السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«عن إيلي» محاولة جادة لسد الثغرات المحتملة

«عن إيلي» محاولة جادة لسد الثغرات المحتملة
17 أكتوبر 2009 00:49
القصة بسيطة بحبكتها الواقعية، وليس فيها أية غرابة، بل العكس هو الصحيح كونها محتملة الوقوع في أي بقعة من شرقنا عربياً كان أم غير ذلك. وفي هذا الإطار سأقدم نص قصة الفيلم الإيراني «عن ايلي» وكيف كتب في السيناريو ليوازي فعل المشاهد بالشريط السينمائي. قصة فيلم «عن ايلي» للمخرج الإيراني أصغر فرهادي تقوم على حبكة بسيطة أو لنقل تمتلك القصة عناصرها بشكل محكم ومنضبط حاول فيه فرهادي أن يلملم كل الثغرات المحتملة في النص ولا يدع مجالاً لافتراض عدم صحة الحكاية في ذهن المشاهد، الذي قد يشعر بخلخلة في حال حصول ذلك. أصغر فرهادي تعامل مع الواقع وابتعد عن الافتراض بشكل احترافي، ويبدو لي أنه قد كتب سيناريو محكما وبارعا ومشغولا عليه بدقة العارف فمازج بين هذا السيناريو الرائع وأحكم إغلاقه بالإخراج الأكثر روعة. لم يقرأ فرهادي عالماً خيالياً، بل التقط جانباً مهماً من حياة أسر إيرانية ثلاث مع صديق لهم اسمه أحمد جاء من ألمانيا للبحث عن امرأة إيرانية كي يتزوجها بعد أن فشل في زواجه الأول من ألمانية، وتخطط زوجة أمير وهي «سيبيدي» لأن يلتقي أحمد بمعلمة ابنتها واسمها «ايلي» ليذهبوا جميعاً في نزهة كي يتعرف أحمد عن قرب إلى «ايلي» وهم جميعاً أصدقاء دراسة جاءوا الى شاطئ بحر قزوين ليحتفلوا بعودة صديقهم أحمد. أمير ومانوشير وبيمان الأزواج وسيبيدي زوجة الأول وشوهري زوجة الثاني وناسي زوجة الثالث بالإضافة الى أحمد وايلي مصطحبين معهم أطفالاً ثلاثة هم آراش واندوهري وانيتا. حرية في البدء ابتهاج الخروج من المدينة الى عالم الريف الساحر أو البحر الأزرق حيث الطبيعة التي تحرر الذات من كل انغلاقاتها. إنه بحر قزوين 4 أسر و 4 سيارات تنطلق شمالاً، لتصل إلى حيث تخيم الأسر الأخرى في العراء ولأنها تبحث عن الفرح الذي بدا طاغياً راح الجميع يرقص ليقدم الإنسان الإيراني وهو يستمتع بعالم يصنعه لنفسه، طالباً حرية النفس البشرية. وجد الجميع بيتاً قرب ساحل البحر، بل هو مطل عليه مباشرة، لا تبعد موجة البحر أكثر من 30 متراً عن باب البيت، وبين ضجيج الجميع واحتفاء بأحمد وايلي التي يكتشفون براءاتها وصلاحها للزواج من أحمد تفترض النساء والرجال أن هذه الأيام الثلاثة سوف تكون أياماً للعسل الذي تحول إلى «عسل مر». البداية واقعية بشكل محض والحبكة لا تزال في إطار المقدمات حتى يذهب أحمد وايلي لكي يتسوقا من المدينة فيعودا ليلاً، وخلال ذلك يرن هاتف ايلي الخلوي، فلم تجبه. تتصل ايلي بأمها وتسأل عن حالها، ويرجع أحمد مع ايلي الى «بيت الساحل» كل شيء يهيأ حتى الأغطية ومستلزمات النوم تجلبها امرأة عجوز هي من اتفقت معهم لتأجير البيت ومعها على سبيل المزاح أخبروها بأنهم يصطحبون عروسين في يومهما الأول. الفراغ لم يترك المخرج أصغر فرهادي أي مجال للخلل في حدوث فراغ في المشهد الذي امتد لأكثر من 20 دقيقة، فقد امتلأ السيناريو بحوارات متداخلة وتقاطعات لذيذة وانشغالات يومية للنساء والرجال حتى غدا المشاهد المراقب جزءاً من بنية الشخوص وكأنه أحد أركان التناغم الأسري، إذ لم تعد هناك ثغرة صامتة يمكن أن تخلق خللاً، بل العكس تماماً كان المشاهد في أمس الحاجة لافتراض التأني كي يلحق اللقطات التي بدأت تتسارع ملخصة مقدمة النص. ثمة تراكمات في الطرافة والبهجة والصورة حتى وجدنا مجموعة اللقطات وقد بنيت في ضوء الفرح الطاغي الذي تتوازى فيه حركة الممثلين السريعة مع سرعة تراكم الصورة وتتابع الشريط. أداء مشغول بشكل رائع، وسرعة في حركات الممثلين وبهاء في التعبير وقوة في الأداء، والتداخل السريع في الالتقاطات الإنسانية. من داخل مطبخ الساحل حيث تستبدل قنينة غاز الطعام إلى صالة الاستقبال حيث تفرش لجلسة المساء إلى زجاج الشبابيك المكسور حيث تسد الفتحات بالنايلون الأبيض الشفاف إلى سخان الماء الحار خلف الدار الذي يحتاج إلى تصليح سريع إلى الغرف الأخرى التي بدأت تعج بها روح الحياة من أنامل نساء جميلات جئن محملات بالفرح. الشاشة في المساء يلعب الجميع لعبة تلفزيونية قديمة ألا وهي «الإشارة والحرف» التي تشير إلى جملة مفيدة بعد سؤال وجواب وأظن أن هذا المشهد من أقوى المشاهد دلالياً كونه يشير إلى فقدان التليفزيون في هذه الرحلة إلى الساحل مما جعل الجميع، نساءً ورجالاً يستبدلون لاعبي التلفزيون بأنفسهم، إنهم يخلقون شاشتهم من الحياة. في اليوم الثاني تذهب «سيبيدي» و»ناسي» إلى المدينة وتبقى «شوهري» و»ايلي» والرجال الأربعة الذين كانوا يلعبون «كرة الطائرة»، بينما كان الأطفال الثلاثة عند شاطئ البحر، توصي «شوهري» ايلي بأن تراقب الأطفال، حينها كانت الطفلة «انيتا» تحرك خيط طائرة ورقية، فتأخذها ايلي وتركض بها ذهاباً وإياباً على الشاطئ في فرح طاغ لا حدود لها، وعند هذه اللقطة من الفيلم نجد اختفاء ايلي تماماً، بينما كانت الطفلة اندوهري وانيتا تصرخان على الرجال عن اختفاء «آراش» وغرقه في البحر. إن من أصعب المشاهد هي التبليغ كونه فعلاً درامياً وجدنا كيفية التعامل معه من قبل المخرج فرهادي حيث وظف انفعال الطفلين واستغرابهما ودهشتهما بشكل رائع بما يوازي ضجيج الرجال الأربعة، أحمد، أمير. مانوشهر وبيمان «والد آراش» الذي أصيب بالجنون، وتداخل في الشخصيات والحركة والمشاهد، والانفعالات النفسية حتى كأننا نجد الفيلم وقد وصل إلى ذروته - هنا - تحديداً. التشابه لم يستعن المخرج أصغر فرهادي إلا بعدسة كاميرته التي تحركت في كل الاتجاهات والتقطت أصغر الانفعالات وارتقت إلى أعلى أداءات الممثلين الذين جسدوا المقطع هذا بعبقرية وجمالية لا تضاهى. تتحرك الكاميرا فوق الرمال وتحت سطح الماء، وتدخل في ثوان إلى الأقاصي البعيدة في البحر لتعود إلى صخور الشاطئ ورماله ثم تلاحق أقدام الرجال الراكضة وفزع الأطفال وحيرة «شوهري» التي أوصت ايلي كي تراقب الأطفال الثلاثة. ينقذ «آراش» ويعود الهدوء في إيقاع منبسط كالبحر الذي لم يقس على مجاوريه الجدد، ولم يفسد فرح الآباء الذين جاءوا لجواره ليومين آخرين. بعد دقائق كان كل شيء قد استفز باختفاء ايلي المفاجئ، وتعود الكرة من جديد، ماذا يحصل هناك؟ يلعب المخرج فرهادي لعبة الموجات المتعاقبة والهدوء المصطنع.. فيشابه بين موج البحر وحركة المشاهد في الفيلم وأحداثها، إذ ما أن تأتي موجة حتى يحل الهدوء لتعقبها أخرى، وهنا في الفيلم ما أن يأتي مشهد مثير يستفز المشاهد حتى يحل الهدوء ثم تنفجر مشاهد أخرى أكثر ارتفاعا في الانفعالات.. وتستمر اللعبة هكذا في حركة الفيلم بما تشابه تماماً حركة البحر حتى يقفل الفيلم بنهاية مأساوية. الضدية اشتغل فرهادي على عدد من الثنائيات الضدية التي عمقت من أزمة موضوعة الفيلم الذي لا يمتلك صراعاً، ليس هناك صراع بل أزمة تدار وفق ثنائيات مزدوجة وهي الغياب/ الحضور والموت/ الحياة. وينتبه الجميع إلى اختفاء ايلي، ويدخل الجميع بحثاً عنها في البحر ضمن هياج جديد لخصه أحد رجال الإنقاذ الذين استدعوا مع الشرطة فيما بعد للبحث عن ايلي بأن البحر قد هاج ولا يعطي جثة من يبتلعه إلا بعد أن يهدأ. لا أحد يتحدى البحر الهائج. ويهدأ البحر، ويهدأ الممثلون، وتبدأ التساؤلات الحيرى. أين اختفت ايلي؟ تبدأ هنا لعبة البحث عن ايلي، ليس في إطارها البوليسي كما في أي قصة بوليسية، بل في إطار وضع الحقائق إزاء بعضها البعض، حقيبة ايلي وتليفونها المحمول لم يختفيا. «سيبيدي» صديقة «ايلي» لا تعرف أكثر من اسمها وكونها معلمة ابنها، ويتم البحث عن آخر رقم في هاتفها الخليوي الذي بدا أنه رجل عندما كلمه «أحمد» والذي أكد له أنه أخو ايلي ويتضح فيما بعد أنه خطيبها وهو فتى في مقتبل العمر قرر لقاء أحمد وسيبيدي فيأتيان به الى «بيت الساحل» ليخبراه بأنها اختفت ولم يعثر عليها في البحر. المكاشفة ويدهش أحمد، كيف تكون ايلي خطيبته وهي مخطوبة لهذا الرجل، وتخبره سيبيدي بأن ايلي لا تريد خطيبها الأول هذا، بل تفضله هو ووافقت على المجيء في هذه الرحلة بعد أن اقترحت سيبيدي الأمر عليها، وان ايلي تريد إنهاء خطبتها من الرجل قبل 6 أشهر مكاشفات منضبطة في سيناريو على غاية من الدقة. ينشأ الصراع بين أمير وزوجته سيبيدي، ويتحول فجأة الى رجل شرقي قاسٍ حينما يستخدم يديه لضرب زوجته، وبهذا يقدم المخرج أصغر فرهادي شخصيتين مزدوجتين في إطار نموذجه الشرقي «أمير». يحاول الجميع أن يخفوا عن خطيب ايلي أنها جاءت في مشروع زواجه مع أحمد، وينتهي كل شيء وبهدوء مطبق، وتهب موجة جديدة داخل الفيلم عندما تأتي المرأة العجوز لتأخذ الأغطية التي أعارتها إيجاراً لهم بأن العروسين لم يهنآ، ويسمع خطيب ايلي هذه العبارة التي أعادت المشهد من جديد إلى عنف تمخض عن اعتدائه على أحمد. «كوميديا سوداء» في اللحظة التي تفوهت العجوز بالحقيقة. الإفصاح وبقدر رفض سيبيدي التشهير بـ «ايلي» والإفصاح عن قضية قبولها الزواج من أحمد لابد من قول الحقيقة، يحاول خطيب ايلي أن يسمعها من «سيبيدي» مباشرة، فتنقلها له بوضوح تام. تستدعي الشرطة الرجال لمشاهدة جثة امرأة عثر عليها غريقة في البحر، ويرفض الرجال رؤيتها لكونها خطيبة هذا الرجل الذي يتعرف عليها.. انها ايلي التي ماتت غرقاً. حاول أصغر فرهادي أن يجسد حيرة ايلي، أو تأنيب ضميرها المستفز بين أحمد الذي اختارته الآن وخطيبها الأول الذي لا تجد فيه ما يرضيها، بين الوضوح والخفاء، بين الخوف والجرأة، بين الإقدام والتردد، بين الإهمال والحرص الشديد بين تأنيب الضمير والتبرير، وعندما شعرت بأن «آراش قد غرق في البحر بسبب إهمالها تراها اختارت صمتاً البحث عنه فألقت بنفسها في البحر ربما عندما تأكدت من لا جدوى العثور عليه. «ايلي» نموذج شرقي لعدم حرية الاختيار، نموذج للخوف من الفضيحة والعار في عالمنا ومجتمعنا المغلق. الخاتمة لم ينه أصغر فرهادي فيلمه بقسوة أو دهشة غير متوقعة، و بنهاية مفترضة، بل كان الحل النهائي واقعياً جداً وهو موت ايلي الذي جاء منطقياً وموضوعياً فلم يكسر المخرج أفق توقع المشاهد كما في أفلام الدهشة الأخيرة «الضربة أو الصدمة» اللامتوقعة بل وجدنا مشهداً عادياً هو تعرف الخطيب على ايلي في المشرحة وحيرة «سيبيدي» وهي تجلس في المطبخ والرجال وهم يحاولون إخراج السيارة التي انغرست عجلاتها في الساحل لكي يرتحلوا عن المكان. وقد نسأل لماذا هذه النهاية الباردة غير الصادمة، فأقول إن أصغر فرهادي قد بنى نصه على المسببات والنتائج والتي لا تحتمل اللامتوقع لأن علاقات هذه الأسر في وضع اجتماعي منضبط ليس لديه أسرار كبيرة، بل هي رغبات إنسانية بسيطة أقصى ما فيها مجاورة البحر ليوم أو يومين. فيلم «عن ايلي» قمة في الأداء وفي الإخراج وحبكة محكمة في السيناريو أخرجه وكتب السيناريو وأنتجه أصغر فرهادي وشاركه في الإنتاج محمود رضوي وموسيقى أندريه باور وتمثيل جولشيفنج فا راهاني، وترانه الدوستي وشهاب حسيني وميريلا زارائي وماني حقافاي وبيمان موادي ورنا أزاديفار وأحمد مهرانفار وصابر أبار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©