الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نساء الأطراف.. سردهنَّ الناعم

نساء الأطراف.. سردهنَّ الناعم
16 ابريل 2014 20:21
د. رسول محمد رسول «تكشف علاقات النساء مع بعضهن بعضاً عن الطاقة التي بمقدورها تحويل ثقافة القوة والموت إلى ثقافة الحياة والميلاد الجديد». هذا ما استنتجته كارول كريست في كتابها «الصوفية النسوية»، وهي تتحدَّث عن قصيدة الشاعرة الأميركية أدريان ريتش «الغوص في قلب الحطام»، وهو الاستنتاج الذي بدا مفتاحاً لي وأنا اقرأ رواية الكاتبة الفرنسية من أصول لبنانية فينوس خوري - غاتا الصادرة عن دار «ميركور دو فرانس» في باريس عام 2007، التي ترجمتها إلى «العربية» سميرة بن عمو بعنوان «سبعة حجارة للخاطئة»، وصدرت عن دار الساقي في بيروت عام 2014. أمضت فينوس خوري نصف قرن من حياتها في الكاتبة الشعرية والسّردية بين باريس وبيروت، وأصدرت العديد من الروايات والدواوين الشعرية، وحصدت في ذلك جوائز عالمية، وترجمت أعمالها إلى نحو عشر لغات. أما تمسكها باسم «غاتا»، فهو اسم زوجها الطبيب الفرنسي «جون غاتا» الذي اقترنت به عام 1972 بعد انفصالها عن زوجها الأول. الحكاية يمكن لي تصنيف هذه الرواية أنها رواية العبور إلى الضفة الأخرى بكل ما تحمل تلك الضفة من موجودية بشرية مجتمعية وطبيعية وثقافية، فالبطلة، وتسمى «الغريبة»، هي امرأة فرنسية من أصول أخرى: «أنتِ المولعة بالكلمات ترحِّلينها بين لغتك الأم واللغة الفرنسية» (الرواية: ص 15)، تواجه أزمة ترك عشيقها لها، وتترك فرنسا للعمل مع فريق الإغاثة الإنسانية في سواحل جنوب الكرة الأرضية، حيث الفاقة والجوع والفقر والجهل، فتذهب إلى قرية يتكلم أهلها اللغة العربية واسمها «خوف» توصف بأنها «آخر قرية في الدنيا»، تقع «على مشارف الصحراء»، بحيث تبدو «نقطة لأربعين بيتاً، وحانوت عطار، ومسجد، ومعمل للآجر»، قرية «محصورة بين الجبل والصحراء»، كما لو كانت مجرَّد «نعش ضيق أمغر اللون، حيةً من رمل شقَّق ظهرها الجفاف؛ حية مستغرقة في خدر عميق»، قرية تنتمي ثقافياً وحضارياً إلى «الصحراء». تعمل «الغربية» الفرنسية مع طبيب بريطاني هادئ الطباع اسمه «بول»، ومع فرنسي شقي اسمه «كوانزاكيس»، وهما من طاقم «مركز غوث البلدان المنكوبة» في «قرية خوف». جاءت الغريبة لتنسى بؤسها لكنّها رأت نكدا أشد وقعاً، فكل شيء يوحي باليباس والضمور والهزيمة المغلفة بالأساطير والخرافات حتى استنفر ما رأته هناك تعاطفها الأنثوي مع بضعة حالات كانت الأكثر استقطاباً لذاتها كامرأة،، حالات جعلت من حياتها تمضي بطريقة شعرية، وربما تكون الحياة بهذه الطريقة مرمى «ما ذهب إليه آرثر رامبو للبحث عنه في أفريقيا، ما كان يسميه الحياة الحقيقية» (جان كوهين: الكلام السامي، ص 291). وإذا كان رامبو وصف تلك الحياة بالغائبة، فإن الغريبة الشقراء وجدتها في «خوف» الآسيوية عندما ظلَّت تبحث عن مخرج لتأجيل عقوبة الرجم حتى الموت إثر فتوى دينية صدرت بحق «نور» التي تحوَّلت إلى «الخاطئة» أو «الزانية»، وذلك بناء على نصيحة من الدكتور بول الذي قال لها: «قومي بزيارة المرأة التي سيرجمونها، حاولي أن تمدّي لها يد العون». من هنا ستبدأ الرواية أحداثها المأساوية، ستكون حكاية رجم «نور» «الخاطئة» أو الزانية أو الآثمة الشغل الشاغل للغريبة الشقراء، ستواجه تحديات كبيرة تحت ضغوط نمط العيش والتقاليد والأعراف والتديّن والخرافة والأسطورة وسطوة الرجال وحالات الاغتصاب ودفن الفتيات وهن أحياء، وفي ظل حمل «نور» المطرد الشهور حتى تنجح «الغريبة» باستحصال قرار من الوزير القوي يُرجئ تنفيذ عقوبة الرجم بانتظار أنْ تضع «نور» حملها ابن الحرام الذي تكوَّن جرّاء اغتصاب المهندس الأشقر «روبير»، والتي تصر «نور» على أنها تحب هذا الأشقر ويحبها بدليل أنه «كان رقيقاً وحنوناً معها، كان حريصاً على لذتها وسخياً بالمداعبات..». إلاّ أن «روبير» كرر فعل الاغتصاب مع طفلة اسمها «زنى»، ونفخ بطنها بحسب ما يُشاع، لكنها - هذه الشابة - سيقتلها والدها وهي حامل؛ سيرميها في بئر، وقتل والدها لها بدَّد الاتهامات لـ «روبير» وسط اعتقاد الغريبة الشقراء بأن فرضية اتهام «روبير» لم تعد تقنع أحداً. ورغم عودة العاملين في الحقل الإنساني إلى بلدانهم، بريطانيا وفرنسا، تبقى «الغريبة» في «خوف» وهي مشدودة بعزيمة إنقاذ «نور» الزانية من عقوبة الرجم، وكلّما تبرز بطنها إلى الأمام، كلّما تتعقد الحالة حتى أقبلت «نور» مرَّة على حرق كوخها، بل وملابسها أمام الملأ لتضمها «الغريبة» الشقراء إلى مقر فريق الإغاثة، وتعيش معها إلى جانب أطفال جائعين ومرضى وتائهين، لكنها ستهرب من مقر الإغاثة صوب سفوح الجبال بحثاً عن الرجل الذي نفخ بطنها، لتضع مولودتها «طفلة شقراء» بين الأدغال، في ظل هوس القرية بفقدانها، وبذلك وضعت نفسها ووليدتها في فخ الشائعات التي سمعتها عن عودة «روبير» إلى مكان عمله لتواجه الخديعة، وبعد يأس «أسلمت نفسها للبرية»، وخرجت «في دروب الله»، حتى يظهر «روبير» الغاصب بناء على طلب من الغريبة الشقراء، ويكشف عن وقاحته عندما يقول لها إن نور «مجرَّد مومس دنيئة». وبذلك التخلي أصبحت الحالة أكثر تعقيداً، لكنّها «أمينة»، وبعد اتهامها بالسحر، ستواجه الموت رغم هروبها إلى جوف الجبل. فتموت ليتم سحلها إلى وسط القرية مشعثة الملامح بعد أن لاقت مزيد ركل وضرب أدمى وجهها فضاعت ملامحها. أما الشقراء، فتهرب إلى المدينة برفقة «عبده» السائق. وعندما تصل إلى هناك تفاجأ بوجود «نور» وابنتها الصغيرة. وفي لقائهما غير المنتظر تعرض نور ابنتها على الغريبة قائلة: «احتفظي بها إنْ كنت ترغبين في ذلك، إنها طفلة، واسمها حبق»، الوليدة التي بدا وجهها «نفس وجه أمها البارز التقاطيع، ونفس لون العيون الخضر، نفس البشرة الذهبية» في وقت لم يعد الخوف يهدِّد «نور» بعد رحيل الطاقم الحكومي، وإيقاف قرار الرجم لتختفي أم حبق ثانية عن المدينة، بينما تبقى الطفلة من حصة الفرنسية الغريبة «تذهب إلى الغريبة بنت الغريب»، وهو ما كانت تنبأت به «أمينة» نفسها في محاولة استباقية (Prolepse) منها عندما قالت عن «الغريبة» يوماً إنَّ «نوراً لا تعنيها بقدر ما يعنيها طفل نور؛ فهي ما إن يولد الطفل، وتواري نور تحت الحجارة، حتى تحمله تحت إبطها، ومن ثم وداعاً يا خوف، ولن يجد أحد مثلبة في أن يذهب طفل الخطيئة إلى بلد الخاطئين» لتنتهي الحكاية. الراوي رغم وجود راو أو راوية كلية الحضور في النّص، نلاقي الناصَّة (Textor) تعمل على تنويع عدد الرواة، فهناك راو حاف أو افتتاحي يصف حالة «نور» على نحو إلماعي، ونلاحظ على الناصَّة أنها تميزه بخط مائل احتل الصفحات (7 - 8) من المتن الجسدي للنّص، وبينما تترك العنان للراوي الكلي بضمير المخاطب، تعود الناصَّة في الصفحات 25 - 57 إلى توظيف الخط المائل أيضاً لتروي «أمينة» بضميري المتكلِّم والغائب معاً شيئاً عن الشقراء الفرنسية، وهو سرد آني أو متزامن (Simultaneous Narration) وإنْ بدا تأمُّلاً في حالة «الغريبة»، كما أنه روياً تدلقه «أمينة» المشاركة في أحداث الرواية. وتعود الناصَّة أيضاً إلى توظيف الخط المائل في الصفحات (182 - 185) لتترك الناصّة عملية الروي بضمير المتكلّم إلى «أمينة» وهي تواجه اتهامات مؤذِّن القرية بأنها تتعاطى السحر والشعوذة ما يعني ضرورة عقابها. إن تجربة الروي بضمير المخاطب أو تجربة سرد (الأنتَ) أو (الأنتِ) في رواية (سبعة حجارة للخاطئة) تذكّرنا بتجربة ميشيل بوتور روايته (التعديل) في عام 1957 التي استخدم فيها الروي بضمير المخاطب الذي أضفى على عمله رونقاً ومتعة جمالية كما هو الحال في رواية فينوس خوري هذه التي جعلت من «الغريبة» الفرنسية حالة أنثوية مطعونة الذات وهي تحثُّ الخطى لنسيان ما جرى لها في فرنسا لكنّها تنخرط فيما هو أكثر فداحة. واللافت هنا أن الناصَّة اقتصرت على تسريد شخصية «الغريبة» بضمير المخاطب فقط بينما تركت العنان لراويتها المركزية أو راويتها برانيّة الحكي (‏Narrateur extradiégétique) لتسريد بقية الفاعلين المشاركين في المتن الحكائي، وهم: نور، وأمينة، وجليلة، والملا، والحاكم، والوزير، وعبده السائق، وأولاد نور؛ زين، وزاد، وزاهي، ومحا = زوج نور، وزنى، وبول، وروبير، وكونزاكيس، وأطفال المدرسة، ورحيم، والحلاق، والعطّار، واللحام، والداية، والمرأة الأيرلندية، وسعيد، وزاهية، وحميد. ناهيك عن مجموعة كبيرة من العوامل) Actants (الخاصَّة بقرية «خوف» المكانية والزمانية، والجغرافيا، والمناخ، والحالة الاجتماعية، والتقاليد والأعراف، والقيم الذكورية والأنثوية، وعلاقات القرابة، وصور التديُّن، والأساطير، والخرافات والمعتقدات البالية، والرموز الدينية، القديمة والحديثة، باستثناء الفسحة التي تركتها الناصّة لـ «أمينة» في روي شخصية الغريبة الشقراء. الأنا والآخر إن مجتمعاً ما يقبع بعيداً عن مراكز المدنية الحديثة، يدخر صورة سلبية عن الآخر كانت «الغريبة» سبب استجلائها في المتن الحكائي الكلي للرواية؛ أي «مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع إخبارنا بها خلال العمل» كما يقول توماشفسكي (نظرية المنهج الشكلي: ص 180)، وبحسب توصيف الناصَّة لمجتمع الرواية المتمثل بقرية «خوف»، فإن الصورة السلبية أمر واقع ما دام التخلّف الشامل يحيط بالحياة فيها من بكل جوانبه. وعلى الرغم من أن مفهوم الغريب أو الآخر المختلف (‏Another) يتجلّى عبر ملفوظ سردي متناص ظهر في آخر المتن الحكائي كمثل شعبي أورده عبده السائق أمام الغريبة: «كل من لم يولد في هذا المكان غريب عنّا»، على رغم ذلك، نلاحظ أن أغلب الفاعلين المشاركين في الرواية من سكان تلك المنطقة يكنون كُرها للغريب الأشقر القادم من مكان آخر؛ وهو ما بدا جلياً في مجموعة من الملافظ السّردية: «المرأة التي دنّسها الغريب»، وقول نور للغريبة في أول لقاء بينهما: «الفرنسيون هم الذين أرسلوك؟ ترميها بلهجة حانقة!»، و«كونزاكيس الذي أشبعوه ضرباً»، و«الفرنسيون الذين يعتقدون أن مجرّد وجودهم في الدوار سيحمل لنا المطر»، و«الغريبة بلا عاطفة ما خلا حنوها على نور. الغريبة شعراء القلب»، و«أمينة محقّة في وصفها للغربيين بأنّهم بلا قلب»، و«نباح الكلاب لا يستهدف غيرك، فهي تعرف من رائحتك أنك غريبة»، ومن ثم «كل يوم يأتي يحمل معه لكِ، أنتِ المرأة والمسيحية، عدواً إضافياً، ورأسك السافر استفزاز لهم»، و«طفل الخطيئة إلى بلد الخاطئين»، و«الغريبة لا تفعل أكثر من أن تطيع أوامر باريس»، و«إنه المستعمر وقد بدأ يظهر خلف المتطوِّع في العمل الإنساني»، وغير ذلك مما ورد حتى نهاية الرواية. رغم ذلك، لم تبد الغريبة الشقراء أية أحقاد تجاه كل من عرفتهم في القرية، بل بدت، وبحسب بناء شخصيتها من جانب الناصَّة، أكثر تفهماً لما يجري هناك، وأكثر تعاطفاً أنثوياً مع نساء القرية، وما قبولها برعاية الطفلة «حبق» إلاّ ميسماً على ذلك التعاطف الذي يبني ثقافة الحياة والميلاد الجديد، وهو ما لعبت عليه فينوس خوري كونها تخاطب القارئ الفرنسي في روايتها هذا بحيث لا يبدو فيما إذا كانت الغريبة الشقراء مستسلمة لهزيمتها الذاتية أم الموضوعية حتى قبلت بخيار القبول برعاية الطفلة، إنها أسئلة تتركها فينوس خوري لقارئها الحذق. لقد وصفت رواية (سبعة حجارة للخاطئة) بأنها رواية الضفة الأخرى، لكنّها تبدو لي أيضاً رواية رومانسية؛ وأستذكر هنا قول أمبرتو إيكو: «إن الرومانس هو قصّة مكان آخر» (تأمُّلات في اسم الوردة: ص 80)، ورواية خوري هي من هذا النّمط أيضاً فضلاً على النّمط الأول الذي ذكرته سابقاً. ولذلك لا يقتصر الروح الشعري في سردية هذه الرواية على وصف المكان والحالات النفسية والأهواء والمشاعر فقط، بل يمتد إلى طبيعة الشّخصيات المنزاحة عن موطنها الأصل مثل العاملين في الإغاثة الإنسانية، وعلى رأسهم الغريبة الشقراء، وكذلك يمتد إلى طبيعة أهواء الذات البشرية كانزياح «نور» عن معتاد حياتها الزوجية شطر ممارستها الجنس مع «روبير» وحملها منه، وانزياح «زنى» بالطريقة نفسها، وانزياح «أمينة» في ممارساتها الجنسية مع «كونزاكيس»، وغير ذلك من صور الانزياح الذاتية والموضوعية التي حفلت بها الرواية، فضلاً على لغة التصوير الفنية العالية التي أدلقت موجوديتها بمؤديات شعرية في حضورها الحيوي وتلك هي لعبة السّرد الفائقة التي جربتها فينوس خوري في روايتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©