الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

واشنطون ايرفنج.. المسحور يروي السحر

واشنطون ايرفنج.. المسحور يروي السحر
28 أكتوبر 2009 22:02
تحتفل مدينة غرناطة هذه الأيام بالذكرى المائة والخمسين على رحيل الكاتب الأمريكي واشنطون ايرفنج صاحب كتاب “حكايات الحمراء” الذي كان أول من لفت النظر إلى هذه المدينة وتاريخها العريق. فقد جاءت زيارة ايرفنج إلى غرناطة و”قصور الحمراء” عام 1828 لتصنع أسطورة حية خلقت من المدينة وقصورها العربية مزارا سياحيا تقصده الملايين كل عام. إلى جانب هذا فإن “واشنطون ايرفنج” يعتبر أول من وضع اللبنات الأولى في أدب الرحلات الرومانتيكي الذي كان غائبا عن الأدب الغربي في شكله الإبداعي المتخيل حتى بدايات القرن الثامن عشر، وهو أدب نشأ في الغرب متأثرا بما أسموه “الرؤية الاستشراقية” التي طبعت حقبة كاملة وانعكست على كتابات الرواية وفي الفنون التشكيلية. “حكايات الحمراء” قبل أن يكتبها هذا المبدع الأميركي كانت لها حكاية أخرى، فقد كان “واشنطون ايرفنج” يعمل في السلك الدبلوماسي وذهب إلى مدينة إشبيلية تلبية لدعوة من صديقه القنصل الروسي في ذلك الوقت، ومنه سمع عن “قصور الحمراء” في غرناطة والتي كانت مهملة يسكنها الغجر واللصوص والخارجون عن القانون بعد أن أهملتها الدولة الإسبانية باعتبارها من بقايا “الاستعمار العربي الإسلامي”. جذب الوصف الذي قدمه القنصل الروسي لتلك القصور هذا الكاتب العبقري فقرر تحمل عناء السفر من أشبيلية إلى غرناطة على ظهر بغل وبصحبة دليل يركب حمارا، ليتعرف عن قرب على هذا الأثر التاريخي والحضاري العظيم الذي يدل على مدى التقدم والرقي المعماري الذي وصلت إليه الدولة النصرية قبل سقوطها معلنة نهاية تلك الحضارة، فوصلها يوم 9 مارس من العام 1828 وبقي فيها حتى العشرين من الشهر نفسه، أحد عشر يوما كانت كافية لتسحره المدينة وآثارها العربية الإسلامية، وتصيبه بحمى الاستشراق فكان قراره بالعودة إليها مرة أخرى والبقاء فيها لفترة أطول. وظل واشنطون ايرفنج يتحين الفرصة للعودة إلى غرناطة إلى أن جاءته من جديد ليصل إليها في العام التالي، ويبقى فيها من الرابع من مايو وحتى التاسع والعشرين من يوليو من العام 1829، ثلاثة أشهر كانت كافية ليقدم “حكايات الحمراء” التي دشنت “أدب الرحلات المعاصر”، ففي تلك الأشهر الثلاثة بذل قصارى جهده للاقتراب من هذا الأثر الحضاري حتى إنه قدم رشوة للقائمين على حراسة القصور ليتركوه يقيم في إحدى غرفها خلال تلك الفترة، فكانت إقامته في “صالة الفاكهة” التي تزين أسقفها لوحات جدارية رسمها خوليو اكيليس واليخاندرو ماينير عام 1537 وهما من تلاميذ العبقري الإيطالي “رفائيل” الذي يعتبر من أهم فناني عصر النهضة، وهناك نبعت فكرة “حكايات الحمراء” التي تمت ترجمتها إلى معظم لغات العالم. قبل مغادرة ايرفنج إسبانيا متوجها إلى لندن ليتسلم عمله هناك سكرتيرا بسفارة الولايات المتحدة قال: “لقد أصابني سحر الحمراء ومن المحتمل ألا أكون قادرا على التخلص من هذا السحر”. الواقع والخيال كتب واشنطون ايرفنج “حكايات الحمراء” على هيئة عالم يختلط فيه الواقع بالأسطورة والتاريخ بالخيال مع توشية هذا العالم بملامح شرقية فرضتها عليه رسوم جدران قصور الحمراء وحكايات من أقاموها أو عاشوا فيها، مستخدما أيضا شخصيات واقعية عرفها خلال حياته العملية وأسفاره التي لم تكن تنقطع، إضافة إلى الحكايات الكثيرة التي سمعها من سكان المدينة الذين اختلط عليهم الواقع بالتاريخ الأسطوري، مدعين أنهم سمعوا تلك الحكايات من آبائهم، وأولئك سمعوها بدورهم من الأجداد حتى وصلت إليهم، إلى أن صدرت عام 1832 تلك الحكايات في طبعتها الأولى باللغة الإنجليزية لتعبر بعد ذلك إلى العديد من لغات العالم صانعة أسطورة وتاريخا جديدين ينبعان من أسطورة وتاريخ تلك القصور العربية ويختلطان بالهالة الرومانتيكية التي كانت ولا تزال تحيط بالمكان. تدور الحكايات حول أحد الجنود الذين رافقوا الملوك الكاثوليك في غزوهم لغرناطة، وبقي هناك لحراسة أحد الأبراج بعد أن سقط سجينا بفضل سحر أحد الفقهاء المسلمين الذين غادروا غرناطة بعد أيام قليلة من سقوطها في أيدي الملوك الكاثوليك تاركا من خلفه الكثير من الحكايات حول كنوز لا تعد ولا تحصى أخفاها العرب عن المسيحيين قبل غزو المدينة. وكان الفقيه الساحر قد وعد الجندي الكاثوليكي بإخراجه من البرج وفك أسره من سيطرة سحره بعد أيام قليلة، إلا أنه لم يعد أبدا فظل الجندي سجينا في البرج وحارسا مسحورا للكنز الذي تركه الفقيه الساحر. إلا أن هذا السحر يفقد مفعوله كل مائة عام، فيمكن للجندي السجين أن يخرج من برجه إلى شوارع مدينة غرناطة، لأن حريته تكون مؤقتة لعدة أيام، ومرهونة بعثوره على شخص يحمل خاتما مصنوعا من الذهب والفضة، وعليه نقش “خاتم سليمان” الشهير، حتى يمكن فك السحر الذي يخضع له الجندي، وإذا لم يعثر عليه في تلك الأيام القليلة يعود الجندي مجددا إلى سجنه بالبرج في انتظار مرور مائة عام أخرى. وتقول الأسطورة التي كتبها واشنطون ايرفنج في “حكايات الحمراء” أنه في الأيام التي خرج فيها الجندي الكاثوليكي من سجنه المسحور بحثا عن الخاتم، دخل المدينة فتى من مدينة “سلمنقا” ويحمل على ظهره قيثارته وفي إصبعه “خاتم سليمان” الذي ورثه عن آبائه، وما أن دخل الفتى مدينة غرناطة حتى وقع في حب فتاة تعمل في خدمة أحد رعاة الكنيسة، وغازلها ولكنها لم تستجب له. ولمكافحة الحزن الذي أصيب به الفتى جراء رفض الفتاة الاستجابة لمغازلته ذهب إلى خارج المدينة، وجلس على الجسر الذي يربط المدينة بهضبة قصور الحمراء، وظل يعزف على قيثارته ألحانا يواسي بها نفسه، وما أن انتصف الليل حتى زاره الجندي الكاثوليكي المسحور، ولم يكن باستطاعة أحد رؤية الجندي المسحور سوى الفتى لأنه يحمل خاتم سليمان، وحكى الجندي المسحور على مسامع الفتى حكايته، وقال له إنه لا يستطيع فك أسره وتحريره من قبضة الساحر والعثور على الكنز المدفون سوى “فتاة عذراء تحمل خاتم سليمان، يرافقها قس لم يتناول طعامه أربعة وعشرين ساعة ليقرأ بصوت عال تعويذة فك السحر”. لا يقص علينا واشنطون ايرفنج كيف استطاع الفتى العثور على محبوبته العذراء والقس وإقناعهما بالقيام بهذا العمل، وتماما كما تقول الحكايات ذهب الثلاثة بحثا عن البرج الذي يوجد فيه الجندي الكاثوليكي الأسير، كانت الفتاة تحمل الخاتم في يدها وقرأ القس التعويذة بصوت عال فتمكنوا جميعا من الدخول وفك أسر الجندي، وملأ الفتى صاحب الخاتم جيوبه بالجواهر التي عثر عليها في الصندوق الذي يضم كنز الفقيه الساحر. لكن فك السحر لم يدم طويلا، لأن القس الصائم كان جائعا جدا فخرج من البرج متعجلا وبدأ في تناول قطعة من اللحم كان يحملها في كمه، ففقدت التعويذة قدرتها في اللحظة التي كان يحاول فيها الجندي الكاثوليكي فك سلاسله، وعادت أبواب البرج إلى الانغلاق لتغرق الجميع في ظلمة حالكة، وعاد صندوق الكنز إلى مكانه القديم، وتحولت الجواهر التي وضعها الفتى صاحب الخاتم في جيوبه إلى رمال لا قيمة لها، وبذلك ظل الكنز في مكانه بالبرج المطل على “حدائق العريف” والجندي الكاثوليكي عاد إلى أسره تحت سيطرة سحر الفقيه العربي حتى يومنا هذا.
المصدر: أدب الرحلات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©