين والوزراء والأطباء.. مصطفى أمين وأنيس منصور ود. نعمات أحمد فؤاد.. كانت تناشدهم أن يكتبوا عما يلحق من دمار وتدهور بهذا البلد: الفوضى، التسيُّب، التلوث، الكذب، مأساة النيل.. كانت تقول إن هناك مؤامرة، مؤامرة حقيقية تحاك فى الخفاء لتشويه جمال مصر. كانت تحتفظ بالمفاتيح جميعها فى شريط طويل تعلقه برقبتها. كانت تغلق الأبواب عدة مرات وكأنها تخفى كنوزًا لا تقدَّر بثمن.. تعرف تمامًا كل ما نسقته بيديها ولا تقبل عبث أى إنسان.. حتى عملية التنظيف كانت تقوم بها خشية أن يلحق بلوحاتها أى ضرر. ذات مرة دخلت إلى المكان ثم نظرتْ إليَّ باتهام قائلة: من دخل إلى هنا؟ إن بعض اللوحات قد تحركت من مكانها وبعض النظام قد تغير.. وأقسمت لها أنه ما من مخلوق قد خطا إلى الداخل ولا أحد يستطيع ذلك، معها وحدها مفاتيح المكان. وأثناء تنقلنا بالمكان اكتشفنا أن قطة كانت مختبئة بالداخل، وهذا سبب التغير وضحكنا كثيرًا.. كانت دقيقة، منظَّمة في عملها إلى حد الوسوسة.. السحر أقوى ومن الفصول الشائقة في كتاب “فريدة مصر” ما سجلته المؤلفة عن اهتمام الملكة فريدة بالسحر فتقول: “كانت تؤمن بأن هناك قوى خفية تحيطها بالشؤم وتسلبها السعادة. كانت دائمًا تردد: (نازلي كانت تكرهني واستعملت السحر كي تعذبني في كل مراحل حياتي فحرمتني أعز ما لدي.. زوجي ثم أولادي، ثم راحتي واستقراري وأخيرًا صحتي.. هكذا تطاردني اللعنة الخفية أينما حللت). هكذا كانت عقيدتها الراسخة.. السحر وكيفية التغلب بأي وسيلة على شر هذا السحر، في القرآن الكريم، في كتب الدين، ثم في أعمال بعض من يستعينون بالجان، وكانت تسجل أحاسيسها واعتقاداتها في كثير من لوحاتها خصوصًا في المرحلة الأخيرة.. وجوه مخيفة: دماء وأصابع وأظافر وخطوط رهيبة داكنة وعيون مذعورة. ذات صباح بادرتني هاتفيًّا في ذعر حقيقى: (الحقيني.. ماذا حدث؟ تعالي.. وجدتها تمد لي يديها بخاتم ذهبي كان ملازمًا لإصبعها عليه التاج الملكي وقد انكسر من باطن اليد ونقصت منه قطعة بمقدار ملليمتر). قالت لي: فسِّري ذلك.. صحوت من النوم وجدته في إصبعى بهذا المنظر، والأدهى أن هناك قطعة ناقصة منه يعني كسر غير عادي بفعل غير عادي، وطلبت مني الاتصال بالدكتور مصطفى محمود فقد يفسر هذه الأمور الخفية. ثم الذهاب إلى أحد الصاغة وسؤاله عن خواص الذهب وكيف يمكن أن يحدث هذا. وضحك الدكتور مصطفى محمود وأجابها متفكها: مفيش عفاريت أثناء نومك يمكن أن تفعل هذا بالخاتم لكن إذا كان ده خاتم الملك والملك لله وحده فأحسن شيء هو التبرُّع به للمسجد أي لله. ولم يعجبها كلامه ولم تفرط في الخاتم. وقال الصائغ: ربما استعملت مادة أثناء الرسم أثرت على الذهب فانكسر، ولكنها تصر: (والقطعة المفقودة؟) ولم تقتنع وخلعت الخاتم واحتفظت به في علبة خاصة. وفى الصعيد ذهبنا إلى أحد جهابذة علم الأرواح والاتصال بالجان وفك طلاسم السحر وقضينا يومًا بأكمله في أحد الأبنية النوبية القديمة وهو يقرأ لها القرآن والرقية ويطلق البخور لمحو تلك اللعنة التى سطَّرتها نازلي ودفنتها في قبر مجهول منذ خمسين عامًا، ثم أخذت معها أحجبة كثيرة للاستحمام ببعضها والاحتفاظ بالبعض الآخر كما أمرها الرجل، وحين وصلنا في المساء طلبتني مرتاعة وهي تقول همساً: هل علمت بما حدث؟ لقد اختفى الحجاب وسط المياه التي أعددتها للاستحمام بل تبعثرت المياه وسالت على الأرض ولم أستطع الاستحمام أبدًا! إن السحر أقوى من أن ننتصر عليه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©