الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علي حرب: كسرتُ أختامي الأيديولوجيّة

علي حرب: كسرتُ أختامي الأيديولوجيّة
13 يوليو 2016 22:49
أحمد فرحات يروت - «الاتحاد الثقافي» فَرَض المفكّر والفيلسوف اللبناني علي حرب نفسه على خارطة التفكّر الفلسفي العربي الحديث منذ عقود ثلاثة، وكوّن له أتباعاً و«مريدين»، خصوصاً في صفوف الشباب على امتداد الدنيا العربية الواسعة، يتبعونه في كل كتاب يُصدره، وكل محاضرة يُلقيها، وكلّ مناظرة يُجريها، حتى وصل الأمر ببعضهم، وتحديداً في تونس، أن يقول أمام سيدّ التفكيكية، الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا عندما كان يُحاضر هناك: «تعلّمت التفكيكية من أطروحات علي حرب أكثر مما تعلّمتها من أطروحاتك». من زمان تجاوز علي حرب سن الرشد الفلسفي، متمرّداً على الآباء الرموز في كل المراحل.. من الإغريق، مروراً بفلاسفة عصر الأنوار، ووصولاً إلى أساطين الأسئلة الجديدة والمستجدّة اليوم. في هذا الحوار البانورامي معه، يدعو علي حرب إلى إعادة النظر في العدّة الفكرية التي يستخدمها المثقفون في إدارة قضاياهم وشؤونهم، ويرى أنهم فقدوا صدقيّتهم، من حيث فهمهم للواقع كما تصوروه، كما فقدوا مشروعيّتهم، من حيث ادّعائهم تجسيد القيم، التي لم يحسنوا سوى انتهاكها، كما فقدوا فاعليتهم من حيث تأثيرهم في المجريات. وعلى ضفة أخرى من الحوار، يتحدّث علي حرب عن الإمارات ودول الخليج، قائلاً إنه من حسن حظّ هذه الدول، أنها لم تُحكم من مُنظرين عقديين، سواء أكانوا قوميين أم يساريين أم إسلامويين، وإلاّ كان مصيرها الخراب. كما أشاد فيلسوفنا بخطوة الإمارات الأخيرة لجهة تعيين وزيرة شابة، وإنشاء وزارة للسعادة، معتبراً أن خطوات كهذه، تعكس وجهاً إضافياً من وجوه التطوّر الحضاري الكبير في الإمارات، والذي يثبت مرة أخرى أن هذه الدولة متقدّمة على مجتمعاتنا، حتى في مسألة المرأة. في ما يلي تفاصيل الحوار: * سأبدأ معك من سؤال ساخر طرحه ريجيس دوبريه على نفسه وعلى الآخرين: ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً؟ ** كان ريجيس دوبريه قد أدرك، بعد تجربته النضالية مع غيفارا، إخفاق المشروع الثقافي لتغيير العالم، وفقاً للإيديولوجية الماركسية. فعاد عن مهمته تلك إلى مهنته ككاتب، وكفيلسوف، يحلّل الأحداث ويقدّم قراءته للواقع. وفي محاضرة له في بيروت قبل سنوات، قال دوبريه معارضاً ماركس: المطلوب أولاً معرفة الواقع قبل الشروع بتغييره. وها هو يعلن في كتابه الأخير حول التاريخ: «السيد التاريخ» نهاية فكرة التقدّم التاريخي والتحرّر البشري، لأنه بات مقتنعاً بأن مختلف المشروعات والبرامج المتعلّقة بفكرة الخلاص، قد أخفقت، سواء أكانت دينية أم علمانية. ويا لها من نهاية انتهى إليها أحد أبرز أعلام الفكر اليساري في النصف الثاني من القرن العشرين. ولا أقول مع فوكوياما بأنها «نهاية التاريخ»، ولا مع هيغل بأنها «سخرية التاريخ». فنحن نحصد في النهاية ما زرعناه، أعني أننا ضحية أفكارنا التي تعاملنا معها بصورة فردوسية طوباوية، بقدر ما تعاملنا مع الواقع بصورة تبسيطية أحادية الجانب. والسؤال عن دوبريه يحملني على توجيه السؤال له، فبعد سلسلة الاعتداءات التي تعرضت لها باريس، من طرف المنظّمات المتطّرفة، هل ما زال متمسّكاً، بوصفته الشهيرة، بأن الدين هو «فيتامين الضعفاء»؟. أعود إلى سؤالك يا صديقي الشاعر، لأقول بأنني لم أكن أنتظر ريجيس دوبريه، الذي أقرؤه وأفيد منه وأعجب بأسلوبه، لكي أصل إلى مثل هذه النتائج. فمنذ كتابي «أوهام النخبة» – 1996، أعتبر أن المهمة الأولى للفلاسفة والعلماء، هي الفهم والتشخيص. وهم يسهمون في تغيير العالم، بوصفهم فاعلين على المستوى الفكري، بما يبتكرونه من استراتيجيات النظر وبرامج العمل. والشاهد أن ماركس قد أسهم في تغيير العالم، ليس كمناضل كان ينشط في الساحة والميدان ضد السلطات السياسية والاقتصادية، بل بترسانته المفهومية التي حلّل فيها واقع العالم الصناعي والرأسمالي، والتي أوجدت ما لا يُعدّ من الأحزاب والدول والنظم التي استلهمت الفلسفة الماركسية، ولكن لتحوّلها إلى حقيقة مطلقة وعقيدة مقدسة، متعالية على التاريخ أو غير خاضعة للتطوّر، فكان المآل إقامة أنظمة شمولية حوّلت المجتمعات إلى معسكرات، والجماهير إلى قطعان بشرية، بقدر ما فتكت بالطبقات الكادحة باسم الدفاع عن مصالحها. عدّة قديمة * هل يعني ذلك عدم جدوى المثقف وانسحابه من التدخّل في الشأن العام أو عدم اهتمامه بقضايا عصره؟ ** لا أقول بذلك، وقد أُسيء إلى تأويل نقدي للمثقف، من طرف أولئك الذين لا يُحسنون قراءة النقد، بوصفه اجتراح الإمكان على وقع الأزمات وإخفاق المشاريع، أو في ضوء ما طرأ على العالم من تحوّلات وثورات وانقلابات تقنية ومعرفية ومجتمعية. من هنا ما حاولته، وما أزال أحاوله، هو إعادة النظر في العدّة الفكرية التي يستخدمها المثقفون في إدارة قضاياهم وشؤونهم، والتي تشهد على أنهم فقدوا، أولاً، صدقيّتهم من حيث فهمهم للواقع، لأن العالم قد تغيّر بعكس ما تصوروه. وفقدوا ثانياً مشروعيّتهم، من حيث ادّعائهم تجسيد القيَم، التي لم يحسنوا سوى انتهاكها. كما فقدوا ثالثاً فاعليتهم، من حيث تأثيرهم في المجريات. إذن، لم يعد المثقف محتكر الحقيقة، ولا ضمير الأمة أو البشرية، ولا طليعةً أو قائداً للمجتمع. ثمة لاعبون يمارسون فاعليتهم وحضورهم في وسط هذا المشهد اليوم، أكثر بكثير من المثقف الذي يلوم الزمن والمجتمع.. من مثل لاعب الكرة، إلى نجم الغناء، ومن الرجل الميديائي إلى «الأمير الجهادي»...إلخ. لذا، فالرهان أن يُغيّر المثقف نظرته إلى نفسه ومكانته، وأن يبتكر دوراً جديداً له، يمارس من خلاله فاعليّته بكسر ثنائية النخبة والجمهور أو الطليعة والشعب، ويفكّر كفاعل اجتماعي، شأنه شأن الفاعلين في باقي الحقول والقطاعات، ويعمل بخصوصيته كمنتج للأفكار التي يمكن أن يفيد منها المجتمع في تشخيص مشكلاته أو تحسين أوضاعه. * يوصف علي حرب بأنه أكثر المفكّرين العرب تناغماً مع اتجاه ما بعد الحداثة، وهو أكثر من يمثله في المجال الفكري العربي... ما تعليقك؟ ** ما بعد الحداثة ليست مجرد اتجاه فكري، وإنما هي انقلاب معرفي لا سابق له، فُتحت معه إمكانات خصبة وهائلة أمام عمل الفكر. إنها موجة حداثية جديدة حاول أعلامها، كل في حقل اختصاصه، وعلى طريقته، تجديد أنماط التفكير وأنظمته ومناهجه وحقوله، وذلك عبر إخضاع خطابات الحداثة بموجاتها الأولى، إلى عمل النقد والفحص، بالحفر في طبقاتها المعرفية أو تفكيك أبنيتها الفكرية وشيفراتها الدلالية، للكشف عما تنطوي عليه الشعارات والمشاريع من أوجه قصور وخلل أو حجب وزيف أو اعتباط وتحكّم. بهذا المعنى، فـ «ما بعد الحداثة» وُلدت من رحم الحداثة، ومن أزمتها بالذات. ومن الفاضح، أن أكثر الحداثيين العرب تعاملوا مع المفاهيم والمناهج الجديدة، كفزّاعة يخشون منها على حداثتهم أو على هويّتهم وعقائدهم. هذا مع أن الحداثة هي، في مبتداها، مشروع نقدي وعمل تنويري، كما بدأت مع الشك الديكارتي والنقد الكنطي. وفي ما يخصّني، لا شك بأن فكر ما بعد الحداثة، قد شكّل خلفية نظرتي إلى الأمور، بقدر ما بات من طيّات تفكيري. وليس ذلك مجرد تناغم أو تمثيل. فأنا قد اجتهدت في استثمار ما قرأته واشتغلت عليه أو تمرست به، وعملت على تطويره وإغنائه، بفتحه على أسئلة وقضايا جديدة، أو على نصوص وعوالم مختلفة. ولهذا صرت من صنّاعه. بمعنى أن ما أنتجه أصبح يحمل ختمي ويُنسب إليّ. وهذا ما تشهد به مفاعيل وأصداء أعمالي، منذ صدور كتابي: «التأويل والحقيقة» - 1985، إذ هي استقبلت بوصفها وجهة نظر جديدة أو طريقة مختلفة في التفكير، من جانب كتّاب ونقاد ومشتغلين في الحقل الفلسفي، أسهمت في تكوينهم الفكري، بقدر ما أفادوا منها أو استلهموها أو اشتغل وبعد صدور كتابي «نقد النص»، كنت أُفاجأ عندما ألتقي قراءً من غير بلد عربي يقولون لي: هذا الكتاب أيقظني من سباتي أو غيّر من تفكيري أو دفعني إلى تحطيم أصنامي الفكرية. أقول فاجأني ذلك، لأن النصّ يتعدّى صاحبه بمفاعيله وأثره. جهل مركّّب * ما هو ردك على من يقول كيف ننتقد الحداثة الفكرية ونحن لم نصبح حداثيين بعد؟ ** أعرف أن بعض الحداثيين العرب يتساءل عن ذلك باستغراب: كيف ننتقد الحداثة ونحن لم نصنع حداثتنا الفكرية بعد؟ ولكنهم بذلك يشهدون على جهلهم المركّب بمعنى ما يقولون، وبالحداثة نفسها، لأنه إذا صحّ الجدل بأننا عجزنا عن صنع حداثتنا الفكرية والعلمية، بعد كل هذه المحاولات المستمرة منذ عصر النهضة، فبسببٍ من أوهامنا عن الحداثة، وعن الحقيقة والحرية والتقدم والتنوير، وكلّها شعارات تمّ التعامل معها كأيقونات مقدسة، بعقل أحادي تبسيطي، لكي تترجم بأضدادها على أرض الواقع الحي، الذي يكشف عن جهلنا وتخلّفنا، بتعقّده والتباساته وتقلباته ومتاهاته. فالأولى إذن أن نشتغل بنقد الحداثة، التي هي أساساً خروج على التقليد، لكي نصنع حداثتنا، إما بتطوير مفردات الحداثة وعناوينها، أو بابتكار عناوين جديدة، ولاسيما أننا ننخرط اليوم في صنع حداثة معاصرة، مركّبة، تعدّدية، فائقة، سيّاله بمعطياتها وأدواتها وشبكاتها ومساراتها. ولكن الكثيرين من الحداثيين العرب تصرفوا كديناصورات فكرية. أرادوا أن نصنع حاضرنا وأن نتخيّل مستقبلنا على شاكلة ماضي أوروبا قبل ثلاثة أو أربعة قرون، أي على ما كانت عليه في زمن ديكارت أو روسّو أو كنط أو هيغل.. هذا في حين أنه بالإمكان استثمار أعمال هؤلاء، بالاشتغال عليها، وتطويرها، في ضوء مشكلاتنا الراهنة. هكذا، نحن نقرأ لكي نقوم بتطوير ما نقرؤه، ونعاين في النص ما لم يرد على ذهن مؤلفه، أو ما لم تتطرّق إليه القراءات السابقة أو المختلفة. وذلك بالتعامل مع الأعمال، بوصفها إمكانات يمكن استثمارها في حقول لم يجرِ العمل فيها من قبل، أو بتناول مشكلات جديدة وراهنة، أو باستخدام لغة مفهومية مختلفة. والنصوص القوية التي تتمتّع بالجِدّة والأصالة تستعصي على التصنيف والاختزال إلى هذا الاتجاه أو ذاك، بقدر ما تفتح أمام قارئها أفقاً للفكر أو أبواباً للمقاربة والمعالجة، بحيث تتيح له أن يفكّر بطريقة مختلفة، أو أن يقدم قراءته الجديدة وغير المسبوقة لما يتناوله من القضايا والمسائل. وأذكر أنه عندما قال لي كاتب عراقي التقيت به للمرة الأولى في معرض عربي للكتاب، بأن نصوصي تشكّل نموذجه لكتابة نصّ فلسفيّ عربيّ، كان جوابي: هكذا يكون الأمر في البداية، حيث ما تفيده من الأفكار من جانب غيرك، هو مجرد مخزون معرفي، أي مجرد إمكان للتفكير، والرهان أن تشتغل عليه، أو به، لكي تولّد أفكاراً تصنع بها نصّك وتحمل ختمك. العرب في المؤخرة * عرباً جميعاً، هل بتنا نعيش، وبشكل يقيني، نهاية أوهام الحداثة؟ ** نحن في العالم الحديث منذ عصر الطهطاوي. هذا على الصعيد الفكري. أما على الصعيد التقني، فالتحديث بدأ قبل ذلك، وتحديداً مع دخول المطبعة إلى جبل لبنان. مع ذلك، فالعرب هم في مؤخرة الركب، إذا لم يتمكّنوا من المشاركة في صناعة العالم الحديث بصورة فعّالة وبنّاءة، بقدر ما نجحت اليابان أو ماليزيا أو دول أخرى صنعت حداثتها، بابتكار نماذجها التنموية وصيغها الحضارية. هذا مع أنه كانت هناك انطلاقة حضارية في عصر النهضة والإصلاح، عصر محمد عبده والكواكبي والتونسي والفاسي والشميّل وطه حسين وقاسم أمين والزهاوي وطلعت حرب... يومها كانت مصر متقدّمة على دول كانت وراءها، فإذا بها تصبح اليوم أمامها. والعلّة في ذلك أنه تمّ الانقلاب على المنجز الحضاري والتنويري، بدلاً من تطويره وإثرائه، بعد الدخول في عصر الإيديولوجيات الشمولية، القومية واليسارية والإسلامية، بثنائياتها الخانقة ومقولاتها الخاوية ويقينياتها الفاشية. بذلك تراجع المكسب الديموقراطي والمجتمع المدني، لكي تعود البلدان العربية إلى الوراء، وتلك هي حصيلة التوقّف عند عصر معين، بثوابته المعيقة وأفكاره المستهلكة ونماذجه العقيمة: تخريب الحاضر وتلغيم المستقبل. * هل يعني ذلك أن بلداننا العربية توقفت عن النمو والانخراط في أعمال التحديث؟ ** قطعاً لا. ولكنها لم تستطع بلورة نموذجها الحضاري، بقدر ما أخفقت في الاستحقاقات الأربعة المتعلّقة بامتحانات الديموقراطية والمعرفة والتنمية والإدارة. نعم، هناك تطوّر كمّي هائل، في العمران وفي استخدام أحدث الوسائل والتقنيات، ولكن مقابل تراجع للثقافة المدنيّة والفكر التنويري، قياساً على ما كان يجري في زمن طه حسين أو رئيف خوري أو قبل ذلك. ولو توقفنا مليّاً عند المناظرة بين محمد عبده وفرح أنطون، فسنجد أنها كان مناظرة تنويرية راقية، مفهوماً وممارسةً. أما اليوم، فالشعارات والقيَم لا ينتهكها سوى حرّاسها ودعاتها. ثمة انهيار مريع تشهد عليه لغة التخاطب بين الساسة والمثقفين. والمثال الفاضح والمعيب، هو المناظرات والتعليقات التي تفاجئنا بها الشاشات الصغيرة أو بعض الصحف، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي، إذ هي بلغت الدرك الأسفل، من حيث الإسفاف والشتاتم والاستسلام للغرائز العمياء والعصبيّات العنصرية. ثنائية الشرق والغرب * في مقالة لك بعنوان: «مدن تجاوزت ثنائية الشرق والغرب» تقول إنه «من حسن حظ دول الخليج، وبالأخص دولة الإمارات العربية المتحدة، أن لم يستلم السلطة فيها منظّر أصولي، أو قومي أو يساري، وإلاّ لكان المآل هو الفشل والخراب، كما يشهد بعض دول المشرق العربي، بل قادها حكّام تصرّفوا كساسة، همّهم الأول النهوض ببلدانهم واستثمار ثرواتهم بعقول مرنة، مركّبة، راشدة، تحسن الإدارة والتدبير. والنتيجة هي تحوّل عواصم الخليج إلى واحة مزدهرة، هي ورشة دائمة لصناعة الحضارة العالمية. * أنا معك في هذا الكلام ودلالاته، والسؤال لماذا لا يعترف مفكرون عرب كثر ممّن زاروا الإمارات ودول مجلس التعاون بمثل ما تعترف به أنت، وتكتبه وتصرّح به في غير مناسبة؟ ** جوابي أنني خرجت من قوقعتي الفكرية وكسرت أختامي الإيديولوجية، بقدر ما تحرّرت من المناهج القاصرة والمقولات المغلوطة التي كانت تتحكّم بنظرة المثقفين العرب إلى الأحداث، لتشهد على قصورهم وتنتج هامشيتهم. ما أحاوله دوماً، هو أن أنظر إلى المجريات بعين مفتوحة، مركّبة، مستقبلية، كوكبية، عالمية، من غير عقد هويّاتية أو تهويمات نضالية. وهذه هي مهمتي ومهنتي، كمثقف يهتم بالشأن العام، أن أجدّد مفاهيمي فأعيد ابتكار دوري، وأصنع صورة جديدة لي، كي أتمكن من ممارسة صدقيّتي المعرفية وفاعليتي المجتمعية. من هنا كان نقدي موجّهاً بالذات نحو الشعارات التي رفعت والمشاريع التي طرحت حول الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية، لكي أعيد النظر فيها، بعد سقوطها وانهيارها على أرض الواقع، بنسخها الثلاث، القومية واليسارية والإسلاموية. فالشعارات تُستهلك وتصبح بحاجة إلى التجديد والتعويم. من هنا قولي إنه من حسن حظّ دول الخليج أنْ لم يحكمها مُنظّر عقدي، أو قوموي أو يساري، وإلاّ لكان مصيرها الخراب. وها هي دول الخليج نجحت في مشاريع التحديث، وحققت نقلة نوعية في مجالات التنمية، بقدر ما أحسنت استغلال ثرواتها ومواردها. كان العراق يملك ثروة هائلة، لا تقلّ عن الثروة التي يملكها هذا البلد الخليجي أو ذاك، ولكن سياسة الاستبداد والفرعنة والتشبيح، أفضت إلى هدرها والى خراب العراق. وتلك هي المفارقة: كنا نتعالى ونتباهى، بحداثتنا وتقدّمنا وثقافتنا على دول الخليج، فإذا بها تفاجئنا بأنها صارت أكثر حداثة وتقدّماً منّا. كنا أمامها، فأصبحت هي أمامنا، لكي تكشف عن تخلّفنا وادّعائنا وزيفنا في ما طرحناه من شعارات. أكثر من ذلك، إن دول الخليج باتت، اليوم، المساحة الحضارية الباقية، بعد خراب دول المشرق، لذا أصبح الاعتماد عليها على غير مستوى: على المستوى الاقتصادي، كونها فتحت أبوابها لمن شاء من العرب أن يعمل فيها. وعلى المستوى الإعلامي كما تشهد قنواتها وشبكاتها التي باتت تضارع القنوات العالمية بفاعليتها وانتشارها. وعلى المستوى الثقافي تتقدّم دول الخليج بكتّابها وأدبائها ونقادها، ثم بمجلاتها ونشراتها ومؤسساتها وجوائزها. ومن اللافت أيضاً أنه أصبح لها على المستوى الاستراتيجي، مفكّروها ومحلّلوها، الذين لا يقلّون وزناً عن نظرائهم العرب والغربيين. الإمارات تستحق عنوانها الجديد: دولة السعادة * أي صورة انطبعت لديك عندما أعلن في الإمارات مؤخراً عن قيام وزارة للسعادة... وماذا عن خطوة توزير امرأة بحدّ ذاتها في هذا البلد العربي الحيوي؟ ** لقد فاجأتنا دولة الإمارات بصورة مضاعفة. أولاً، بتعيين وزيرة شابة، وثانياً بإنشاء وزارة جديدة تحت عنوان «السعادة». هذا الإنجاز الذي هو أحد وجوه التطوّر الحضاري في الإمارات، يثبت أن هذه الدولة متقدّمة على مجتمعاتنا، حتى في مسألة المرأة. مرة أخرى. يا لها من مفارقة فاضحة تشهد على ما تُحقّقه دول الخليج من الإنجازات مقابل المآلات البائسة والنهايات الكارثية لمشاريعنا ودولنا، كما هي الحال في سوريا والعراق واليمن وليبيا واليمن. ولا شك أن دولة الإمارات تستحق مثل هذا العنوان الجديد: السعادة، بعد نجاحها في غير استحقاق حضاري. وقضية «السعادة» التي استأثرت باهتمام الفلاسفة الإغريق والعرب، هي الوجه الآخر لقضيّة «التنمية»، التي هي العنوان الراهن للنشاط البشري اليوم. ومن المفيد أن نعود إلى مفهوم «السعادة»، بعدما كدنا ننساه، وسط تراكم الهموم واستعصاء الأزمات، أو وسط تكاثر الشعارات والعناوين؛ والمقصد أن نُحدّد معنى المصطلح، في ضوء حياتنا المعاصرة، بهمومها ومشاغلها وتعقيداتها المتزايدة، فضلاً عن تحوّلاتها المتسارعة وتقلّباتها المفاجئة التي يخشى أن تفقد المرء توازنه، ولاسيما لدى الأجيال الجديدة. إن مجتمع الإمارات انتقل بسرعة من طور إلى آخر، من مجتمع الشظف إلى مجتمع الترف. ولكن لكل شيء وجهه الآخر أو ثمنه. فالترف قد يرتد على صاحبه إذا لم يحسن استخدام ثروته، وما يتمتّع به من فائض، قياساً على سواه، سواء داخل بلده أم قياساً على البلدان الأخرى، التي تعاني من الفقر أو البؤس. وذلك يطرح على مجتمع الإمارات مسألة سياسة النفس في ما يخص علاقة المرء بنظرائه، وهي الوجه الآخر لقضية المسؤولية والأمانة في ما يخصّ العلاقة مع الطبيعة: كيف يستخدم المرء حياته ويصرف رغباته، كيف يسوس أهواءه ويدير شؤونه، لكي يحسن العيش مع نظرائه؟ فالإنسان كائن اجتماعي؛ لذا لا يسع الفرد أن ينتج وينجح، إلاّ في حقل مهني أو وسط مجتمعي أو بيئة ثقافية. ومنتهى الرضى أو السعادة، هو أن يكون الفرد منتجاً في عمله، معترفاً به في وسطه، مقدّراً من مجتمعه وبين أنداده. ومن هذا شأنه يحيا حياة متوازنة لا يطغى فيه بعد على آخر، بحيث يمارس الواحد حيويته الوجودية، بكل أبعادها: المعرفية والسياسية والفنية والخلقية؛ فالحياة هي نظر وذوق وأسلوب، بقدر ما هي شراكة ومعاملة أو مداولة ومبادلة. لا أعتقد بالتقليد والنسخ ما أنا عليه في تفكيري، هو حصيلة كل ما قرأته وتمرّست به من الكتب والنصوص، سواء بالعربية أم بالفرنسية، أو بما ترجم عن الانجليزية والألمانية. وفي ما خصّ ما بعد الحداثة، فلا شك أنها كانت الأبلغ أثراً والأعمق حفراً. وكما واكبت نتاج أعلامها، كفوكو ودولوز ودريدا وليفي ستروس وبارت وسواهم.. ربما يحتل فوكو المرتبة الأولى من حيث أثره على تشكّل تفكيري، فلقد قرأت أعماله بشغف وإمعان غير مرة، وعلى سبيل التجويد إن جاز القول. وفي كل مرة، كانت لي شروحاتي وتعليقاتي على هوامش الصفحات، لكن ذلك لم يمنعني يومئذٍ من تسجيل بعض التساؤلات أو الملاحظات النقدية على أطروحاته. ميشال فوكو جدّد وابتكر، إن على صعيد الحقل والمنهج أو على صعيد المفهوم والأسلوب. لذا ترك أثره القوي على ساحة الفكر العالمي، وأنا أعدّه أبرز فيلسوف ظهر في العالم، أقلّه في النصف الثاني من القرن العشرين. يبقى الأهم من ذلك: القراءة وثمرتها. وأنا لا أعتقد بالتقليد والنسخ. فالتقليد لنصٍ قوي يفضح صاحبه، أي المقلّد. ربما هناك شروح، ولكن الشرح لا يتماهى مع الأصل، ما دام كلام الشارح يختلف عن كلام الأصل ولو بمخالفة طفيفة من حيث بنية العبارة. فكل كلام ينتج معناه. من هنا اعتبر أن النص يُقرأ وفقاً لاستراتيجية مثلثة، شرحاً، تأويلاً وتفكيكاً. ما بعد الإنسان ما فعلته الثورة الرقمية والتقنية، هو أنها فتحت إمكانات هائلة أمام الإنسان على المستوى الوجودي والكوكبي وربما الكوني. لقد غيّرت علاقاتنا بمفردات وجودنا، بما فيها علاقة الإنسان بنفسه وفكره، بخياله وحواسه، بدماغه وجسده، الأمر الذي جعل البعض يتحدّث، وبشيء من الثقة، عن مرحلة «ما بعد الإنسان». ولكن العولمة قد تستثمر إيجاباً أو سلباً، شأنها شأن أيّ أمر محوري آخر. إنها كمفهوم الدين، منهم من يترجمه تُقىً وصلاحاً، ومنهم من يوظّفه في أعمال التكفير والإقصاء وقتل الناس الآمنين والأبرياء، كما يفعل ذلك أولئك المتطرفون باسم الله والإسلام والشريعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©