الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما يكون الصوت نداءً للمـوت

عندما يكون الصوت نداءً للمـوت
2 مايو 2018 19:33
يمكن أن نعتبر المسلسل التّلفزيّ «الأوديسة» الّذي أخرجه الإيطالي فرانكو روسي Franco Rossi في ثماني حلقات سنة 1968، أَوْفَى عمل فنّيّ لملحمة هوميروس الخالدة «الأوديسة». غير أنّ الذّاكرة السّينمائيّة لم تنس فيلم «أوليس» الّذي اضطلع بدور البطولة فيه النّجم الهوليودي الشّهير كيرك دوغلاس Kirk Douglas، وأخرجه للسّينما الإيطالي ماريو كمريني Mario Camerini، بمساعدة المخرج الفرنسي سيرجي فايان Serge Vallin سنة 1954. فرغم أنّ بطل الفيلم يختلف بتنطّعه ومجازفاته المجانيّة عن بطل هوميروس الحكيم الواسع الحيلة، فإنّ وجوه الشّبه بينهما كثيرة لعلّ أبرزها خوضهما نفس المغامرات البحريّة، وتعرّضهما للمخاطر نفسها. إذا كانت مخاطر البحر بطبيعتها مهلكة، فإنّ أخطرها ما كان يأتي في صورة أنثويّة ناعمة تقود السّفن إلى دمارها والبحّارة إلى هلاكهم المحتوم. أو لم تحذّر سيرس Circé السّاحرة عشيقها أوليس من مغبّة سماع أصوات السّيرينات الآسرة؟ فكلّ «من أوصله سوء حظّه إلى جزيرتهنّ بحلو تطريبهنّ»، «يلصق بأرضهنّ وينسى آله وأوطانه، ولا يخطر في باله أن يعود إلى بلاده ليهنأ بلقاء زوجه الحبيبة وأولاده الأعزّاء، بل يجمد مكانه من الشّاطئ حيث يكون بمسمع من السّيرينات، وتكون عن يمينه وشماله رفات الضّحايا الكثيرين الّذين عرجوا من قبل ليشنّفوا آذانهم بغناء أولئك العذارى فجمدوا مثلهم، وذهلوا عن أنفسهم حتّى ذووا، وذبلوا وضووا، وحاق بهم الفناء»؟ أَوَ لم تُوصه قائلة: «أوصيك أن تفرغ في آذان رجالك من سائل الشّمع قبيل أن تبلغ أرضهنّ، فإنّهم بذلك لا يسمعون شدوهنّ ولا يُسحرون بغنائهنّ، أمّا أنت فلك أن تنصت إلى ذلك الغناء إن شئت، بيد أنّه ينبغي أن يشدّ رجالك وثاقك في قلع سفينتك شدّا قويّاً محكماً فيربطوا ذراعيك وساقيك بأمراس وأحبال، حتّى لا يسبيك ما شنّف أذنيك من غناء وشدو، فلا ترضى إلاّ أن تثوى بأرض السّيرينات، فإذا اشتدّ بك الوجد من سحر ما تسمع وطلبت إلى رجالك أن يُخلوا عنك لزم أن يزيدوا في رباطك، ويحكموا وثاقك أضعاف ما فعلوا بك من قبل. فإذا جزتم تلك الجزيرة وغابت مناظرها عن أبصاركم، فلرجالك أن يطلقوا سراحك...» (الأوديسة، ترجمة دريني خشبة، ص137)؟ الغناء المهلك ما الّذي يهمس به النّشيد الثّاني عشر من ملحمة الأوديسة؟ إنّه يقصّ بكلّ بساطة المشهدَ البدائيَّ الغابرَ، مشهدَ الانتهاكِ الموسيقيّ الأوّل للأذن، ويصوّر في الآن نفسه ضرباً جديداً من المقاومة تَعلّمه أوليس من السّاحرة سيرس. فقد نصحته بأن يحذر من فتنة السّيرينات القاتلة، لأنّ الاقتراب منهنّ إنّما هو اقتراب من ضفاف ابيضّت من «رفات الضّحايا الكثيرين». ففكرة اقتران الغناء بالهلاك كانت طاغية في مشهد السّيرينات طغياناً يشي بأنّ عالم هوميروس قد تعلّم أن يخشى ضرباً خطِراً من الافتتان بالسّمع. فإذا اعتبرنا لفظ «الفتنة» أو الغواية هو المقابل العربيّ للفظ séduction الفرنسي، المشتقّ من اللّفظ اللاّتيني seducere الّذي يعني الفصل أمكننا أن نفهم أنّ هذا الانفصال هو معنى من معاني الغواية على الأقلّ في اللّسان الرّومانيّ القديم. فالفعل seducere يعني قاده إلى ناحية مّا، أو مال وعاج به خارج العالم. وهذا بالضّبط ما تقوم به السّيرينات. فهنّ يَعُجن بالبحّارة وكلّ العابرين من الّذين طال سفرهم وبُعْدهم عن أوطانهم وعائلاتهم إلى جزيرتهنّ بسحر شدوهنّ. ينبغي أن نذكّر بأنّ الفعل seducere هو ضدّ ducere أي تزوّج، وقاد العروس إلى بيتها. أمّا se-ducere فهو عمل مضادّ يعني فَصَلَ الزّوجة عن بيتها، وحَمَلها بعيداً إلى مكان ناء سرّا خارج بيتها وبمعزل عن سائر الرّجال. ولكن في مشهد السّيرينات الهوميريّ نرى أنّ فتنة الفصل لا تتعرّض لها الزّوجة وإنّما أولئك الّذين اخترقوا الآفاق ونأوا عن الوطن طويلا، فشنّف آذانهم «غناء أولئك العذارى» حتّى صار كلّ من مسّه شدوهنّ «يلصق بأرضهنّ وينسى آله وأوطانه». ضدّ هذا الخطر الّذي يُسمع ولا يُرى ابتدع الذّكاء الإغريقيّ وسائل المقاومة الأولى، وقد تمثّلت في ختم آذان البحّارة بالشّمع تماما كما تُختم الرّسائل فتحتمي بذلك الختم من كلّ إغواء يقود إلى الموت. غير أنّ أوليس الّذي سُمح له وحده بسماع السّيرينات قد اتّخذ أسلوبا آخر في مقاومة سحر الغناء وتجنّب الوقوع في أحابيله، وهو أن يوثق إلى سارية السّفينة بالحبال. ولأمر مّا كان بين لفظي «الحبل» و«الأحبولة» في لغة الإغريق، ولسان العرب أيضا، تجانس في الحروف. ففي تقارب اللّفظين أمارة على اشتراكهما في وظيفة واحدة هي الشّدّ: شدّ الأجساد، وشدّ الأسماع. فبسدّ منافذ الغواية بالشّمع، وشدّ حركة الجسد المتشوّقة بالحبال، يمتنع السّماع ويستحيل الإذعان لجبروت عرائس البحر الغاويات. فالغناء هو ابن السّمع والسّماع، بواسطته نُذعن لصوت الآخر، فيحملنا رغم أنفنا على أن نسمع ما لا ينبغي سماعه. أليس سماع صوت السّيرينات هو سماع ما يُخشى سماعُه. وما يُخشى سماعُه ليس موسيقى عرائس البحر ولا طابع غنائهنّ السّحريّ، وإنّما أن تقترن الأصوات الشّادية بأشواق العابرين، فيسري في غنائهنّ مُنَوِّم من مُنوّمات السّعادة يشعرهم بأنّهم قد بلغوا غاية المنى من السّفر. فالخشية من السّيرينات، إنّما هي الخشية من الصّوت الّذي يوقظ في النّفس أشواقها وإحساسها بذاتها. ففي سماعهنّ سماع لأنفسنا، وفي تلبية ندائهنّ انتقال إلى المكان الّذي يهيّئ لنا أفضل موضع لسماع هواتف الرّوح النّائمة. فما الّذي أيقظته عرائس البحر العذارى حين سمع أوليس شدوهنّ؟ يقصّ أوليس (أو أوديسيوس) ما جرى: «وصرنا على مدى ما يبلغ الصّوت من الجزيرة إلى آذاننا فأصغيت وأصغيت، وإذا السّيرينات الشّاديات يتغنّين هكذا: «أوديسيوس أيّها الزّعيم، يا من لهج بذكره كلّ لسان». «ألق في جزيرتنا مراسيك يا فخر اليونان.»، «تلبّث عندنا أيّها العزيز، وشنّف أذنيك بأغانينا«،»فما من أحد جاز بجزيرتنا حتّى عرج يتزوّد من هذا الغناء»، «ثمّ يقلع أسعد ما يكون، وأفطن ما يكون»، «ذلك ونحن نعلم من أنباء ما أصابك كلّ شيء»، «ما خضت من معمعان طروادة، وما أصابتك الآلهة من مصيبة، وما لقي قومك في كلّ مكان»، «تعال تعال... هلمّ نحدّثك، فعندنا علم كلّ شيء». (الأوديسة، ترجمة دريني خشبة، ص.ص 140-141). الموت بالصوت إذا تخلّصنا من فكرة سحر الغناء المُميت وأرهفنا السّمع إلى ما تقوله السّيرينات في غنائهنّ لألفيناه شبيها بمراثي الباكيات النّائحات، وقريباً من النّشيد الجنائزيّ في مديح كلّ فقيد. فهنّ يتمتّعن بهبة أسياد الجحيم ومملكة الموتى، تلك الهبة الّتي بفضلها كنّ يعرفن نهاية كلّ من عبر جزيرتهنّ، فيسمع في شدوهنّ مصيره وقد صار أغنية تُنشد نهايته ومآله. وبذلك نفهم أنّ «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، إنّما هي نزهة لا تكتمل إلاّ بسماع أغنية أو حكاية أو نشيد جنائزيّ الألحان يتغنّى قبل الأوان بمجد العابرين ومصير الرّحّالة ونهاية المسافرين. فعندما يسمع العابرون تلك الأغنية الجنائزيّة كأنّها تُغنّى على قبورهم ينسون بالضّرورة سبيل العودة إلى الحياة اليوميّة، تلك الحياة البائسة الّتي لا يُنْشَدُ لهم فيها شيء. فغناء السّيرينات يوقظ فيهم توقهم النّائم إلى المجد. غير أنّ يقظة تلك الهواتف والأشواق كانت تحتاج دائما إلى خدمات عرائس البحر وأناشيد الشّعراء. فقد كانوا يمتلكون علم السّماع الّذي بفضله أدركوا أنّ الأذن كانت منذ البدء بوّابة العشق والأهواء الدّفينة، تلك البوّابة الّتي تفطّن إلى وجودها قلّة قليلة من الشّعراء العميان. ومن هذه السّلالة النّادرة انحدر هوميروس، وبشّار بن برد من بعده، صاحب البيت الشّهير: يَا قَوْمُ أُذْنِى لِبَعْضِ اَلْحَيِّ عَاشِقَةٌ وَاَلْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ اَلْعَيْنِ أَحْيَانًا ولكن إن كانت لهذه السّلالة من الشّعراء قدرة عجيبة على إيقاظ أهواء النّفس النّائمة فإنّ نيتشه فيلسوف حداثتنا قد سبق له أن ذكّرنا، في الشّذرة 250: «اللّيل والموسيقى»، من كتابه «مطلع الفجر»، بأنّ الأذن كانت منذ الأزمنة الغابرة البعيدة «عضو الخشية والخوف، واللّيل وغبش الغابات، والكهوف المظلمة». ومن عجيب المفارقات أنّ اسم «السّيرينات» قد ارتبط في القرن العشرين بـ«الخشية والخوف». فلفظ «sirène» الفرنسي، و«siren» الإنجليزي، صار يعني اليوم «صفّارة الإنذار»، فبات يُطلق على تلك الآلات المدوّية الّتي توضع في سطوح المعامل والمصانع وحتّى في المدارس لتُعلن بداية ساعات العمل والدّراسة أو نهايتها، ولكنّها في زمن الحرب كانت تُدوّي لتُنذر سكّان المدينة بقرب غارة جوّيّة فتغمرهم في موجة من الهلع الرّهيب. فاسم «السّيرينات» الضّارب في القدم قد ارتبط منذ هوميروس بفكرة راسخة في ضمائر الإغريق هي اقتران سماع أصواتهنّ بالموت. وهذا الاقتران القديم بين الصّوت والموت مازال يثير في السّامعين إلى اليوم ذاك الحذر القديم من الموت. فالإرهاب بالسّماع هو ما ظلّ يثيره اسم «السّيرينات» من أحاسيس «الخشية والخوف»، كأنّ الذّات لا تكون أقرب ما يكون من حقيقتها إلاّ حين تجابه شبح الموت وتكون على مرمى حجر منه. بيد أنّ صوت عرائس البحر قد خبا سحره القديم فأصبح في أزمنة الحرب الحديثة وسيلة من الوسائل الفظّة في صناعة خوف الجموع وبثّ الهلع فيها. فبانقلاب تلك العرائس الأسطوريّة إلى نواقيس خطر تدقّ في عصر الصّناعة والحروب العالميّة أصبحت أصوات السّيرينات لا تغوي العابرين السّامعين بالبقاء في جزيرتهنّ وإنّما صارت تحمل في دويّها رسالة لا يخفى على أحد مضمونها اليائس: كلّ شيء صار خطراً ولا أمل يرجى ولا عزاء. الترهيب بالسّماع ولكن قبل أن تنقلب عرائس البحر في القرن السّابق إلى (صفّارات إنذار) ونواقيس تدقّ الخطر، كانت تحوّلاتها قد بدأت باكراً منذ العهود القديمة، مذكّرة إيّانا في كلّ تحوّل بأنّ العنف المسلّط على الآذان كان يُجدّد في كلّ عصر آلاته وتقنياته. فلئن صوّرت الأوديسة انتهاك الأذن الأوّل بالغناء، وطرق المقاومة الأولى بختم الآذان بالشّمع وشدّ الأجساد بالحبال فإنّ النّصوص المقدّسة قد صوّرت لنا ضروبا أخرى من الإرهاب والتّرهيب بالسّماع. وسواء أكان تجلّي الصّوت بفتنة الغناء في مشهد السّيرينات الهوميريّ أم بالنفخة المدوّية في مشاهد القيامة، فإنّه يظلّ في كلّ الأحوال مقترنا بالهلاك والدّمار والقيامة والنّهايات. فإذا كان للعين جفن تخفّف من وطأة ما يُرى فإنّ الأذن عضو أعزل عريان لا يستطيع مقاومة الهواتف والأغاني الآتية من كلّ حدب وصوب. فأورفيوس قد استطاع في الأسطورة أن يحرّك بموسيقاه الكائنات «غير المتنفّسة»، أمّا عازف النّاي السّحري، في الحكاية الّتي نقلها الأخوان غريم، فقد خلّص مدينة هملن Hamelin الألمانيّة من خطر اجتياح الجرذان لمنازلها. فبفضل النّاي السّحريّ قاد العازف جرذان المدينة إلى حتفها غرقا في النّهر، مثلما قاد صبيان المدينة وصبياتها في اللّيل إلى مغارة أغلقها عليهم إلى الأبد، انتقاماً من سكّان المدينة الّذين رفضوا مكافأته بالجائزة الموعودة. فهذا المثال وغيره يؤكّد أنّ الأصوات سواء أكانت أغنية أم عزفا، أم نفخا في الصّور والأبواق، أم صفيراً منذراً بالخطر، أم دقّ نواقيس... قد ظلّت في جميع تحوّلاتها حارسة للحدود الفاصلة بين الحياة والموت. وحوش الصوت إذا كانت الحدود السّياسيّة ترسمها الخرائط فإنّها اجتماعيّاً تخطّ سطورها الأصوات. ولمّا كان المجال يُعرّف بأنّه فضاء آمن لأنّه محميّ، فإنّ من وسائل حماية المجال السّماعَ. فهو (أي السّماع) هذا الانتباه اليَقِظ الّذي يسمح بالتقاط كلّ ما من شأنه أن يُحدث البلبلة في الحمى. غير أنّ من يُرهف السّمع في أرجاء المدينة الحديثة لا بدّ أن يلحظ أنّ مجالها الصّوتي قد تلوّث وفقد صفاءه الأسطوريّ. هذا الصّفاء المفقود قد صوّرته بعض الرّوايات. ففي كتاب «السّتار»، يقصّ ميلان كونديرا Milan Kundera، في فقرة «السّتار الممزّق»، علينا وقائع رواية «وحش متفجّر» للكاتب التّشيكي جارومير جون Jaromir Jhon الّتي كتبها سنة 1932. تدور أحداث هذه الرّواية في السّنوات الأولى من الجمهوريّة التّشيكوسلوفاكيّة 1918. بطل هذه الرّواية السّيّد إنجلبرت Engelbert مستشار الغابات في عهد النّظام الملكيّ habsbourgeoise. انتقل إلى براغ ليعيش فيها بعد أن أحيل على التّقاعد. إلاّ أنّه اصطدم هناك في المدينة بعدوانيّة الحداثة عند الدّولة النّاشئة. لم تكن اللّعنة الّتي أصابت السّيّد إنجلبرت آتية من جهة سلطان المال ولا عنجهيّة الوصوليّين، وإنّما من الضّجيج. وليس الضّجيج هاهنا دويّ الرّعد ولا ضربات المطرقة ولا أصوات الطّبيعة الهائجة، وإنّما هو آت من الصّخب الجديد الصّادر من محرّكات السّيّارات والدّرّاجات النّاريّة بما هي «وحوش متفجّرة». وقد جرّه ضجيج السّيّارات إلى أن يكتشف لأوّل مرّة هذا الأذى الّذي قلب حياته وجعلها هروبا لا يتوقّف بحثاً عن هدوء لم يعثر عليه في الفنادق الرّيفيّة ولا في فيلات الأصدقاء في المناطق النّائية. بل جعله الضّجيج يكتشف أنّ «النّوم إنّما هو شوق الإنسان الأصليّ، وأنّ الموت الّذي تسبّبت فيه استحالة النّوم هو من أشنع الميتات». في آخر المطاف صار يُمضي لياليه في عربات القطار الّذي بضجيجه النّاعم أصبح النّوم الهانئ فيه ممكناً في حياة هذا الرّجل الطّريد. يعلّق كونديرا في آخر تحليله بأنّ الضّجيج في زمن تلك الرّواية ظاهرة جديدة آنذاك ولم تستفحل بعد، بحيث أنّ الوعي الحادّ بها مازال في بداياته. وقد انتهى الأمر بأن تمكّن الضّجيجُ، بحضوره وانتشاره، من إعادة تشكيل الرّجل بجعله يحتاج إلى الضّجيج معدّلا بتلك الحاجة من علاقته بالطّبيعة والرّاحة والفرح والجمال والموسيقى والكلام الّذي لم يعد يحتلّ المكانة المتميّزة في عالم الأصوات الجديد... تكمن طرافة هذه الرّواية في كونها قد اكتشفت شيئاً جديداً هو ظاهرة الضّجيج في الحياة اليوميّة، ولكنّها اكتفت بوصف بداياتها فحسب. فلم يخض إنجلبرت، بطل الرّواية، مغامرة خطرة على غرار مغامرات أوليس أو السّندباد، وإنّما خاض تجربة سمعيّة جديدة تجلّت في بحثه المتواصل عن أماكن ساكنة لا صخب فيها ولا ضجيج. فالبحث عن السّكينة والهدوء في عالم قد طغت فيه أصوات الآلات المزمجرة يترجم في الحقيقة أسلوباً قلقاً من أساليب الممارسات الصّامتة الّتي بفضلها تمّ «ابتداع الفرد» في الثّقافات البرجوازيّة الحديثة. ولعلّ أبرز هذه الممارسات هو الكتابة والقراءة الصّامتة المنزوية في سكون المكتبات وهدوء الكنائس. فالشّائع في التّصوّرات السّائدة أنّ القراءة عمل فرديّ ينجزه قارئ في صمت مطبق. غير أنّ تاريخ القراءة يفاجئنا بأنّ القراءة الصّامتة هي حدث متأخّر الظّهور، لأنّ هذا العمل كان ينجزه القارئ القديم بصوت جهير مسموع. فقبل هذا النّوع الجديد من القراءة لم يكن الإنسان الدّاخليّ العقلانيّ ممكن الوجود دون اعتكافه وانعزاله عن ضجيج الجماعة. من هذا الضّرب من العزلة نشأ كذلك الفرق بين الخصوصيّ والعموميّ بفضل تحوير عميق جدّ في المجال الصّوتيّ فُصل فيه الضّجيج العائليّ عن الصّخب الجماعيّ المهيمن خارج البيوت. ولعلّ أنموذج هذا الصّمت المنشود قد جسّمته بعض أشعار «شارل بودلير» لمّا اكتشف في تباشير الصّباح أنّ طغيان الوجه البشريّ، بله جبروت الأصوات البشريّة، قد اختفى ولو لساعات قليلة. يقول في قصيدة «في الواحدة صباحاً»: «أخيراً! وحدي!، لم يعد يُسمع سوى قرقعة بعض العربات المتأخّرة والمنهكة. وبعد بضع ساعات سنمتلك الصّمت، إن لم تكن السّكينة. أخيراً! تلاشى طغيان الوجه البشريّ، ولن أُعاني بعد ذلك إلاّ من نفسي». (بودلير، سأم باريس، ترجمة رفعت سلاّم، ص643). بين الصّمت والجلبة، وطغيان الوجه البشري وتلاشيه، بين «وحدي» و«معهم»، كان الشّاعر ينتظر عودة فضائه الصّامت الّذي غمره طيلة النّهار صخب المدينة. فلا وجود لمجال عموميّ وآخر خصوصيّ، كلّ ما في الأمر أنّ المجال الصّوتي كان بين مدّ وجزر ترتفع الأصوات فيه وتخفت آناء اللّيل وأطراف النّهار. وكان الشّاعر ينتظر لأنّه اختار الالتفات إلى نفسه والاختلاء بها في فضاء فارغ يكون فيه بمفرده. هذا الفضاء صامت لا يطيقه رجل السّياسة الّذي يحتاج إلى التّجمّعات الشّعبيّة وحشد جموعها بمزيّة الخطاب. فممارسة السّياسة بصوت مهموس هو مفارقة لا يقبلها فنّ السّياسة ذاته الّذي ينبغي أن يعرّف بأنّه «فنّ الممكن في الضّوضاء». فهدوء الشّاعر الّذي ينتظر في سكينته ووحدته قدوم الرّبّات الملهمات لا يقابله سوى ضوضاء رجل السّياسة الشّبيه بسائق الدّرّاجة النّاريّة، وهو يرفع من صوت محرّكها المزمجر حتّى يضخّم بذاك الصّخبِ ذاتَه، ويوسّع من امتداد دائرتها الفرديّة أو الجماعيّة. ألا نجد في هذه الحاجة إلى الاحتفاء بالذّات في حفل من الضّجيج الصّاخب حنينا سرّيّا لأصوات السّيرينات الغابرات؟. الصمت المنشود البحث عن السّكينة والهدوء في عالم قد طغت فيه أصوات الآلات المزمجرة يترجم في الحقيقة أسلوباً قلقاً من أساليب الممارسات الصّامتة الّتي بفضلها تمّ «ابتداع الفرد» في الثّقافات البرجوازيّة الحديثة. ولعلّ أبرز هذه الممارسات هو الكتابة والقراءة الصّامتة المنزوية في سكون المكتبات وهدوء الكنائس. فالقراءة الصّامتة هي حدث متأخّر الظّهور، لأنّ هذا العمل كان ينجزه القارئ القديم بصوت جهير مسموع. فقبل هذا النّوع الجديد من القراءة لم يكن الإنسان الدّاخليّ العقلانيّ ممكن الوجود دون اعتكافه وانعزاله عن ضجيج الجماعة. من هذا الضّرب من العزلة نشأ كذلك الفرق بين الخصوصيّ والعموميّ بفضل تحوير عميق جدّ في المجال الصّوتيّ فُصل فيه الضّجيج العائليّ عن الصّخب الجماعيّ المهيمن خارج البيوت. ولعلّ أنموذج هذا الصّمت المنشود قد جسّمته بعض أشعار «شارل بودلير» لمّا اكتشف في تباشير الصّباح أنّ طغيان الوجه البشريّ، بله جبروت الأصوات البشريّة، قد اختفى ولو لساعات قليلة. حارسة الحدود سواء أكان تجلّي الصّوت بفتنة الغناء في مشهد السّيرينات الهوميريّ أم بنفخة الصّور المدوّية في مشاهد القيامة، فإنّه يظلّ في كلّ الأحوال مقترناً بالهلاك والدّمار والقيامة والنّهايات. فإذا كان للعين جفن تخفّف من وطأة ما يُرى، فإنّ الأذن عضو أعزل عريان لا يستطيع مقاومة الهواتف والأغاني الآتية من كلّ حدب وصوب. فأورفيوس قد استطاع في الأسطورة أن يحرّك بموسيقاه الكائنات «غير المتنفّسة»، أمّا عازف النّاي السّحري، في الحكاية الّتي نقلها الأخوان غريم، فقد خلّص مدينة هملن Hamelin الألمانيّة من خطر اجتياح الجرذان لمنازلها. فبفضل النّاي السّحريّ قاد العازف جرذان المدينة إلى حتفها غرقا في النّهر، مثلما قاد صبيان المدينة وصبياتها في اللّيل إلى مغارة أغلقها عليهم إلى الأبد، انتقاماً من سكّان المدينة الّذين رفضوا مكافأته بالجائزة الموعودة. فهذا المثال وغيره يؤكّد أنّ الأصوات، سواء أكانت أغنية أم عزفا، أم نفخا في الصّور والأبواق، أم صفيرا منذرا بالخطر، أم دقّ نواقيس... قد ظلّت في جميع تحوّلاتها حارسة للحدود الفاصلة بين الحياة والموت. عضو الخوف نيتشه فيلسوف حداثتنا سبق له أن ذكّرنا، في الشّذرة 250: «اللّيل والموسيقى»، من كتابه «مطلع الفجر»، بأنّ الأذن كانت منذ الأزمنة الغابرة البعيدة «عضو الخشية والخوف، واللّيل وغبش الغابات، والكهوف المظلمة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©