الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمود ثانية

محمود ثانية
4 سبتمبر 2008 01:35
قبل أن تجتاح إسرائيل بيروت، كتب درويش قصيدته الشهيرة ''سنة أخرى فقط''· وكان أن توسّع العديد من النقاد، لما رأوا الاجتياح فظّا كاسرا، في الحديث عن البعد الاستشرافي في هذه القصيدة التي ترجّى فيها الشاعر أصدقاءه أن لا يموتوا فجأة حتى يتمكّن من رثائهم أجمعين فافتتحها قائلا: ''أصدقائي لا تموتوا فجأة/ أمهلوني سنة أخرى فقط''· ثم كان أنْ تعوّدت العرب على المُصاب والمصائب· منذ تلك القصيدة ظل محمود يواصل كتابة الشعر الذي يفي بحاجات الفنّ وحاجات أمّة العرب المنكسرة إلى كلمة مُقاوِمة· لكن فكرة المقاومة نفسها انفتحت على بعد وجودي ذاتي خطير· صارت الكتابة تفتتح مجراها في تلك العتبة الفاصلة بين الضدّين المرعبين: الوجود والعدم· يكفي أن نقرأ ''الجدارية'' وسيتبيّن أن الكلمات جاءت محاطة بظلال هي ظلال الموت وفتنته، وصار الشعر عبارة عن منازلة عنيدة لفكرة الموت وغوايته· بعد هذه المجموعة المنعطف ستعلن منازلة العدم عن نفسها في شكل احتفاء باللغة وتمجيد للكلمات· ثمة تسليم في الدواوين الأخيرة بأن اللغة هي مأوى الكائن وهي الوسيلة الوحيدة التي تمدّه بالمقدرة على منازلة عدمه الخاص· عديدة هي القصائد التي ارتادت هذه المناخات: ''من لُغَتِي وُلدتُ/·· مَنْ أنا؟/ سُؤالُ الآخرين ولا جوابَ لَه/· أنا لُغَتِي أنا··أنا لُغَتِي· أنا ما قالتْ الكلماتُ''· إن الاحتماء باللغة على هذا النحو يعني الانتقال من العالم المعيش إلى دنيا الكلمات· وهذا ما يجعل من كل كتابة إبداعية أصيلة مفتوحة على العدم· ذلك أن الخروج من الزمن الواقعي إلى زمن الكتابة سعادةٌ مضنيةٌ معذِّبة· تتأتّى السعادة من كون زمن الكتابة هو الزمن الذي يغادر فيه الشاعر العالم المعيش العدائي الذي ينعته بكونه ''عالما لا يردّ التحية''· لكن الهجرة من الواقع إلى عالم اللغة سرعان ما تتحول إلى عتبة مفتوحة على فكرة الغياب ذاتها· فالموجودات التي يبني بها الشاعر نصّه لا تحضر في النص إلا بعد أن تغيب في الواقع· إن الشاعر يعيد تشكيلها ويقيم بينها علاقات نصية ليست موجودة في الواقع· وبذلك يصبح تحققها في النص مشروطا بغيابها في الواقع· من خلال الحضور يتراءى الغياب كاسرا· والراجح أن درويش ظلّ مسكونا بهذا الهاجس الوجودي منذ دواوينه الأولى· ففي الدواوين الأولى كان الموت حاضرا، وكان التغني بالطفولة بقهوة الأمّ، ولمسة الأم، وخبزها بمثابة محاولة لصعود الزمن عكسيا إلى الوراء لأن العودة إلى الطفولة تكسر تعاقبية الزمن؛ فكلما تقدم الزمن كان التقدم باتجاه المنفى الأبدي· أما في الدواوين الأخيرة فإن الاحتفاء باللغة هو البعد الوجودي الحقيقي الذي يمدّ الشعر بناره ولهبه· لقد نام محمود ملء جفونه، كما المتنبّي نام، لكن هذا الصوت باقٍ كي يحرس اللغة ويربك النقد: ''يا لغتي! هل أكون أنا/ ما تكونين؟ أم أنت يا لغتي/ ما أكون·''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©