الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تسع وتسعون وردة

تسع وتسعون وردة
3 ابريل 2013 20:04
لم يكن جلوسه بشكل شبه يومي على المقعد الخشبي لحديقة الحي في السادسة والنصف صباحاً ليثير اهتمام أحد. فالحي الذي تعددت منابت وأعراق سكانه تتجدد الدماء فيه بحكم موجات الهجرة التي تغشى البلاد، ولهجرة بعض أسره إلى أحياء أكثر فخامة أو أكثر تواضعاً.. كل حسبما رسمته له المقادير والمغامرات في حياة البشر. أما هو فقد ولد ونشأ فيه، وارتبط به وجدانيا. عرفته الأزقة مراهقاً مشاغباً يجيد فنون القتال، وعرفته الحانات زبوناً شرساً لا يسكت عن ضيم وأن لم يكن موجوداً إلا في خياله. لكنها المرة الأولى التي ينبض فيها قلبه بالحب... لا يدري ما جذبه إليها أهو اللون الخمري الناتج من اختلاط الأعراق أم الشعر الأصفر المموج أم تلك الابتسامة التي تثير رجفة في عضلات ظهره؟ المقعد الخشبي وكتاب «قلب الظلام» لجوزف كونراد هما نديماه وهو في حاله الانتظار والترقب.. لم يكن من هواه القراءة يوما لكن ما شده لكونراد حالة الهجرة والتنقل المشابه لحالته. أن تقتلع من الجذور، وأن يفرض عليك وطن وهوية، وأن تقسو الحياة وهي تبتسم .. تلك محنة تثير الحواس الخمس، وتبقي العقل في حالة تركيز دائم أو شرود دائم، والتردد بينهما هو الجنون حتى إشعار آخر. لم يكن ليصطنع المواقف للتحدث معها وهي في طريقها إلى روضة الأطفال القابعة في الركن الشرقي من الحي... ولعها بما كانت تجسده خطواتها المتسارعة وعدم التفاتها يمنة أو يسرة كان متأكدا من وجوده ولو سطحيا في ذهنها.. تمر هي بالحديقة، يغلق كتاب كونراد ويمضي إلى عمله... في الأمسيات يتبضع كل من في الحي من نفس البقالة ذات الثلاجات الضخمة والأرفف الممتلئة إلى السقف.. إنها فرصته لتحيتها بمعدل مرتين أسبوعياً... تتمرن عضلات ظهره مرتين أسبوعياً.. اعتادت على الرجفان بنفس المعدل، معدل اللقيا وتجاذب أطراف الحديث مع الحاضر والمستقبل والمجهول في آن واحد. أن تغير البلدية شكل الحديقة وتضيف إليها بعض المرفقات الجديدة، فهذا ما لا يمكنه الاعتراض عليه، أما أن تزيل المقعد الخشبي فهذا استهداف لشخصه.. أحس أن جزء منه قد تم اقتلاعه.. كيف له أن يداوي ناره والتياعه؟ وكيف له أن يصل لمبتغاه وهو لا يعرف مبتغاه؟ أحس أنه يترنح بين الوجد والاضطراب الذهني.. إنها فوضى الحواس التي لا تترك ذاكرة للجسد. صديقه سمير كان سميره ونديمه الذي يثق في تقييمه للأشياء. سمير يتلقى علاج (الشيزوفرينيا) الذي أثر كثيراً على تركيزه وقدراته الذهنية، أصيب به وهو في الواحد والعشرين، لكنه نجح أن يكمل امتحانات السنة النهائية في الكيمياء، ثم اختار أن يدرس علم الاجتماع، وهو يتلقى العلاج الذي سيلازمه فيما تبقى من عمر.... سمير يكن درجة عالية من الإعجاب لمحمد علي كلاي، يحتفظ بجميع الكتب التي تناولت قصة حياة الملاكم الأسطورة، وعادة ما يردد أن شجاعة محمد علي تجلت في موقفه الرافض لحرب فيتنام، وليس في عدد الألقاب التي فاز بها.. عندما يلتقيان في الحانة يقوم سمير بدور المستمع، وعادة ما يكون المستمع أكثر قدرة على ترتيب الأفكار وتحليل المعلومات. لا بد أن تعرف.. لا بد من مواجهتها.. الجبن لن يكسبك احترامها يا صديقي.. بين المواجهة وتأجيل المواجهة إلى أجل غير مسمى يسود التردد.. أنوار الحانة وضوضائها توحي بالشرود والهروب ومحاولة النسيان. النسيان لا يحدث حتى لو سعينا وراءه حثيثا. إن في الجسد مضغة لا تكف عن الأنين، إذا ما استلقينا استعداداً للنوم تقوم بدور المراجع العام، لا تستثني أحد التجار أو العمال أو مضيفات الطيران أو لاعبي هوكي الجليد... نفس الأنين والملامح والشبه.. المواجهة لا يجب أن تنتهي بانكسار أحد الطرفين لها. لو روحها يوما تنسى دلالها... إنها الورود يا ليل الصب.. وغدا موعدي.. الزهور والورد شتلوها جوا قلبي، كما تقول كلمات الأغنية الشهيرة.. 99 وردة محمولة على جناح الشوق، سأنتفيها من محل مندل الشيكي. سماه والده على عالم الوراثة المعروف، خرج من براغ بلا عودة في ربيع براغ، التقى اليزابيث في مارسيليا.. ابنه أحد تجار اللحوم في ضواحي برايتون، قررا الاستقرار في بلاد السمك والبطاطس المقلية.. لم تمهل الذئبه الحمراء اليزابيث طويلا، ولم يجد مندل سلوى إلا في الزهور ينثرها على قبرها في الآحاد... ثم يعود لمشتله.. مندل ينتقي الزهور للعشاق إهداء لروح اليزابيث، لذا لا يسمع وهو يدور بين الألوان، ولا يتحدث إليه أحد، يعيد تشكيلها مرتين وفي الثالثة يقول للزبون: الآن أصبحت الباقة جديره باليزابيث.. تاج من الزهور ومحل من الورود.. المجموع تاج محل في قلب أوربا يصنعه أحد أبناء بوهيميا.. لن اختار البريد، سأسلم يدا بيد.. لا يمكننا التنبؤ بالنهايات لكننا حتما نقرر البدايات.. في لحظة التسليم كانت هي الأجمل.. حملت عن كاهله عبء اختيار الكلمات.. لماذا اخترت الرقم تسع وتسعون يا صديقي؟ أصعب الأسئلة تلك التي تفرض على أذهاننا البحث والغوص في اتجاه القاع.. المرة الأخيرة التي التقته قالت له: لقد أضناك البحث يا صديقي... مندل يعرف الإجابة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©