السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

غويتيسولو..الأندلسي الناهض من قرون الصّمت

غويتيسولو..الأندلسي الناهض من قرون الصّمت
6 يونيو 2017 00:53
حسونة المصباحي (الاتحاد- خاص) لا بدّ أن تكون مراكش حزينة ويتيمة أكثر من كلّ المدن المغربية والإسبانية والفرنسية؛ لأن الكاتب الإسباني الكبير،خوان غويتيسيلو، الذي رحل عنها الأحد 4 - يونيو من هذا العام عن 86 عاماً، عشقها، وبها ارتبط ارتباطاً روحياً أكثر منها جميعاً. في واحد من أزقة مراكش الضيقة، حيث «تتوهج البساطة»، و«يلمع النبل»، عاش خوان غويتيسيلو في بيت متواضع فيه كان يستقبل أصدقاءه القادمين من جميع أنحاء العالم. وأبداً لم يكف خلال السنوات الطويلة التي أمضاها في المدينة الحمراء عن الدفاع عن تراثها، وعن نمط حياتها، وعن أهلها، رافضاً مغادرتها حتى في الأوقات العصيبة عندما ضربها الإرهاب الأصولي. وعندما زرته في الأسبوع الأول من شهر يناير من العام الحالي، وجدته في الزقاق الضيق ساهماً حزيناً. فقبل أشهر سببت له سقطة في المدارج أوجاعاً شديدة جعلته شبه عاجز عن الحركة. مع ذلك، تحدث إليّ شاكياً عجزه ووحدته وشيخوخة عطلت قدراته فما عاد قادراً على التركيز والكتابة. كما حدثني عن محمد شكري، وعن صديقه الروحي جان جينيه الذي فتح له أبواب المغرب في الستينيات من القرن الماضي، وعلمه كيف يقرأ رموزه وتاريخه السري. الكائن الضائع وكثيرون هم الكتّاب والشّعراء الغربيّون الذين عشقوا التراث العربي-الإسلامي، وبه فتنوا، وتحت تأثيره كتبوا أعمالاً أدبيّة عظيمة. لنتذكّر غوته، والرومانطيقيين الألمان، والفرنسيين، والإنجليز. لنتذكر أيضاً الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، الذي اعتبر «ألف ليلة وليلة» من أفضل الكتب التي تأثر بها. كما أنه ألّف العديد من القصص التي نستشفّ من خلالها إعجابه الكبير بالتراث العربي -الإسلامي، ومعرفته الدقيقة بأسراره وخفاياه. وهناك أيضاً الإسباني خوان غويتيسيلو الذي أقام منذ سنوات طويلة في مراكش وطنجة، مستوحياً من أجواء المغرب السحريّة نصوصاً رائعة! ومثل صديقه الراحل جان جينيه، هو لم يتعلق بما هو غرائبي في المغرب، وإنما هو يعتبر نفسه كائناً ضائعاً، فاقداً للهوية، عثر على جذوره فيها. إنه الأندلسي الناهض من قرون من الصّمت، والغياب، ولا طموح له غير أن يكتب قصّة تيهه الطويلة عبر الأمكنة والأزمنة. وثمّة رجفة تهزّ جسد العربيّ حين يستمع في الليل الهادئ إلى الأغاني الأندلسيّة الحزينة التي تبدو وكأنها تعيد إلى ذاكرته أصوات العرب الفزعين أمام الموت عند سقوط غرناطة. نفس هذه الرجفة تستبدّ بنا حين نقرأ أعمال خوان غويتيسولو الذي يحيي من خلال نصوصه ورواياته تراثاً فقدناه، أو نحن بالأحرى أهملناه لتصبح ثقافتنا بلا روح وبلا معنى. لذا يمكن القول إن خوان غويتيسولو لا يتعامل مع التراث العربي-الإسلامي مثل مستشرق مسكون بنزعة الانتفاع من الموروث الشرقي، وإنما هو منغرس فيه انغراساً روحيّاً. وعندما نقرأ أعماله، نحن نعثر فيها على تمازج مدهش وعجيب بين غونغورا، وابن حزم، وبين سرفانتس، والراوي الزنجي العجوز في ساحة «جامع الفنا» بمراكش. كما نعثر فيها على تمازج بين ألوان فالسكيز، وألوان الفجر على أبواب الصحراء المغربيّة. ولعل العراقي د. كاظم جهاد الذي قام بترجمة مختارات من أعماله صدرت عن دار «تويقال» المغربية، كان محقّاً عندما عرّف خوان غويتيسولو قائلاً بأنه من فئة أولئك المبدعين «البدو»الذين يمثّلهم الإيرلندي جيمس جويس أفضل تمثيل. فغويتيسولو نفى نفسه بنفسه بعد أن أحسّ أنه لن يكون بإمكانه العيش في بلاده في ذلك الجوّ الخانق سياسيّاً وثقافيّاً، والذي كانت تعيشه إسبانيا في عهد الجنرال فرانكو. ومبكّراً اكتشف خوان غوبتيسولو وهو في منفاه الاختياري ما يسمّيه بـ«تصدّع الهويّة الإسبانيّة»، تماماً مثلما اكتشف جويس وهو في مدينة ترياست الإيطالية في بداية منفاه «تصدّع الهويّة الإيرلنديّة». لذا كان من الطبيعي أن يندفع خوان غويتيسولو عقب هذا الاكتشاف إلى «الغوص في طبقات التاريخ واللغة والأعراف»، وأن يبحث لدى «الآخر» عن أجوبة للأسئلة الحارقة التي تشغله. ومثل ابن بطوطة الذي نقل لنا من خلال رحلته العجيبة أصوات ولغات شعوب بعيدة، حاول غويتيسولو أن يحقّق الأمر ذاته. لذا نحن نعاين في نصوصه وفي رواياته أصواتاً متعدّدة لمهاجرين عرب، ويهود، وأتراك، وهنود وباكستانيين، وأفارقة سود، وغيرهم. كما نعاين أصوات الرواة الشعبيين في مراكش، وأصوات التائهين في طنجة، والحالمين بعبور المضيق إلى العدوة الأخرى من المتوسط هروباً من واقع مرير، ومن فقر مهين. في الآن ذاته، تعكس أعمال خوان غويتيسولو تلك «القبسة الديولوزيّة»(نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز) التي تتحدث عن «اختيار الأطراف، ومجافاة المركز، والدخول في ضرب آخر من المغامرة. ضرب من التوحّد، بدويّ في هذه المرّة». واقعيّة سّحريّة في «بطاقة هويّة»، ينتهج خوان غويتيسولو أسلوباً شعرياً تتجلّى من خلاله تلك الواقعيّة السّحريّة التي وسمت أعمالاً روائية مهمة مثل «مدينة الكلاب» لفارغاس لوسا، و«المنطقة الأكثر شفافيّة» لكارلوس فيونتاس، و«مئة سنة من العزلة» لغابريال غارسيا ماركيز. وبطل «بطاقة هويّة» شخص ينجو من سكتة قلبيّة، ويعود إلى منزل العائلة في مدينة برشلونة. وهناك يحاول إعادة تركيب ماضيه، معتمداً على عناصر متعدّدة: ذكريات وهلوسات وأحلام ووثائق ووقائع تاريخيّة. وثمة فقرة في «بطاقة هويّة» عن مأساة قرية في ظلّ الحرب الأهليّة الإسبانية بالتوازي مع «وصف بالغ التوتر» لمصارعة الثيران. والمكان الذي يختاره خوان غويتيسولو لوصف مأساة الحرب المذكورة هو«حفازة شحيحة ومحروقة، بحيث أن بقع الدم (إذا ما كان دم قد سال)، والعلامات، وآثار الرصاص (أنّى عليك أن تعثر عليها بعد اثنتين وعشرين عاماً وسط هذا المكان الصخريّ العبثيّ)، أصبحت تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من البنية الجيولوجيّة للوضع، ذائبة في التربة نهائيّاً، ملتحمة بها، فاقدة منذ ربع قرن من الزمان لمعناها الأول ودلالتها الآثمة». ويبدع خوان غويتيسولو في وصف المأساة إلى درجة أننا نرجف، ونحن نقرأ تلك السطور التي تتحدث عن بشاعة الموت في العراء، فوق صخور صلدة، وتحت شمس حارقة. فضاء جامع الفنا وفي رواية «مقبرة» التي تتضمّن أيضاً نقداً حادّاً وعنيفاً للحضارة الغربيّة، نصّ بعنوان:«قراءة لفضاء جامع الفنا» بمراكش، ذلك الفضاء العجيب الذي يؤمّه يوميّاً السحرة والرواة الشعبيّون، وقارئات الكف والشحاذون، والسماسرة، والعاطلون عن العمل، ومروّضو الثعابين، وباعة الحشيش والأعشاب الجبليّة. ومعلوم أن خوان غويتيسلولو كان أوّل من بادر بالكتابة إلى اليونسكو، وإلى منظّمات عالميّة أخرى، راجياً منها جعل «ساحة جامع الفنا» مَعْلماً عالميّاً تتحتّم المحافظة عليه. وبالفعل تمّت الاستجابة إلى طلبه. وفي النصّ المذكور نقرأ ما يلي:«ضربات الطبول تتسارع عند المغيب، حينما تضاعف الشمس النحاسيّة خلف «الكتبيّة» مفاتن المدينة وتبرزها في ما يشبه لمعان بطاقة بريديّة: الخضرة الفريدة لنخلات الحديقة العموميّة، ونور المغرب الباذخ في واجهات البيوت، والمباني الرسميّة. مناخ بالغ الصفاء من الأزرق الذي لا يفسد، والتجانسات البعيدة لجبل «الأطلس» المطعّمة بأبيض نقيّ. ألق يسكر المرء، وينعشه، يلتحم بحمّى الرّقص والصّخب، ويهيّئ الغريب للإحساس بشيء من الحريّة ضائعاً في هذا البلاط الشاسع المقام من أجل متعة الحواسّ، وخدرها ذائباً في هذا الفراغ الخصب لهؤلاء البشر الغادين والرائحين في حالة من التأهّب والفرح». تأثيــرات جينيـــه في نصّ رائع، يصف خوان غوتيسيلو العلاقة الوطيدة والحميميّة التي تربطه بجان جينيه، ذلك «البدويّ المتوحّش»، كاشفاً لنا عن جوانب مجهولة من حياته، مبرزاً مفاهيمه للصداقة، والحب، والموت: (كانت الصحف تنقل أخباراً أكثر فأكثر إقلاقاً عن القمع الفرنسيّ في الجزائر. وقد فكّر جينيه في الاحتفال بطريقته الخاصّة بـ«يوم الموتى»، فاتح نوفمبر، والذي كان على وشك الحلول. لذلك حرّر نصّاً موجّهاً إلى الفرنسييّن الذين يزورون قبور أقاربهم، وكانت الفكرة أن يوزّع النصّ عند مدخل المقابر. أخذ جينيه يبحث عن نظّارته، وما إن عثر عليها حتى شرع يقرأ بصوته الذي لا يقلّد، صوت رخيم صارم، مترع بالحدّة والغضب الرّصين، نصّاً حافلاً بالعنف الشعريّ، وفيه يدعو زوّار المقابر إلى التفكير في موتى آخرين، شيوخ، وأطفال، ونساء، وقرويّين مهانين وأمييّن، يسقطون كلّ يوم صرعى الرصاص لجيشهم، جيش هؤلاء الزوّار أنفسهم، وشرطتهم». ويعترف غوتيسيلو في نصّه المكتوب بلغة شعريّة عالية القيمة بأن جان جينيه هو صاحب «التأثير الناضج الوحيد عليه على المستوى الأخلاقي»، ثمّ يضيف قائلاً: «لقد علّمني-أي جينيه- أن أتخلّص شيئاً فشيئاً من غروري الأوّل، ومن وصوليّة سياسيّة، ومن الرغبة في الظهور في الحياة الأدبيّة لعكف على شيء أكثر جوهريّة وصعوبة: امتلاك تجربة إبداعيّة خاصّة، واكتساب ذاتيّتي الخاصّة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©