السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأذن وهاجس الإبداع في النص الشعري الإماراتي

الأذن وهاجس الإبداع في النص الشعري الإماراتي
4 سبتمبر 2008 01:41
في الفنون بوجه عام وفي الشعر بخاصة يختلط الخيط الأبيض بالخيط الأسود لدى عامة المتذوقين، لكن الخيطين يصبحان أكثر تمايزاً ووضوحاً لدى الشعراء والنقاد المزودين بثقافة نقدية تفقه جيداً تعدد الأصوات والتيارات في الشعر العربي· ويبدو أن تيارين قديمين جديدين في الذائقة العربية ما يزالان يهيمنان في الثقافة الاجتماعية العامة على معنى الشعر وقيمه عامة· التيار الأول يمثله المتذوقون الذين يطربون لأي نص ''جميل'' يتسم بوفرة ظاهرة من ''علامات الجمال''، ولا يشغلون بالهم بموقع هذا النص في مسار الشعرية العربية· وعادة ما يكون هؤلاء من خريجي مدرسة الذاكرة والأذن، أي النزوع إلى ما تم تأسيسه سابقاً على مستوى قيم الإبداع والتلقي، واعتباره سنداً ومعياراً لكل نص شعري يقترحه شاعر الراهن· يعتبر هؤلاء أن النص الشعري كلما توفرت فيه شروط نظيره في أبهى العصور الأدبية قديماً يكون ناجحاً، تنشده الحنجرة وتطرب له الأذن· واضح أن النص المنشود لدى هذا التيار لا تربطه وشيجة بالتغيرات التي تطرأ على الإنسان بصفته كائناً تاريخياً، بل إنه يرى أنه يمكن أن يتجمد الذوق الجمالي والموقف الفلسفي والطموح الإنساني في مرحلة ما من التاريخ، وما سيأتي بعدها سيكون مجرد تكرار للحظة التجمد· وهذا يعني أن الإبداع البشري يوجد في الماضي، وما المستقبل إلا امتداد زمني لتطبيق ما تم إنجازه سلفاً· خارج الزمن بطبيعة الحال، إن هذا التيار ليس مفهوماً نظرياً بحتاً، بل هو موقف ثقافي له ركائزه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الفاعلة في جميع المجتمعات العربية، ذلك أن الموقف الثقافي هو في أعمق معانيه موقف سياسي، لأن الإبداع الثقافي لا يحدث خارج الزمن وحركية المجتمع بل إنهما يشكلان الكيس الجنيني للفكرة الجميلة والفضاء الأوسع الذي تتفرع فيه وتتشكل وتتفاعل· وحتى لا نذهب بعيداً في التوصيف التنظيري يمكن القول إن الساحة الثقافية في الإمارات ما تزال أكثر ميلاً في بنيتها التذوقية للنص الطربي القديم، فليس مطلوباً من الشاعر وفق هذا النهج أن يأتي بالجديد غير المسبوق في الرؤية واللغة والكشف بل يكفيه أن يمتع الأذن بما أنجزه غيره من الشعراء سابقاً لتكون له الصدارة والمكانة المرموقة· ويمكن ملاحظة هذا الميل في المناسبات الكبرى والمسابقات الأدبية، كما يمكن ملاحظة ذلك في المادة الشعرية التي تبثها الإذاعات والتلفزيونات وما يروج من نصوص شعرية في مناهج التربية والتعليم· من الطبيعي أن لا يُطالب ـ بفتح اللام ـ المجتمع الإماراتي بتفهم فوري لحساسيات الحداثة الشعرية، لأن علاقته بالحداثة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية لم تبدأ نشاطها فيه إلا بقيام الدولة، ولأن مجتمعات عربية أقدم منه في التشكيل السياسي ما يزال النكوص الثقافي يهيمن على مؤسساتها وبنيتها الاجتماعية، ما يعني أن تقبل المجتمع للنص الشعري الحداثي كما تكتبه الشاعرة المميزة خلود المعلا الفائزة مؤخراً بجائزة بلند الحيدري في المغرب لا يمكن أن يحدث من باب المعجزة، بل إنه لن يحدث إلا وفق وسائط ومؤثرات مفصلية ذات طابع تعليمي وإعلامي تشجع التوجه نحو المغامرة نحو المستقبل، لإن الإبداع هو في جانب من جوانبه وليد المغامرة والقفز في المستقبل على حد قول نيتشه ''إذا كان صديقك على شفة كهف فادفعه عله يتعلم الطيران''، بل إن الإبداع يتميز بالكشف المستمر عن قوى خفية لا متناهية في الإنسان، ولا يتم ذلك الكشف إلا إذا كان الإنسان في حالة خطر، والمغامرة الواعية مظهر من مظاهر ذلك الخطر· أبعاد جنينية هنا، يجب التريث قليلاً، إن الإبداع كما يفهمه تيار الحداثة ويُنظر له في جميع العصور الأدبية هو أشبه بالبذرة في أبعاده الجنينية، لذا كان أول سؤال يجب طرحه حين يتم الحديث عن النص الشعري الحداثي هو هل المجتمع الذي يكون عينة للدراسة جاهزاً من حيث بنيته النفسانية والتاريخية والاجتماعية لغرس هذه البذرة ؟ ما أقترحه شخصياً هو أن المجتمع الإماراتي جاهز لتقبل الحداثة التكنولوجية والاقتصادية بصدر رحب، لكنه يتقبل الحداثة الثقافية والاجتماعية بصدر زاخر بالقلق والألم، إنه مجتمع طموح في توجهاته وخائف من خطواتها السريعة، خائف من اجتثاث جذوره التراثية لأنه يدرك أنه يختلف عن المجتمع الياباني الذي انخرط بقوة في الحداثة بمفاهيمها المادية والرمزية وهو يقف على أرض تراثية صلبة وغير مهددة من قبل الغير· أما مجتمع الإمارات فقد كان مطالباً بتنمية متطورة في فترة زمنية قياسية، ومطالباً بالتعايش مع ثقافات وأديان يصعب حصرها، ومطالباً بالتميز في الإنجازات المادية التي تشكل البنية التحتية للدولة الحديثة القادرة على دخول سوق التنافس العالمي، ومطالباً في الوقت نفسه بالحفاظ على صفاته التي هي محصلة لعلاقة التاريخ الثقافي في المنطقة بالصحراء ومياه الخليج· أسباب أخرى من الطبيعي أن هذه المطالب تعيد إلى الذاكرة قول الشاعر ''ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له / إياك إياك أن تبتل بالماء''· لأنه لا يمكن لمجتمع عدد سكانه غير كبير أن ينفذ كل تلك المطالب من دون قلق على هويته الاجتماعية، ولعل التخوف من الحداثة الثقافية وفي مقدمتها الحداثة الشعرية ناتج عن الضغط النفساني من جهة والخوف من اجتثاث الجذور من جهة أخرى· غير أن هذا الخوف ليس هو السبب الأوحد في الإزورار عن الحداثة الاجتماعية والثقافية بل إن للأمر أسباباً أخرى ذات صلة بانهيار القيمة الأخلاقية للعمل اليدوي وبالرفاهية والتوجهات العامة· ويمكن للملاحظ أن ينتبه إلى أن التوجهات الثقافية الحداثية في الشعر وغير الشعر في الإمارات محصورة لدى أفراد ينتمون إلى جراحات وأسئلة ذات دلالة· وكل المبدعين الاتباعيين في الشعر وغير الشعر ينتمون إلى عصبيات ذهنية ومادية مستقرة· ومن الضروري الإشارة إلى أن المؤسسات الثقافية في الدولة تسهم في طباعة قصيدة النثر من خلال مجموعات شعرية، ولا ترى نفسها مسؤولة عن مدى تقبل المجتمع لهذه القصيدة، لأنها تترك الفضاء حراً لكل التيارات الأدبية، وفي ظل هذه الحرية الثقافية تتشكل الأفكار الجديدة وفق قانون الصراع النبيل· والحقيقة أن شعراء قصيدة النثر في الإمارات أصبحوا يقفون في مواقع ما كانت متاحة لهم في سنوات سابقة· أما مطالبة المجتمع باحتضان قصيدة النثر فيتطلب إزاحة القلق على الهوية الثقافية التراثية ويتطلب أموراً أخرى هي في حاجة إلى زمن، غير أنه من الناحية الاستراتيجية لا يجب الركون طويلاً إلى عامل الزمن البعيد المدى لأن الطائر الذي لا يواجه ويصارع الرياح يضعف جناحاه، ولأن المجتمع الذي يحتضن هذا الكم الهائل من التكنولوجيا والثقافات مطالب أكثر من غيره بالإجابة على الأسئلة الكبرى التي تخص مستقبله، لأنه لا يملك الوقت وراحة البال اللذين يملكهما غيره من المجتمعات، ولأن التكنولوجيا ليست مادة حيادية بل إنها تفرض قيماً وسلوكات جديدة لا سابق للمجتمع بها، وهي كفيلة إلى جانب عوامل أخرى بدفع المجتمع إلى الأمام من دون الاكتراث بجراحاته وتردده وخوفه على تراثه وهويته· من هنا، كان على المثقف والباحث الأنثروبولوجي وهما يتناولان الإبداع الثقافي والهوية والمستقبل في الإمارات أن لا يكونا حياديين بل مرتبطين عضوياً بجراحات المجتمع وإنجازاته وطموحاته، وأن يسهما في شق فضاءات جديدة للحوار مع التراث والحداثة معاً برؤية جديدة تشارك فيها الأنتلجنسيا الثقافية الجامعية والأهلية بما يخدم المصلحة العليا في إطار التوجيهات الاستراتيجية للدولة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©