السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«جيران».. يخترق جدران الذاكرة في حي «جاردن سيتي» القاهري

«جيران».. يخترق جدران الذاكرة في حي «جاردن سيتي» القاهري
11 أكتوبر 2009 23:29
قدمت المخرجة المصرية تهاني راشد فيلمها «جيران» بوصفه العرض الأول في مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي في دورته الثالثة. تقول المخرجة إن فيلمها الوثائقي هذا تم إخراجه والاشتغال عليه على مدى سنتين ونصف، وهو في مجمله محاولة للغوص في التاريخ الحديث لحي مصري ارستقراطي اسمه «جاردن سيتي». نهض جاردن سيتي بتسميته الانجليزية كموقع جديد يسكنه مجتمع جديد خلال حقبة حكم الإنجليز أو أقدم بقليل، حي ينفصل عن القاهرة وفي خاصرة القاهرة، حي يتكلم بلغة سلوكية مختلفة، مما لاشك فيه أنه الإبهار الغربي كله، سكنه الباشوات أصحاب الجذور العميقة والسلطان الواسع والثقافات الرفيعة. حاولت تهاني راشد أن تنبش في 3 أزمنة زمن الأبيض والأسود والزمن الملون وما بينهما، وكيف تم التحول من عمق هذا الحي. النيل يبدو منساباً في السينما المصرية الأول والنيل يبدو مبهرجاً باللون في السينما الحديثة، النيل بالأبيض والأسود ثم الملون. في بداية الفيلم هناك لغة صادمة، تحكيها عناصر الصورة، وتروى عبر التاريخ في المكان. «جيران».. اسم يملك دلالته هل هم جيران أعداء، أم هم جيران مسالمون، هل هم متشابهون، أم هم متنافرون، وربما اختارت تهاني راشد أولئك الجيران المتنافرون لتروي حكايتها من خلال بقعة جغرافية في قلب القاهرة، مجاور النيل اسمها «حي جاردن سيتي»، الذي تحول إلى بطل في الفيلم.. الفيلم بطله المكان، السفارة الأميركية في حي جاردن سيتي وحولها يقبع تاريخ طبقة صنعت لنفسها تاريخاً وجغرافيا مغايرة. العوائل الارستقراطية شهادات يرويها الأحفاد، أحفاد العوائل الارستقراطية، وقصور بحدائق باذخة تحيط بأسرار لم يستطع أن يكشفها أحد، حتى السينما المصرية «بالأبيض والأسود» عندما استعانت بتلك القصور كي تصور فيها، لم تستطع إلا أن تكشف عن جزء من تلك الفخامة. أبناء الفقراء من المعدمين الممثلين في السينما المصرية، إسماعيل ياسين وعبدالسلام النابلسي وغيرهما الكثير اقتربوا من قصور جاردن سيتي، واستقبلتهم طبقة جاردن سيتي الارستقراطية، لا لكونهم مقبولين طبقياً، بل بوصفهم يمتلكون الأداة لتوثيق تاريخهم عبر القصور الهائلة التي يمتلكونها. الجيران كانوا بمختلف معارفهم جيراناً.. يحكون قصة واحدة هي قصة المكان الذي شغل الزمان في ذواتهم وهم المصري مصطفى سراج الدين والكاتبة وفية خيري وبائع الفاكهة حسن عبدالحميد والسفير الأميركي بالقاهرة عام 2008 فرنسيس ريتشاردوني ونادية العجة والبواب ربيع جودة ومستشار إداري سابق في السفارة الأميركية بالقاهرة نيكولاس وجوسلين باسلي والصحفية راوية المنسترلي والفنان التشكيلي عادل السيوي والكاتب والمفكر السياسي محمود أمين العالم والسفير البريطاني في القاهرة عام 2008 دومينيك اسكويث والموسيقار سليم صيدناوي وبائعة الخضروات بدرية وطبيب الأسنان والروائي علاء الأسواني. كل هؤلاء وغيرهم يحكون من وجهة نظر متعددة، في إطار واحد. سيدة القصر «سيدة القصر» فاتن حمامة وعمر الشريف واستيفان روستي كانوا ضيوفاً على أحد تلك القصور، ضيوف عابرون من أجل توثيق التاريخ. الإنجليز اتخذوا جاردن سيتي مقراً والأميركان أعقبوهم في السكنى هناك، ولكن لأن ثمة صراعاً خفياً يجري كرهاً فإن وجودهم في جاردن سيتي قد خلق قضية. تهاني راشد حاولت أن تعيد التاريخ عبر الجغرافيا، أرادت أن تعيد الذكرى عبر الأثر، إنها تنقب في الشواهد.. السينما شاهد ورخام القصور شواهد والشجرة الهرمة تصبح شاهداً أيضاً، ولكن لماذا؟ لنقل لو لم تكن هناك سفارة أميركية في حي جاردن سيتي لما صار قضية صحيح أنه يمتلك تاريخه، ولكن تاريخ شخصي، لم يصبح عاماً إلا بعد أن سكنه الأميركان. الأميركان الذين استباحوا حي جاردن سيتي استباحوا العراق أيضاً هل ثمة مقارنة. الفعل واحد والطريقة مغايرة حتى وإن تشابهت في الأخير عندما خلقت لها تلك السفارة أسواراً وممنوعات لم يشهدها حي جاردن سيتي من قبل. الفوتوغراف الشخصي مع من أرادت تهاني راشد أن تقف حينما قدمت حي جاردن سيتي بالأبيض والأسود عبر السينما العربية، عبر الفوتوغراف الشخصي، عبر الشهادة اللفظية قديماً وبالملون الحي الآن حديثاً، فإنها قدمت «بالرغم من طول الفيلم الذي وصل إلى 105 دقائق» والذي بدت فيه تكرر الموضوعة نفسها عند بعض الشهادات، حي جاردن سيتي بكل ثقافته، بصراعاته الخفية، بتعاقب أجياله، بحربه الطبقية، بل لنقل بتصالح طبقاته في خضم هذه الحياة. قدمت تهاني راشد الحاضر عبر الماضي والماضي عبر الحاضر، ولأنها حيادية في الطرح لا يمكن أن تكون حيادية في الاختيار الذي هو في النهاية موقف نقدي. اختارت مجموعة من العناصر الرئيسية التي شكلت عوالم فيلمها «جيران»، حي جمع كل المتناقضات في تاريخه الحديث، الطبقة الارستقراطية وتاريخها المسجل مكانياً في السينما المصرية، وبؤرة الأزمة «السفارة الأميركية» وبؤرة الأزمة النفسية في «حرب العراق، و11 سبتمبر» وبؤرة الأزمة الدينية «نزول الفكر الديني إلى الشارع». جغرافيا القاهرة كل ذلك عبر عن موقف الاختيار، موقف ماذا أرادت تهاني راشد أن تقول عبر الفيلم الوثائقي؟ هل أرادت أن تفصح عن موقف إزاء طبقة اجتماعية تبهرنا بثقافتها الغربية، هل أرادت أن تسجل عبث الفكر اللاهوتي وهيمنته على الشارع الذي لا ينتمي إليهم، هل أرادت أن تسجل استباحة أميركا لجزء من جغرافيا القاهرة. قدمت تهاني راشد آراء الأحفاد في السياسة التي لم تكن بالضرورة صحيحة في كثير من الأحيان، قدمت الارستقراطية، والفقراء والبسطاء قدمت لقمة العيش وهي تبحث عن فم يصرخ ضد الجوع. قدمت ضرائب السطوح والنفوس. قدمت تهاني راشد الخوف من الجيران، ومن أن تقول شيئاً، حياة الأربعينات في قلب القاهرة «عبدالوهاب، فاتن حمامة، عمر الشريف، وماري منيب وهي تستذكر حي جاردن سيتي». حتى الموسيقى بدت ارستقراطية، ماثلت أجواء القصور وتواريخها الغابرة، موسيقى كلاسيكية هادئة استعانت بها تهاني راشد لتشير إلى عبق التاريخ وكأنها تخرج الآن من نوافذ البيوت الخشبية. وبالفعل ولأكثر من مرة عبر ساعة و45 دقيقة حاولت تهاني راشد تركب «فيلماً داخل فيلم» وكل منهما يلعب لعبته مع التاريخ والجغرافيا. شخوص يروون حكايات في أغلبها متطابقة، موجهة بالسؤال الخفي المطروح عليها، هؤلاء كانوا يقدمون الذكريات بروح المصري الذي يحب الحياة، النكتة البارعة والعفوية المطلقة. أبناء الطبقات الارستقراطية هم ذاتهم ـ الآن ـ في صراع مع وجود السفارة بينهم. «الفكرة ليست جديدة» لكن الجديد فيها أن تتحول المصالحة التاريخية بين الارستقراطية والاستعمار إلى صراع على المكان. الصورة والثقافة انتقالات تهاني راشد في الصورة والثقافة والبنى التحتية «ابن الباشوات، بائعة الخضار، بواب العمارة، المثقف الشيوعي، محمود أمين العالم»، وضابط الشرطة المثقف الإداري في قسم شرطة قصر النيل، الأستاذ الجامعي الذي يتحدث اللغة الفرنسية، سليلة الأسر العرقية التي تنتقد الحاضر المزري الذي حط بثقافة النخبة، كلها تغيرات شهدناها في عالم جاردن سيتي. لم تكتف تهاني راشد بمناقشة السياسة والاجتماع، والفن، والحياة والرقي الاجتماعي والثقافي فقد ناقشت مفهوم العدل والحرية والفكر الشوارعي، حيث نجد طبقة تزيح طبقة أخرى. طرافة الشخصية المصرية، عالمها الإنساني، في المقهى، في البيت في السينما، في المدرسة كلها في «جيران». لم تكتف تهاني راشد بشهادة الارستقراطيين عن الماضي «عبر شواهدهم الحية» بل ذهبت إلى البروليتاريا، فأدلوا بشهاداتهم عن الحاضر بشواهدهم الحية أيضاً. الروائي علاء الاسواني يروي ذكرياته أيضاً. تهاني راشد قدمت كل شيء عبر استنطاق الناس والحجارة والشوارع والأشجار والحكايات. إنها خبرة بعد 20 فيلماً بين عامي 1981 حتى 2004. هي من مواليد 1947 عاشت في كندا وعادت لمصر عام 2005. كان الفيلم من سيناريو تهاني راشد ومنى أسعد ومن إنتاج كريم جمال الدين وتصوير نانسي عبدالفتاح التي برعت في القبض على عناصر حي جاردن سيتي بكل مفاصلها ومونتاج محمد سمير أما الموسيقى وتامر كروان وتمثيل عادل سيوي وعلاء الاسواني ومحمود أمين العالم.. الأشهر في حقول الإبداع الروائي والفكري.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©