الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مجاهد عزب: الفن تحرّر في التحرير

مجاهد عزب: الفن تحرّر في التحرير
12 يناير 2012
الفنان مجاهد عزب فنان ينتمي إلى جيل السبعينيات، قدم على مدار أكثر من 35 عاما عشرات المعارض وصمم مئات من أغلفة الكتب للعديد من دور النشر، وهو إلى جانب هذا وذاك يكتب الرواية والقصة القصيرة، وفي هذا الحوار معه نتعرف إلى تأثير الثورة المصرية على رؤيته وعلى الفن التشكيلي النخبوي، وكيف يرى أيضا تأثيرها في جيله والفنانين الشباب ومدى تعبيرهم عنها. ? هل توقعت قيام ثورة 25 يناير؟ وهل شاركت بها؟ ? لم يتوقع أحد ـ من جيلي على الأقل ـ قيام ثورة شعبية فى ميعاد كهذا مع فقد ثقة البعض فى قدرته على النهوض والانتفاض، وأغلب الظن أنها كانت وقفة احتجاجية من شباب معترض على أوضاع بعينها، وتمر كما مرت آلاف الوقفات من قبل، خصوصَاً وأن الثورة كانت محددة التاريخ والتحركات، والكل يعلم بها ويعد العدة لمواجهتها، أو هكذا كنا نظن ـ أيضا ـ بحكم الاعتياد. حيث كنا نقابل برصات متتالية من أعداد أفراد الأمن وفروعه بمختلف الدروع والهراوات والأسلحة كلما اتيح لهم، وعددنا في كل مرة لا يتجاوز المائة فرد، نقف في أماكننا المحددة دون إمكانية تحرك يحوطوننا من الجهات الأربعة وصياحهم غالب أعلى من كل هتافات المحتجين الذين يبح صوتهم بمجموعة محدودة من المطالب، ولا من مجيب!. أما وحين هلت بوادرها ـ هذه المرة ـ أصيب معظمنا بالدهشة والعجب، إذ كيف تمكن كل هؤلاء البشر من النزول وفي وقت واحد؟!، وكيف تسقط الدولة البوليسية التى عانينا منها طويلاً في بحر أربعة أيام؟!، لا تقل هو أثر التكنولوجيا وأفعال النت التي استطاعت استدعاءهم فقط. ولأن مصر دولة كبيرة قوية متماسكة، وبرغم الشك وغياب الأمل حتى ظن البعض أن انهيارها قريب وهوانها قادم، إلا أنها أذهلت الكل وبقيت دون سلطاتها وحرس أمنها المرعب من كبيرهم وحتى أصغر من فيهم، وضرب شعبها الطيب نموذجاً فريداً من الالتحام والإصرار على المواصلة. لقد شاركت منذ البداية كما شاركت في معظم الوقفات الاحتجاجية منذ زمن، لكن هذا ليس محلاً للبوح به هنا أو دعوة للفخار، فالمجد ـ كل المجد ـ للشهداء والمصابين وروح الشباب الثوري الذي دفع إليها، وأشد ما أذهلني أنا وأبناء جيلي ـ أيضا ـ استمرارهم دون ملل أو كلل؟ وكان الرهان دائما على الطبقات الشعبية البسيطة بغير حاجة من أحد للتنظير أو التشدق ببطولات يدعيها البعض الآن، لدرجة أنني قلت ذات ليلة لجمع من الأصدقاء ولست مازحاً: على كل من بلغ الخمسين أن يلزم بيته ويصمت الآن إن لم يكن للأبد!. تحت الصدمة ? وكيف كان تأثير الزخم الذي صنعته الثورة عليك كفنان؟ ? تسارعت الأحداث والارتباكات والعجز عن قراءة ماذا يحدث أو ماذا سيحدث بعد القليل من الوقت؟، فالكل غيب ولا أحد يعلم القادم القريب، حتى ترك الرئيس المخلوع كرسي الحكم ولاتزال صيحات الملايين بملء الحناجر تصر على استكمال ثورتها رغم البهجة ونسيم الحرية الذي بدا يهل ويرسم على وجوه البسطاء علامات الفخار والعزة برد الكرامة.. توقف كل شيء بالنسبة لي ولم أعد أفكر حتى ماذا أصنع أو ماذا نحن فاعلون. لا كتابة ولا رسم، ولا قدرة على قراءة حرف واحد. عجز الخيال عن ممارسة دوره في اكتشاف الحاضر والتطلع إلى مستقبل قريب، خصوصًا وأن الثورة لم تعرف حتى اللحظة إلى أين تتجه وكيف تحقق أهدافها؟، وما هي تلك الأهداف أصلا ؟!، رغم المعلن: “حرية، كرامة، عدالة اجتماعية “. نعم، كان يصلح هذا الهدف فى أيامها الأولى، لكن النتائج التى تحققت والإصرار عليها من شباب الثورة ربما فاقت التصور مع عدم وجود مجموعة قيادة لكل هذه الأعداد، وقد بلغت الـ 18 مليوناً يبيتون فى الشوارع، وزاد من قسوة الارتباك وجود عدد من المنتفعين ولصوص الجهد للسطو بلا رحمة على روح الثوار واغتصاب منجزهم. ? وماذا عن رؤيتك الفنية؟ ? حاولت الخروج من الاندهاش إلى حالة الرؤية والفعل والتعبير عنها، كأي حدث مر من قبل، لكن الحاصل فاق قدرة الكثيرين وأنا معهم على التعبير عنها، أو ربما هي الصدمة التى أصابتنا فوقفنا جميعا فى مربع السؤال: ماذا حدث، ثم ماذا بعد؟! . أحداث سريعة وأحوال متقلبة لا تعرف الثبات والتقاط الأنفاس، لتخرج بعد شهرين أو ثلاثة قليل من أعمال سريعة متلاحقة مثلها ـ لست وحدي في هذا ـ بخامات بسيطة من أحبار وأقلام الرصاص، لا يمكنك اعتبارها أعمالا كاملة، وأكثر ما تستطيع قوله: إنها تحضيرات لعمل أكبر، هي تسجيلات لحظية ليس إلا، مستعيناً بخبراتي في الإمساك بكل ما يعينني على الإنجاز السريع وقدرتي على استخدام الخامات البسيطة وتطويعها. لم تكن تجربتي الفنية في عمومها ومنذ بدايتها تنتمي إلى هذا الخط سريع التسجيل متلاحق الأحداث، كنت في السابق أسجل الوقائع نعم، لكنها تأتي على الراحة والسعة وبطيئة، إن هي ـ أيضا ـ إلا لحظة عابرة وتنتهي، على المقاهي أو في ركن من أركان بيئتنا الشعبية، وكان الغالب من الأعمال يتم داخل المرسم بعد استعادة الصور من الذاكرة، كما وأنك لا تنسى ندرة ما حدث وحجمه واختلاف أماكنه وتعدد ردود الأفعال تجاهها هنا وهناك. لذلك، لم يكن في الاستطاعة الابتعاد عن القلق والتوتر المستمر والمتابعة اللحظية لتدفق المتغيرات والشخوص ثم الخروج إلى ما ورائية المعنى وتحليله وعلاقتك به وكيف تراه؟. ? الفنان متصل بطبعه وأقرب إلى التعبير عن غيره؟ ? نعم ، الفنان متصل منفصل في آن واحد بطبعه، منفعل بالحدث لكنه لا يسجله ـ أو المفترض فيه ـ برؤية العابرين أو صور الكاميرا حين رصد حادثة ما. الفنان وقتها لا تأخذه الانفعالات الثورية فى المطلق، وإلا خرجت أعماله مجرد صياح أو قعقعة في الفراغ، لا تتجاوز بالتالي حدود أثر ما تفعله الفوتوجرافيا أو سينما الأخبار لدى الناس، وهذا ليس تقليلا أو حطاً من قدر الفوتوجرافيا، لكنك مختلف الأدوات والتناول ويجب عليك تجاوز ما تفعله تكنولوجيا الآلات والأدوات إلى ما هو أبعد وأكثر سحرًا بغير مبالغة أو ادعاء ما ليس واقعا ملموسا ومقنعاً، خصوصاً في أحداث يعرفها العالم ويراها عبر الشاشات بكل تفصيلة وقت حدوثها. في قلب الميدان ? لكنك شاركت وشارك معك الفنانون التشكيليون الشباب بشكل أو بآخر، انظر إلى هذه اللوحات التي تملأ جدران القاهرة والمدن الكبرى؟ ? بعد هدوء نسبي، دعيت من ائتلاف شباب التشكيليين إلى المشاركة في عمل لوحة أرضية في قلب ميدان التحرير، والشباب قد تولوا رسم الميادين والشوارع منذ اليوم الأول للثورة، لكنها كانت تجربتي الأولى معهم وقد ذكرتني بما كنا نفعله ونحن مثلهم زمن النكسة (1967) والرسم على الحوائط وشعارات النهوض. فى الميدان وسط الحشد الهائل من الناس، وكل ركن من أركانه ينادي بمطالبه الثورية، ومنهم من يتجاوز إلى اللامنطق أحياناً ولا يعدم الميدان ـ أيضا ـ وجود من يدعي الثورية والقفز على الحبال كما يحدث فى كل ثورات العالم. كان هدف الشباب التواجد من أجل التأكيد على سلمية الثورة وبهائها وتقريب المسافة بين الناس والفن. صدقني، أذهلني الحضور ومشاركة الناس، الكل يريد الرسم والتلوين حتى سألني رجل بسيط عن حاجتنا إلى خامات إضافية يشتريها من ماله الخاص رغم توافرها بما يفوق الحاجة إليها. خامات بسيطة ليس لها قابلية البقاء وتنتهي خلال يومين على اقصى تقدير، ولوحة بمساحة 150 متراً مسطحاً بأكثر من خمسين فناناً وفنانة وأعمار مختلفة، حتى نقيب التشكيليين حمدي أبو المعاطي جاء ليشارك أمام جمهور الميدان من البسطاء. ساعتان من العمل المتواصل الرائع ومنتهى البهجة، خرجنا جميعاً من التجربة بقناعة ألا ينفصل الفن ثانية عن الناس والشوارع والحارات ووجوب العودة إلى دفء أهالينا. ? كيف كان تأثير هذه التجربة عليك؟ ? ظننت أنني كبرت بعد أربعين عاما في الفن عملاً ومشـاهدة ومتابعة وفحصاً وتمحيصـاً وكتابة، حتى لقبوني بالأسـتاذ فتراخـيت وصـرت بطـيئاً مملاً، لكنـها الليلة وبدعـوة من ائتلاف شـباب التشـكيليين للمشاركة في رسم لوحة كبيرة المسـاحة وسـط الميدان ( 10×15 مترا ) تم إنجازها في اقل من ساعتين، بخامات بسيطة وسط بهجة ومحبة الناس ومشاهدة لا توصف. كم صرت شاباً بهياً مستمتعاً بروح البراءة والبدايات؟، كم كنت منطلقاً سعيداً بهمة أصحاب الحماسة لخدمة ورفعة هذا الوطن الأكبر والأجمل الذي يستحق، الليلة صغرت عشرين عاماً أو يزيد، إنها عودة الروح إلى الوطن، ودعني أقول لك بأعلى الصوت: ملعون من يحبطهم ثانية أيا كان هو!!. ? أعادت الثورة الفن التشكيلي لمتلقيه الأصلي في الشارع بعيداً عن الغرف والأتيليهات المغلقة؟ ? نعم أخرجت الثورة أحسن ما فينا، ودفعت بعدد كبير من شباب التشكيليين لإثبات ذواتهم والإحساس بالوجود وأهمية الفن ومشاركته حياة الناس، أعادت إليهم روح النهضة وعلة وجودهم، كما أخرجت فناً ظل حبيس جدارن اليأس ولا يعرف أحد عنه شيئاً اللهم إلا أهل الاختصاص، فانتشر فن الجرافيتي فوق الجدران وزاد من اقترابه وتفاعله بين الناس وعرف نوعه وأثره وتحاور حوله. نعم، صرت الآن مطمئناً على الفن المصري عامة والتشكيلي منه على وجه الخصوص بعد أن أبعدوه عن الفعل والتفاعل مع الناس لسنوات تحت دعوى الحرمانية مرة وتجهيل العامة مرات، فقط نريد القليل من الجهد وسعة الصدر. ? حدثنا عن جداريتك؟ ? أنهيت جداريتي الخاصة بالثورة أحبار على ورق (70×600 سم) واعتبرتها تحضيراً لجدارية كبرى أرجو الانتهاء منها قريبا، وأعمل الآن على الانتهاء من مراجعة البروفة النهائية لكتابي الجديد “حق الاختلاف ـ المسكوت عنه في الثقافة المصرية” وسيكون في الأسواق إن شاء الله على معرض الكتاب القادم (يناير 2012) ، أما عن مستقبل الثقافة في مصر، سأدهشك حين أحدثك عنها بعد الثورة في سطر واحد موجز: “الثقافة المصرية في طريقها إلى التجديد الشامل لخلق نقلة نوعية تختلف كلية عما سبق”، هي حركة التاريخ في إظهار العمق الحضاري لهذا الوطن، ولا يستطيع أحد مهما بلغ من قوة إيقاف حركة التاريخ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©