السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تشومسكي الساذج والحركة وصناعة الحقيقة

تشومسكي الساذج والحركة وصناعة الحقيقة
9 يونيو 2010 20:29
اقرأ عن مقابلة أجراها “الصحفي والمؤلف الشهير كريس هيد جيز” (أضعُ هذا بين قوسين لأنني لم أسمع عنه من قبل) مع المفكر الأميركي والعالم اللغوي المعروف نعوم تشومسكي ونشرها في موقع (تروث ديغ) على شبكة الإنترنت بالأمس. والمقال الذي اقرأه يلاحظ أن تشومسكي “مكروه” ولكنه “مرهوب في أوساط النخبة الليبرالية (والتي من المفروض أنها تنتمي إلى خطابه، أو ينتمي خطابه إلى الأفق الليبرالي العريض) أكثر مما في أوساط الجناح اليميني الذي يشجبه أيضاً”. ويضرب كاتب المقال مثالاً ساخراً على ذلك، “فعندما قرر كريستوفر هيتشنز (الصحفي والمؤلف الأميركي التقدمي) أن يصبح دمية في يد إدارة بوش بعد هجمات 11-9، كان أحد أولى الأمور التي فعلها، أنه كتب مقالة مسمومة هاجم فيها تشومسكي، فقد كان هيتشنز، خلافاً لمعظم من يخدمهم، يعرف من هو المثقف ذو الشأن في أميركا”. فمن أين أتى هذا “الشأن”؟ هل لأن شجاعة تشومسكي، كما يكتب ذلك الكاتب، “في الحديث نيابة عمن يجري التهوين عن معاناتهم إلى الحد الأدنى، أو تجاهلها في الثقافة الجماعية، يحفظ إمكانية الحياة الأخلاقية”، أم لأن تشومسكي في حديثه يقول ما لا يُقال، يكشف عما يُخفي، ويقود التفكير إلى مناطق محظورة ومطموسة ومتجنبة، يقول: “أحاولُ أن أشجع الناس على التفكير في الأمور بأنفسهم، والتساؤل حول الافتراضات القياسية، وأقول لهم: لا تأخذوا الافتراضات على أنها مسلمات، بل ابدأوا باتخاذ موقف متشكك إزاء كل ما يعتبر حكمة تقليدية شائعة.. ولتكن لديكم رغبة في طرح الأسئلة عما يعتبر مسلمات.. ثمة كم هائل من المعلومات، وعليكم أن تتعلموا كيف تحكمون عليها، وتقوِّمونها وتقارنونها مع الأمور الأخرى. صحيح أن عليكم أن تسلموا ببعض الأمور وإلا فلن تستطيعوا العيش، ولكن إذا كان ثمة شيء جوهري ومهم، فلا تسلموا به وتأخذوه على محمل الثقة، وما أن تقرأوا شيئاً غير منسوب لمصدر ثقة، فينبغي أن ترتابوا فيه على الفور”. مايو 2010 مثل هذا الحديث من الممكن أن يعتبر “مباشراً بصورة مفرطة نوعاً ما”، بل ومن الممكن أن “يعتبره الأشخاص العالمون ساذجاً نوعاً ما”، فالمتحدث هنا، أي تشومسكي، عالم لغوي ذو شهرة عالمية، فكيف يمكن أن يكون حديثه بمثل هذه البساطة؟ ثم أن المشكلات التي يتناولها تشومسكي ويدعو الناس بالطريقة التي يدعو فيها أعلاه تبدو “بحثاً عن الحقيقة” بسيطاً “نظراً إلى درجة تعقيد النظريات الاجتماعية والسياسية والفلسفية أو غيرها التي يُعتقد عموماً أنه يجب اقتراحها لمعالجة المشكلات”. هذه الملاحظة يُبديها جاك بوفريس، الأستاذ في (الكوليج دي فرانس)، في مقدمة لأحد كتب تشومسكي، والذي صدر هذا العام بمناسبة زيارة الأخير إلى باريس في الفترة ما بين 28 إلى 31 مايو. وبهذه المناسبة كذلك نشر ملحق (لوموند ديبلوماتيك) والصادرة طبعته العربية في مطلع هذا الشهر، ملفاً عن تشومسكي ضم مقتطفاً من مقدمة بوفريس، مع “مقتطفات من مداخلات تشومسكي”. بوفريس، في مقدمته، يعتبر تلك السذاجة “حول مسائل من هذا النوع” نزاهة فكرية، ويعترف: “... لطالما أُعجبت بالسذاجة التي برهن عنها تشومسكي حول هذه النقطة، والتي يمكن للكثير من الفلاسفة الاستلهام منها بإفادة، لو كانوا أكثر حساسية حيال الخشية من العبثية والأنانية، لست أكيداً من أنني قادر على مشاركته تفاؤله تماماً وأمله بالمستقبل، لكن ذلك عائد ربما إلى شعوري بأنه يجب على المرء أن يكون ملتزماً مثله ليحق له فعلياً أن يكون متفائلاً”. الحس والمبضع والحفر النقدي من مواليد القلق وتبعث على التشاؤم، وليس ذلك التفاؤل الذي ينتاب حركة تشومسكي النقدية إلا من تلك السذاجة التي يتناول فيها المسائل التي هي معقدة، كما أنه وبتفاؤله ذاك بماذا يختلف عن جموع المتفائلين الذين يعتقد كل واحد منهم “بأنه يمكننا، بكل راحة بال، أن نترك التطور يتبع مساره على غرار غالبية ما كان يحصل في السابق، مع القناعة بأن المزيد من البحث والتقنية الجديدة بين قوى السوق ستعيد في النهاية كل شيء إلى مكانه المناسب”. ولقد غرقت الحكومات في مثل هذا “التفاؤل الذي يولده العجز، وأنها تحاول أن تغرق معها جماهير البشر التي تقودها”، محاولة إغماض العيون عن “حقيقة” الوجود والحياة “العادية”، وذلك ينم، وفق ما يقوله الباحث السويدي فون رايت في “ميثالوجيا التطور” عن “انعدام أكبر في المسؤولية، وفي الوقت نفسه عن عرقلة أكبر للتحرك النقدي”. ولعل من أكثر غرقى هذا التفاؤل “الوسط الثقافي”، وخصوصاً النخبة الثقافية والليبرالية التي يتولاها تشومسكي بعواصف من الانتقادات اللاذعة. وهو يقوم بذلك لأن “تفاؤله”، كما يحاول أن يشرح بوفريس، “من النوع الذي تولده الإرادة والحركة، ويرتكز على الفكرة القائلة بأنه، في حال أصبح المستقبل أفضل، فذلك لأننا نكون قد بذلنا، فيما يتعلق بنا، كل ما هو ممكن وضروري ليصبح فعلياً كذلك”، في حين تلك الإرادة والحركة تتأتى من النظرة إلى الحقيقة أو طرق البحث عن الحقيقة، فالمثقفون الذين ينتقدهم تشومسكي، وخصوصاً الليبراليون ومثقفو اليسار، يبدون قلة حماسة “في الدفاع عن مفاهيم كالحقيقة والموضوعية غير مفهومة ومثيرة للقلق، هذا في حال لم يعتبروها رجعية وبالية”. غياب التحرك النقدي ومن وجهة النظر هذه، يمكن اعتبار “الإعلان الذي أدلى به منظرو ثورة - ما بعد الحداثة - عن عدم وجود - وقائع - بشكل فعلي، وبالتالي - لا عالم للوقائع”، يمكن اعتبار ذلك “تبريرا فلسفيا” وتشجيعا على الاستمرار” في إعادة “معالجة الحقائق” (كـ: معالجة النفايات) بما يخدم السلطة وقواها ويشجع على تكاثر النظم الديكتاتورية، والظلم والفساد والجشع، وما ذلك إلا لغياب التحرك النقدي، ولتنكر المثقفين للواقعة، وتركها في مهب الاستعمال، ثم استقالتهم من ممارسة إرادتهم وحركتهم في نقد وفضح الأكاذيب. وتشومسكي في هذا قريب من الروائي اورويل الذي اختبر، خلال الحرب الأهلية الإسبانية وخلال الأعوام التي تلتها، الفعالية المخيفة للبروباغندا (الدعاية) الفرانكوية، وقد عبر عن تخوفه من رؤية مفهوم الحقيقة الموضوعية مهدداً هو أيضاً بالزوال بكل بساطة، فكتب قائلاً: هذا النوع من المسائل يخيفني، لأن ذلك غالباً ما يمنحني شعوراً بأن المفهوم نفسه للحقيقة الموضوعية قيد الزوال من عالمنا، وفي النهاية، هناك خطر كبير في أن تتحول هذه الأكاذيب، أو غيرها من الأكاذيب المماثلة إلى حقائق تاريخية، فكيف سنكتب حينها تاريخ الحرب الإسبانية”. وهنا يأتي السؤال: .. إذا لم تكن هناك حقيقة موضوعية، فمن أين تأتي كل تلك الحقائق التي نعتاش عليها ونسمعها كل يوم، من يصنعها؟ وإذا ما كانت هنالك “صناعة للحقائق”، فلماذا لا يتحدث أحد عن مثل هذه الصناعة؟ بل ولماذا لا يتم الكشف عن صنّاعها ولماذا يصنعونها وكيف وبأي رأسمال؟ لقد “كان من الممكن”، حسب بوفريس دائماً، “على ما يبدو، لاختبار مدى قدرة ديكتاتوريات القرن العشرين على أن تستبدل الحقائق الموضوعية بحقائق من نسج الخيال لتحقيق أهدافها، وما ترتب على ذلك من عواقب فظيعة، أن يعزز المثقفون من قناعتهم بأن الحقيقة (وإن كان يتعين في غالب الأحيان اللجوء إلى الاختراع للحصول على فرصة للتوصل إلى اكتشافها)، لا يمكن أن تكون بالضبط نتيجة عملية خلق أو ابتكار، لكن يبدو، في النهاية، أننا نتوصل إلى نتيجة مختلفة جداً، وهي أن الوقائع بحد ذاتها والحقيقة، هما مبتكران حقاً بطريقة أو بأخرى في كل الأحوال”. ولكن ماذا بإمكاني أن أفهم من تحليل بوفريس المضطرب هذا؟ أنا شخصياً أقدّر تلك التجربة التي خاضتها العلوم الإنسانية في القرن العشرين، ليس فحسب للتأكيد على أنها علوم غير دقيقة، وإنما في “تفكيك” ما كان يعتقد دوماً بأنه حقائق، وكيف أن هذه الحقائق هي أقرب من تكون موضوعية، إلى أن تكون مجال إجماع تؤسسه قوى المعرفة، التي هي السلطات لدوام بقائها “المؤقت”، فمنذ انفصل الرأس عن الجسد والتفكير عن الروح عاد ممكناً، ولهذا الصالح أو ذاك، تأثيث الحقيقة في اللغة (وبالتالي في الذاكرة والحياة) دون أن يكون لها مقابل “موضوعي” في الخارج، أو بالتحديد في الواقعة، وأن هنالك على الأقل فجوة بين الحقيقة والواقعية تتيح اللعب على تلك الحبال. لكن هذا التفكيك الذي وصل إلى انكار الموضوعية (من حيث إنها الواقع) وفصلها عن الحقيقة، وجعل الحقيقة تمثلاً أو تخيلاً أو مبتكراً صرفاً، لم يقدم للسلطات فحسب مجال حركة واسعة لطمس “الواقع” (الذي وقع فعلاً)، وإنما قاد لها جيش من المثقفين، الذين ولفصلهم بين الحقيقة والواقع هذا، قادرون على تعزيز صناعة آفاق جديدة للحقيقة، أو تبريرها. وبالتأكيد فإن الإعلام، كوسيلة بشرية حديثة أعطت أكثر من أرض لإطلاق عوالم لا تحد ولا تعد من بوالين الزيف الضخمة ومناطيد السراب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©