السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دقة عالية

دقة عالية
14 ابريل 2012
هناك أخطاء عديدة في الأفلام السينمائية.. هذا صحيح. عندما تشاهد محارباً في جيش صلاح الدين يلبس ساعة رقمية، أو ترى إحدى العربات الحربية ذات الخيول تخترق ساحة سيركوس ماكسيموس في فيلم المصارع، وهي تقذف النار ودخان العادم، أو ذلك الخطأ الشهير في الفيلم نفسه عندما ظهر واحد من المصورين وهو يمشي بثيابه العصرية وسط ميدان القتال، فبدا يخترق صفوف الجنود الرومان غير مبالٍ بشيء.. عندما ترى هذا تدرك أن الدقة مهمة جداً.. في مسلسل مصري يدور أيام حرب الاستنزاف “1969”، ترى الراقصين في نادٍ ليلي يرقصون الراب على أغاني مايكل جاكسون، وفي فيلم القاهرة 30 يتكلم الرجل، وهو يضغط على قلم جاف زنبركي، وهو نوع لم يكن اخترع وقتها.. إلخ... كل هذا جميل، ولسوف تكتشف عندما تتصفح شبكة الإنترنت أن الأخطاء كثيرة جداً ومضحكة. المشكلة هي أن تتبع هذه الأخطاء صار هواية في حد ذاتها، وبطريقة تضايق المشاهد فعلاً. في مشهد إنساني ساحر من فيلم “إنقاذ المجند رايان” لاحظ أحد المشاهدين الغربيين أن الأم تنهار، بينما حقول القمح نامية.. وهذا لا يمكن أن يحدث في توقيت أحداث الفيلم. لاحظ مشاهد دقيق آخر أن الصلاة التي يؤديها الغارقون على ظهر التيتانيك لم تكن قد كتبت عندما غرقت السفينة، وكذا لاحظ آخر أن الفرقة تعزف لحناً تمت كتابته بعد غرق السفينة بعشر سنوات.. بعد قليل، تشعر بعدم الراحة وبأن هذه الدقة تجاوزت حدها فعلاً. هؤلاء قوم يشاهدون الأفلام للبحث عن أخطاء وليس لمتابعة القصة. في الماضي، كنت تدخل السينما مجبراً على متابعة التجربة، ولو أردت أن تعيد لقطة ما فعليك أن ترى الفيلم ثانية.. ثم ظهر الفيديو ومعه جاء تثبيت اللقطة. على فكرة، أكثر اللقطات تثبيتاً في تاريخ الأفلام- كما قالت مجلة امباير البريطانية - هي لقطة الذبابة التي تسللت إلى فم الممثل وهو يصرخ في فيلم “غزاة تابوت العهد المفقود”. بعد الفيديو جاء الـ”دي في دي”.. هكذا تحول الناس إلى أمة من الذين يعيدون رؤية اللقطة مراراً.. وهكذا عرف الناس للمرة الأولى أن أسنان القرش المطاطية في فيلم “الفك المفترس” تنثني.. وللمرة الأولى سقطت هيبة الفيلم، وقال أحدهم إن مؤثراته الخاصة ضعيفة ومخجلة! تدمير المتعة.. هدم الإيهام.. هذا ما يفعلونه بلا توقف.. إن بعض التجاهل مفيد.. دعك من أنني ضعيف الملاحظة أصلاً. في فيلم “دكتور بارناسوس”، لم ألحظ أن بطل الفيلم نفسه تغير إلا عندما أخبرني أصدقائي بذلك! أما عن هواة الدقة في عالم الواقع، فهم يستحقون عدة مقالات. تحكي عن ثورة أكتوبر في روسيا التي أدت لذبح آل رومانوف، فيستوقفك أحدهم: من قال إن آل رومانوف ماتوا بسبب الثورة؟.. تقول له: مثلاً يا سيدي.. مثلاً. لكنه يتوقف عند هذه النقطة فلا تستطيع الاستمرار. هؤلاء الذين تقول لهم صباح الخير، فيوقفونك عند حدك.. لا يوجد شيء اسمه صباح الخير، وإنما هو نعمت صباحاً.. تحكي عن بونابرت وطموحه فيؤكدون أن بونابرت لم يكن طموحاً وإنما زوجته أوجيني هي التي كانت ترغمه على ذلك.. إلخ.. الدقة!.. الدقة شيء مدمر... شيء كالملح.. بعضه يكسب الطعام مذاقاً شهياً، لكن الإفراط فيه يجعل الأكل عملية انتحارية ويفسد شهيتك... وإذا كانت الدقة مطلوبة في تجربة لقياس شحنة الإلكترون فهي غير مطلوبة بالقدر نفسه في فيلم عاطفي. لا أحد يطالب بأن يمشي المخرج أمام الكاميرا ويكلم الأبطال، لكن لا بأس أن تكون تسريحة شعر البطلة متأخرة عامين أو أكثر عن تاريخ القصة.. ألا ترى هذا معي؟ د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©