الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طه حسين في السعودية

طه حسين في السعودية
6 ابريل 2011 21:32
ما يلفت النظر في كتاب “طه حسين في المملكة العربية السعودية” للباحث محمد القشعمي، إنه يشكل وثيقة تاريخية مهمة سواء لزيارته إلى السعودية عام 1955 أو أصداء تلك الزيارة في كتاباته بعدها، أو في كتابات أدباء من السعودية في الصحافة وغيرها عن ذكريات تلك الزيارة وآثارها. ومن النادر أن نجد مثل هذه البحوث التي تعنى بجمع المواد المتناثرة واستشعار أهميتها، خصوصا وإن طه حسين كان ولا يزال أحد رموز التنوير والتجديد وأبرز الدعاة في موضوع مستقبل الثقافة، لذلك كان لزيارته إلى السعودية أثرا وصدى مهما في الأوساط الثقافية. وفكرة الكتاب القائمة على التوثيق لكل مجريات تلك الأيام صحفيا، ولقاءات طه حسين بالمبدعين، ونقل جميع ما كتب عنه وما قاله في كلمته أثناء لقائه بجموع من المفكرين في زيارته، الكلمة التي تعبر عن عمق طه حسين وقراءته المتمكنة للمكان وتأثيره إذ يقول: “فأنا أحب لكل عربي فيما بينه وبين نفسه أن يزكي نفسه بالعلم والثقافة والمعرفة، وأن يأخذ من هذه الأشياء أكثر ما يستطيع، وأن يتعمقها أشد التعمق، حتى إذا ما لقي الأوروبي والأميركي لم يحس لهذا الرجل أو ذاك تفوقا عليه، ولم يحس في نفسه بالاستحياء من الشعوب التي تتفوق في هذا اليوم”. بل وتؤكد كلمته الرؤية الفلسفية والفكرية التي نهجها طه حسين حتى في كتبه الشهيرة فهو يقول ويكرر: “ليس يكفي أن أشعر أن القدماء منا قد أتاحوا لنا تراثا يعصمنا من الذلة، ويفرض علينا فضلا في العلم والثقافة والمعرفة مهما تكن الظروف”. وفي حديثه عن الثقافة التي حمل هم مستقبلها وطريقها يقول: “أتصور الثقافة وبهذا التصور شقيت كثيرا وكلفت نفسي ما لا تطيق، وأشقيت كثيرين من الذين أتيح لي أن أشرف بالعمل معهم، والشيء الذي لاشك فيه هو أني سأتخذ هذه الخطة نفسها فيما يتاح لي أن أعمله استجابة لرغبة الجامعة العربية حين كلفتني أن أشارك في لجنة الثقافة للجامعة العربية”. ولعل في نهاية هذه الكلمة مايشير إلى فهم طه حسين لواقع العرب حينها وفهمه للسعودية ومقاربته التاريخيه لها فيقول على سبيل المثال في إحدى الفقرات: “أشعر الآن أني أتحدث في بلاد العرب التي عاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وفي البلاد التي مر عليها وقت كان أهلها يقولون ما أشد قرب السماء من الأرض، ثم مر عليها وقت بعد وفاة النبي كان بعضهم يبكي لا لأن شخص محمد قد انتقل إلى الرفيق الأعلى بل لأن خبر السماء قد انقطع عن هذه البلاد”. تتجلى فكرة طه حسين وقراءته للمشهد الثقافي والنهضة الحديثة آنذاك في حوار نشره القشعمي نقلا عن صحيفة “البلاد” السعودية عام 1374 هـ (1955 م) في إجابة عن سؤال يقول: ماهي الروافد الثقافية التي تنصحون بالاتجاه إليها في نهضتنا الحديثة؟ فيجيب طه حسين بأنها “نفس الروافد التي أنصح بها والتي تقضي أن تفتح القلوب العقول على مصراعيها للعلم والفن والثقافة مهما تكن مصادرها، وأن نبذل أقصى مانستطيع لنحمي قلوبنا وعقولنا من أن تستأثر بها ثقافة غربية بعينها”، وفكرته عن الثقافة في السعودية آنذاك فيقول في إجابته في نفس الصحيفة: “هي ثقافة ناهضة يشخصها ذكاء القلوب ونفاذ البصائر وتحرر العقول، وهي بعد ذلك مشابهة من وجه عام لغيرها من الثقافات في البلاد العربية، وإن كانت تمتاز عنها برصانة في اللفظ وجزالة في الأسلوب وصرامة في التفكير وخفة في الروح” إلى آخر حديثه عن أدب الجزيرة العربية والنهضة الحديثة... وقد كرر طه حسين آراءه تلك في كثير من الاحتفالات التي أقيمت أيامها بمناسبة زيارته الرسمية في المعاهد والتلفزيون والإذاعة والصحف وغيرها، فيقول في زيارته للإذاعة في جدة: “ما أشد شوقي وما أشد شوقكم فيما أحقق إلى أن نرى هذه البلاد كما عرفناها من كتب الأدب، وإلى أن نرى شعراءها يحيون في المدينة ومكة وفي نجد وفي الحجاز كما كانوا يحيون، ويبعثون من الحياة إلى أعماق القرون مثلما كانوا يبعثون”. ولنتأمل رأيه حول الثقافة التي حملها هما على عاتقه وذلك في إجابته في مجلة “المنهل” ـ ولم يذكر محمد القشعمي تأريخ هذا الحوار ـ يقول طه حسين: “أتمنى أن يرفعوا الثقافة والأدب والعلم والفن فوق منافع الحياة المادية وأغراضها وأن يؤثروها على كل شيء وأن يطلبوها نفسها لا لما تحقق لهم من المنافع القريبة، وأن يتخذوها غايات لا وسائل وهم مطمئنون إلى أن الرجل المثقف أنفع لنفسه وللناس من الرجل الجاهل، وأن العقول التي يقومها العلم ويزكيها الفن هي وحدها التي تستطيع أن تنتج وأن تملأ الدنيا خيرا”. طه حسين عميد الأدب العربي كما هو اللقلب الذي أطلق عليه، بدت آراؤه وكلماته في ذاكرة هذا اللقاء التاريخي والزيارة الثقافية مؤثرة نظرا لما يمثله مساره الفكري وطريقته المنهجية، والتي كما يبدو أنها زيارة مؤثرة وذاع صيتها فسرعان ما بدأ الكتّاب والأدباء والمبدعين أيامها في الكتابة عن طه حسين الرمز والمثقف الحر والمفكر الذي أثار جدلا واسعا بآرائه الجريئة والمغايرة، تلك الآراء التي كانت تعتمد على إعادة قراءته للموروث ومساءلته وقراءته حسب معطيات مختلفة مرة أخرى. ومن الغريب أن مؤلف الكتاب محمد القشعمي يعتبر أن طه حسين قد خُدع من المستشرقين واعتبر بعض أفكاره مما سماه الفكر الضال، وأنه قد عاد من هذا الضلال، وهذه فكرة قد تحتاج إلى مراجعة أخرى. لقد كتب عن زيارة طه حسين كثير من الأدباء من أمثال عبدالله عريف في صحيفة “البلاد”، وعبدالله ساب، وألقى خلالها الشيخ محمد متولي الشعراوي قصيدة وقد كان أيامها عضو بعثة الأزهر، كما كتب عنها شكيب الأموي، وعبدالقدوس الأنصاري، ومحمد سرور الصبان، ومن ثم عابد خزندار تحت عنوان “محنة الأدب وطه حسين” ويقول في مقاله: “وهكذا أسعدني الحظ وهيأ لي حسن الطالع أن أقضي لحظات مع الدكتور طه حسين في يوم ما في قاعة (يورت التذكارية)، لحظات أفاض فيها في الحديث كدأبه حين نلقاه متحدثا أو تسمع إليه محاضرا، ولكن شيئا كثيرا من الدهشة وموجة جارفة من القلق جرفتني في تيارها الصارم حين سمعت الدكتور طه حسين يحدثني عن محنة الأدب وينعاه إليّ في ألفاظ منمقة مزوقة وكلمات منسقة وأسلوب ساحر وعبارات جذابة خلابة ملكت علي تفكيري واستحوذت على حواسي”. وكما يبدو من خلال ما نقله القشعمي في ملحق الكتاب أن علاقة طه حسين قد استمرت عميقة ومتصلة بشعراء ومبدعين من السعودية بعد هذه الزيارة، فكتب عن ديوان الشاعر السعودي الراحل حسن قرشي مقدمة لديوانه “الأمس الضائع”، وكذلك سنقرأ رسائل وكتابات رائعة مع عبدالفتاح أبو مدين، وحمد الجاسر، وشهادات لعلوي طه الصافي، ومحمد السحيمي، ودراسات لنيل الدكتوراه من عدد من الطلاب حول طه حسين ودوره الثقافي وأدبه، وهذا ما يتبين أيضا من خلال مجموعة الصور التي تركها لنا القشعمي في نهاية الكتاب كصفحات لايطويها الزمن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©