الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«منينة».. رواية لم تحدث إنما ستحدث

«منينة».. رواية لم تحدث إنما ستحدث
23 يونيو 2010 20:37
هل يكفي القول إن مريم ناصر هي التي كانت جريئة في كتابها القصصي “منينة” الصادر أخيرا عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ـ مشروع قلم. وأن مَنْ ورّطها في هذا الفائض من الجرأة في مجتمع محافظ إلى حد ما هي شخصياتها ذاتها التي استسلمت لها الكاتبة، فأمسكت كل من تلك الشخصيات بعنان مصيرها الخاصة؟. ربما أن ما يثير هذا التساؤل هو أنّ المرء لا يتسنى له أن يتنبأ بشيء حول تلك الفئات الاجتماعية التي يمكن لها أن تفرز مثل هذه الشخصيات التي تبدو إنسانية تماما وواقعية بالمطلق وتتحرك وتسلك في الوسط الاجتماعي بوصفها شخصية طبيعية ويمكن الالتقاء بها في أي مكان عام أو في شارع أو في مصعد بناية دون أن يتوقع أن هذه الشخصية تنتمي إلى عالم مريم ناصر شديد الحيوية رغم أن “جغرافيا السرد” لا تتسع إلا للقليل من هذه الشخصيات وذلك الذي يحدث معها ولها وكأنما يحدث لها دون سائر الناس، وذلك للوهلة الأولى ثم قد يختلف الأمر قليلا. ربما يكون هذا الأمر بحدّ ذاته هو واحدا من عناصر التشويق في كتاب “منينة”، غير أن ما يجعل من هذه الشخصية شخصية مختلفة هو الحدث في حد ذاته ثم تلك الاستجابة غير المتوقعة لهذا الحدث، استجابة تجمع اللامبالاة إلى غضب دفين في طيّاته، ثم يأتي رد الفعل ليكون استسلاميا تماما، في حين لا يشعر القارئ أنه أمام شخصية مريضة بل شخصية تعيش قدرها الخاص، وربما العبثي الذي لا فكاك منه بأي حال من الأحوال. أيضا ليس هذا بموقف من العالم القاسي بل يشعر المرء أنه نوع من السخط، لكنه معكوس على “ذات اجتماعية” أو أنه محاولة لتبديد الإحساس بالقهر عبر الخنوع بكل المقاييس، وربما يبرز ذلك أكثر من سواه في: ثمالة، وأنثى السرير، وما تنطوي عليه الأخيرة من نَفَس سردي يقرّب هذه القصة إلى البنية الروائية أكثر من البنية القصصية خاصة مع اتساع عدد الشخصيات وتشابك التفاصيل الصغيرة لكل حكاية تخص كل واحدة من الشخصيات، والتي دورها يتحدد في أن تبرز الحكاية الأساسية وتقوم بالتنويع عليها. لكن اللافت في كتاب “منينة” هو أن الشخصيات شديدة الغنى والتنوع، ولربما هي نتاج وعي خاص بطبقة متوسطة تحدث في عالمها “أشياء” متخيلة كما لو أنها فعلا تنتمي إلى واقع ما، غير ان الطريف في الأمر أن هذه الطبقة تكاد تكون بلا وجود حقيقي فاعل على مستوى الواقع، وعلى الأرجح لذلك هي متخيلة أو هكذا يشعر المرء، عندما يفرغ من الكتاب. تبقى “منينة”، القصة التي أخذ الكتاب عنوانه منها، مختلفة إلى حدّ ما، إنها ذات طابع رومانتيكي، أي أنها ممتلئة بحنين ما، إنما ليس إلى شخص أو مكان، إنما إلى زمن طفولة بعينها وذكريات مرتبطة بامرأة من ذلك النوع من النساء كلما كبرن في السن أحبهن الناس جميعا أكثر، يوصفن احيانا بأنهن نساء “شعبيات” لاهتمامهن بشؤون الآخرين وتورطهن فيها رغم أنهن لا يملكن شيئا يقدمنه للآخرين. هذا النوع من الشخصيات النسوية الموجودة غالبا في تفاصيل وتضاعيف المجتمعات الإنسانية نادرا ما انتبه إليهن السرد القصصي وقدمهن على نحو ما هنّ عليه دون رتوش؛ نادرا ما ارتقى إلى طيبتهن وصفائهن. مريم الناصر تفعل ذلك، مسبوقة بما قدمته الرواية العربية في هذا السياق أكثر مما قدمته القصة العربية، على الأرجح، وليس على وجه اليقين. على المستوى التقني في الكتابة، لا تجنح مريم ناصر إلى اللغة الشعرية، إنها تقدم الحدث والشخصية دون مواربة أو احتمالات تأويل، وربما أنها تترك لقارئ ما أن يذهب نحو دلالة واسعة وكبرى وليس تحليل لرموز وإفراط في تأويل لا طائل. “هكذا هي الأمور ببساطة” لسان حال كتابتها القصصية يقول. وقد يصح هذا القول على الكثير مما تنتجه القاصات الشابات في الإمارات بالفعلن لكن ميزة مريم ناصر وشخصياتها وأحداثها أنها تنطوي على فائض من التخييل المباغت وغير المتوقع. على هذا المستوى، يبقى القول، إن ما سبق ذكره لا يعني أن مريم ناصر في مجموعتها الأولى “منينة” تجترح أسلوبا خاصا خارج ما هو مألوف، بل إن ما أجمل ما في كتابها أنه مجموعة أولى بالفعل ويحمل تلك الطزاجة والغرابة في السرد وبناء الشخصية الذي يبهر لكننا ندرك أن ما تشترطه الخبرة الواسعة في البناء القصصي ما زال يحتاج إلى بلورة أكثر وإلى التخلص من فائض السرد. أيضا، ربما أن هذا الكتاب القصصي يثير مسألة التجنيس الأدبي، فهو يحفز على قراءته لأنه يثير أسئلة: هل تكفي خمس قصص، توصف بأنها قصص قصيرة، لتصنع مجموعة قصصية؟ هل يمكن لقصة تمتد على مساحة سبع وستين صفحة، هي “منينة”، من بين مائة وثماني وستين صفحة من القطع المتوسط، أن تكون قصة قصيرة فحسب؟ أم هي نوفيلا؟ توقف الدرس النقدي العربي حيال إشكالية التجنيس هذه عند توصيفين: قصة طويلة أو رواية قصيرة. والحال أن الأمر قد تجاوز هذا الاختزال من التوصيف إلى تحديد تضاريس النوع، فتوصف النوفيلا بأنها أطول من القصة الطويلة وأقصر من الرواية، ويبلغ عدد كلماتها ما بين الثلاثين ألف كلمة إلى الأربعين، علما أن اعتبارات الطول أو الحجم ليست أمرا ذا بال، لكن الأكثر أهمية هو ان تمتلك الوحدة الموضوعية داخل بنية واضحة عبر الشخصية والفكرة واللغة، من مثل غوستاف فون في “موت في فنيسيا” لتوماس مان أو تلك القصص الأكثر من طويلة للروسي إيفان تورغينييف التي باتت من كلاسيكيات النوفيلا. فإذا كان الحديث عن شروط التجنيس وحدها، فإن تلك المواصفات، كي لا تكون الشروط، قد توفرت في هذه القصة الأكثر من طويلة والأقل من رواية، سواء على مستوى الوحدة الموضوعية أو على مستوى البنية الحكائية والسردية أو حتى على مستوى الشخصية، حيث أن شخصيتين متناقضتين في بيت واحد يجلبان إليه إشكاليات المجتمع الحديث. يُحسب لهذا الكتاب القصصي “منينة” أنه يثير إشكالية التجنيس هذه، كما يحسب له أنه قد يبشّر بروائية مقبلة، قد تكون واقعية وتحدث “الأشياء” بوصفها متخيَّلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©