السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هدنة موت!

هدنة موت!
20 يوليو 2016 21:01
لينا أبوبكر كان يعلم ابنه المشي، قبالة البحر.... قدماه الحافيتان، عشبه الأسود الذي يلتصق بساقيه، ويقطر البحر منهما كحبات عرق زرقاء تتصبب من جرح مالح.. ويلي كم هو....! أن أشرب القهوة الداكنة في هذا الطقس المحايد، يعني أن أعثر على رجل غريب... أحب الغرباء... فالغموض الذي يحيرك يجذبك أكثر، يستفز فضولك لاكتشافه، كأنك تغامر لخوض رحلة نحو المجهول... وسمرة غريبي هذا ألذ من أي مجهول ! *** ارتدت ثياب البحر، وقميصاً شفافاً بلون الماء، تعطرت بزهر الفراولة، ثم سكبت القليل من عصير البرتقال على الملعقة الوسطى بين الشفتين، وضعت فمها فوق فنجان قهوتها وتركت نصفه فارغاً، ثم انتعلت حذاء الرمل ومضت برشاقة الموت نحو الشاطئ الذي يتلصص على شرفتها الضيقة من خرم مقبرة ! حسنا، بعيداً عن هذا الوصف الشاعري الذي تختنق به اللغة، سأدخل في الموضوع.. تعلم ابنك المشي فوق رمال متحركة؟ استدار حتى يلتقط الفم من لغة صاحبته: (هاي)... يتأتئ ويهم بالإجابة ولكن! هاي، اسمي أماليا، يدعونني هنا «إيميلي».. سررت بلقائك.. سررت كذلك أوكي...إنني أعلم البحر أول خطوة على طريق ابني (واو).. أية لعنة! *** بعد قليل يبدأ الاستعراض الجوي للطائرات الحربية البريطانية في سماء «ساوث إند»، كل من يلهو فوق هذه المائية الخصبة، سيتراجع إلى الخلف، وهذا الرمل الذي ينتعلانه سيصبح مقاعد تعج بالناظرين... العيون معلقة بالسماء، طائرات تغير فوق الرؤوس والقبعات، تعبث وتلعب في الأفق، يحيطها غبار أحمر ملون بدم كأنه عربي، تصفيق حار تصاحبه قهقهات مدوية وصرخات جذلى، إنهم يحبون اللعب بالحرب هنا، وهذه لعبة حربية كانت تخاض هناك على شرف مذبحة لم تروها، ولم يتبق منها سوى عضلات هذه السماء المتضخمة... يوشوش صغيره بعينين حزينتين، كأنه يهمس إليه بسر سياسي! ماذا تقول له، لا أفهم العربية! يبتسم... يشرد قليلاً... ينظر إلى البحر... قالت: نعم فهمتك. قال: لم أقل شيئاً. قالت: بل قلت الكثير.. *** في العراق، لا شيء يشبه الموت سوى الموت، ورائحة الصبح هناك تنبعث من مقبرة سرية لم يُعثر عليها بعد.. بينما لهذه المرأة رائحة شجرة محرمة، وقميص متأهب للانقضاض.. لم يحلق ذقنه منذ يومين، شوكه أسود ناتئ وحار، وفمه خبيء تحت شاربين يميلان إلى الكثافة قليلاً... يبلل قهوته بهما كلما رشف من فنجانه رشفة تساوي التي سبقتها والتي تليها، كأن كل رشفة بمقدار... ابنه مستلقٍ قربه بهدوء، يشبه أباه، حتى ليبدو أنه يفكر وهو نائم، تماماً مثل خالد.. لماذا البحر؟ لأنه بيتي، لم أعرف بيتاً سواه.. أين هي أم طفلك. هي هنا، ترعى نومه الآن... متى رحلت؟ لم ترحل بعد أرى ذلك بوضوح يلعب بعلبة السجائر متأملاً... لم تشرب سيجارتك مع القهوة، غريب! لا أدخن ! لم هذه العلبة إذن... هذه آخر ما تبقى لي من أنفاسها... هنا تركت رئتيها اللتين اختنقتا موتاً! ماتت صغيرة.. بل بدأت تموت صغيرة.. سرقت أول سيجارة من درج أبيها الذي قتل في عاصفة الصحراء.. أشفقت على يتم سجائره... عاشت وماتت في المقابر ! يا إلهي.. *** لا يمشط شعره، لا ينظر إلى المرآة، يرتدي نصف ملابسه هنا، ويترك الباقي للمسافة التي تقوده إلى سيارته... سيارته هي النصف الفارغ من خزانة ملابسه.. رائحته هنا وعطره في درج سيارته، قدماه هنا، وحذاؤه في صندوق سيارته، نقوده هنا، ومحفظته في جيب المقعد الخلفي لسيارته، مقوده هنا ويداه تديران الطريق تحت عجلات سيارته، عيناه هنا ونظارته لم تزل قرب مبدل السرعة لم تبارح مكانها قط مذ التقيته، مشطه هنا، وشعره العابث يلعب بالهواء في المرآة الجانبية للسيارة.... كله هنا، ولا شيء لي منه سوى غربته، وابنه........ معه دائماً وأمه دائماً معي أنا! إلى أين؟ إلى المقبرة.. كنت أود أن أخبره أن المقبرة هنا ترقد فوق سريري، ولا داعي لأن يكلف نفسه عناء المشوار، ولكنني لم أفعل.. *** تعرف ماذا... لم أر بين أشيائك صورة لها... ولكنني رأيتها. صمت... كيانه تفجر كعبوة مكتومة... ثم المزيد من الصمت! شبحها يسكنك.. أراها في كل نظرة وكل همسة وكل سكوت يكفي فتحت حقيبتك أمس صمت.. الشال المضمخ بالدم، لها؟ لأمي! لم لا تغسله، من أين أتى الدم؟ من العراق. تحتفظ بالحرب أحتفظ بأمي تبدو بعيداً وغريباً جداً ألم تقولي أنك تحبين الغرباء بل الاكتشاف إن لم تكتشفي شيئاً بعد، فهذا يعني أنني لست غريباً! بل اكتشفت أنك غريب.. هذا كل ما استطعته! نتيجة ممتازة، ألا تكفيك...! لماذا تكرهني! لماذا لا أحبك؟ لأنني بنظرك هبطت بالمظلة من طائرة حربية فوق شاطئ الجنوب، أليس كذلك.. عقدة الذنب هذه لا دخل لي بها.. تخصك! حسناً، ماذا الآن؟ وما الذي كان؟ حرب ناعمة ليست أكثر.. أما هذا فاكتشاف يخصني! عربي! *** لم يزل كما التقيته قبل عامين، مع اختلاف بسيط بالحالة الجوية للطقس، عرفته من مظلته، فلم تظهر لي منه سوى ذقنه، وشامة خفرة يذيل بها الطرف الأيسر للشفة السفلى.... هذا ما كان ينقصك: المعطف...إنه أنت! لي موعد مع البلل كلما التقيتك! المطر والبحر... كأنك المواسم! خذي مظلتي.. لم تحجبك عني فكيف تقيني مطرك! كان لا بد أن تكون سيارته ثالثة اثنين في الطريق إليها، أن أعيش معه في منزل لا يعيش معي فيه، كان أمراً قاسياً وفظيعاً، لذا اخترت أن أمارس معه الاكتشاف في صندوق أشيائه التي لم تتسع لخزانته يوماً رغم اتساعها لفراغ اكتظ بها.. الآن ولأول مرة أذهب معه إلى المقبرة، الآن ثلاثتنا فوق سرير واحد، لا يفرق بيننا سوى زائر يضع الورد فوق قبر أبويه ويغادر تاركاً وراءه غربتي بينهما.... لأكتشف بها مقبرة بين سريرين!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©