الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الاسترجاع يملأ فراغات الحكاية

الاسترجاع يملأ فراغات الحكاية
24 يوليو 2008 00:24
تعمل هذه الدراسة على تتبع بعض المظاهر السردية في الشعر الإماراتي من خلال القراءة السردية لقصيدة ''عندما مات سعيد بن البشارة'' للشاعر عارف الخاجة، على الرغم من أن ثمة أمثلةً كثيرةً للشاعر وغيره يمكن الاطمئنان إليها في هذا الإطار، إذ تطرح قصائد عديدة لعارف الخاجة وصالحة غابش ود· مانع سعيد العتيبة وغيرهم، قضية العلاقة بين الشعر والسرد، من خلال قصائد، تتكئ على بنية حكائية، لتقدّم من خلالها زاوية من زوايا رؤيتها للقضايا التي تشغل الشعراء وتؤرقهم· تعدّ قصيدة ''عندما مات سعيد بن بشارة'' لعارف الخاجة نموذجاً ممتازاً لمدى إفادة الشعر من والسرد، وتضافر الصورة والموسيقى مع عنصر الحكاية لتقديم نص متماسك يقدّم مقولته الأدبية بكلّ وضوح، في حلّة أدبية قشيبة· وتجسد القصيدة حكاية سعيد بن بشارة، وهو مناضل عنيد، ضد القمع والتمرد، تحيط به أسرة تحبه، وحبيبة تعشقه، وأصدقاء يؤمنون بأفكاره التي أضاءت طريقهم، وحين يتم نفي سعيد وسجنه يتحول إلى رمز، ويصمد في منفاه، ولكن ليس إلى النهاية، إذ يوقع صك صمته واستسلامه في نهاية المطاف، وحين يعود إلى وطنه وأهله، وقد أضاع الأمانة، فإنه لا يجد أحداً في استقباله· غير أن القصيدة لا تبدأ من بداية الحكاية، بل ترصدها في وضعها النهائي المستقرّ الذي يجسّد حالة ''سعيد بن بشارة'' وهو يبتسم في كلّ صباح ابتسامة غامضة، ويذرف دموعاً أكثر غموضاً بالنسبة للقارئ مع خمرة المساء، وهنا يجد القارئ نفسه في مواجهة هذين الفعلين المتكررين الغامضين: الابتسام المبهم والبكاء: صباحاً·· يمارس بسمته المبهمهْ وفي آخر الليل حين تمزّقه الخمر يبكي ويكون مطلوباً هنا من الشاعر السارد الذي يبدأ من هذا الوضع النهائي أن يقدّم مسوّغات الحالة اليومية الراهنة التي انتهى إليها سعيد، ولا يجد أمامه من الخيارات الفنية إلا الاسترجاع الذي يضيء جوانب مختلفة من حياة بطله، ويقوم بسد ثغرات الحكاية وملء فراغاتها، فقد كان سعيد يقضي نهاراته في منفاه، في فضاء سجني، وهنا يبرع الشاعر السارد في تأثيث هذا الفضاء، فيبدو البطل الفني ملتصقاً بالباب/ أمل الخروج، سائلاً عناصر فضائه المحيط عن أخبار من حوله: كان بمنفاه يقضي النهاراتِ ملتصقاً خلف باب ترقّبَهُ··· واضعاً عينه فوق ثقب يتيم·· يئن ويسأل جدران غرفتهِ عن ذويه وأخبار جيرانه والرجال القدامى الذين انحنوا للحكومةِ وهنا من خلال هذه الجملة الأخيرة تنفتح الدلالة على مداها الأقصى لتنير جوانب مظلمة عديدة، إذ إن سؤال سعيد عن ''الرجال القدامى الذين انحنوا للحكومة'' تعني ضمناً أنه لم ينحنِ لها، وأنه ما زال مصرّاً حتى اللحظة الراهنة على الأقل على عدم الانحناء، وأن وجوده في هذا المكان هو ثمن يدفعه من أجل ألا ينحني، لذلك يبحث في سجنه/ غرفته، وبابها وجدرانها مقوّمات الحياة، من خلال الماضي الذي ما زال في ذهنه طازجاً تماماً، وهنا يتجسّد انتماء الشاعر إلى أمه التي تعدّ كونه الأول، ذاكرته التي تحيل على الطفولة والمواويل والنخيل وهديل الحمام: يسأل عن أمّه، بعدما عميَتْ من بكاء الليالي عليه: تراها تحبّ المواويل أم مسحَتْها من الذاكرهْ؟ ومن يعتني بنخيلاتها، والحمام ومن أجل أن تكتمل الصورة الاسترجاعية يستذكر سعيد صورة نفيه، تتجسّد الصورة أمامه بتفاصيلها: الأصحاب الذين ودعوه متحسرين، والفتاة (ربما حبيبته) التي تلقفها الأمن لأنها تمادت في إبداء حسرتها!! ووالده الصامد، الشامخ بصمود ابنه: ويسأل عن كلّ من ودّعوهُ بباب المطار يدارون حسرتهم غير تلك الفتاة التي صرخت فتلقفها الأمن يذكر والدَهُ شامخاً بين تلك الجموع ويستمرّ عارف الخاجة في بناء عالم الذكرى الذي يضيء حياة سعيد قبل أن يصل إلى نهايتها التي عبّرت عنها بداية النص، فيتذكر سعيد محاولات الحكومة لشراء ضميره، ويتذكّر صموده في وجه محاولاتها، لأنه (كان) أكبر من أن يباع ويشترى: ويذكر في النفي كم راودته الحكومة عن نفسها، إنما كان أكبر من أن يسير إلى الهاويه!! ويقيم الشاعر السارد زمناً موازياً تماماً لزمن النفي، هو زمن الدار، من خلال نقل المكان، ففي الوقت الذي كان فيه سعيد يتذكّر الناس في الدار: الأم والأب والحبيبة والأهل والأصحاب، وهو في منفاه، كان أولئك جميعاً يتذكرونه وهم في الدار/ الوطن، ويغنّون له في سرّهم، فقد كان صموده نشيد الفقراء: وفي الدار·· كان المغنون يجتمعون بمبنى الإذاعة صبحاً ويشدون باسم الرئيس، وفي الليل -سرّاً- يغنّونَ باسم المناضلِ كان الغناء له يتسلّل للفقراء ويسكن في كلّ كهفٍ ويدخل في كلّ ثقب هذا النشيد الذي يعيش عليه الفقراء يسوّغ فنياً ما هو آت، لأنه نشيد يجسد مدى انتماء هؤلاء إلى سعيد، وإلى فكرته، وإلى صموده، لأنه يعني لهم حلماً مَّا، أغنية ما تعزف على وتر التمرد على سلطة تجبرهم على الغناء لها·· وبالتالي فإن أي تراجع محتمل لسعيد سيكون كسراً لحلم كل هؤلاء، من هنا فإن هذا النشيد المتمرد كبر في نفوسهم، وصارت تردده كل الكائنات، إذ تشرئب له الأشجار وصدر حبيبته·· حتى إن الحكومة تشرئب/ تستنفر لنشيده الذي يشعل الحماس والأحلام: يردّده الشجر المشرئبّ، وصدر صبيّته المشرئبّ·· يغطّي الغناءُ صراخ الحكومة إنّ الحكومة كانت إذا سمعتْ باسمه تشرئبّ من هنا فإن صدمة هؤلاء به كانت كبيرة، لأنها حطّمت أحلاماً كبيرة، إذ قايض في ليلة بائسة حاسمة حريته بتوقيع صك استسلامه، ضارباً عرض الحائط بتاريخه الذي حمله الآخرون في قلوبهم، وانحنى معترفاً بما اقترفه قلبه من الأمنيات: وفي ليلة·· كانت الأرض تلفظ أنفاسها، والنساء يلملمنَ أحلامهنّ من الموج، والريح تدخل من ثقب منفاهُ كانَ سعيدٌ يوقّع تحت سطور البراءة·· منحنياً للجريمة·· وهنا أمام نقطة اللاعودة كان عليه أن يعود إلى وطنه، إلى داره وأهله وأصحابه، ليجد أن الذين حملوا نبضه، لم يستقبلوه، لأنه غيّر النبض، وأن الذين هتفوا بنشيده لم يستجيبوا لحنينه، لأنه حرّف النشيد: عاد إلى داره·· لم يكن أحد في المطار، مضى يطرق الدُّور: لم تستجب أمّه لم يجبهُ الصحاب، ولا الشجر المشرئبّ وفي نهاية القصيدة يعيد الشاعر عارف الخاجة سيرة البداية مرة أخرى، ويكرر المقطع الذي افتتح به النص، وبذلك يقدم حكاية ذات بنية دائرية، ويستبقه بنسق لغوي يؤكد فيه أن سعيد، بحريته الشوهاء، خارج سجنه ومنفاه مجرد رجل ميت: هو الآن في قمّة الموت·· صبحاً يمارس بسمته المبهمهْ وفي آخر الليل حين تمزّقه الخمر يبكي وإذا كان الاعتماد على الاسترجاع هو الخيار الفني الأكثر بروزاً في النص، فإن هذا الاسترجاع قام بوظيفته الحكائية بعناصرها كافة، وأضاء الشخصية الرئيسة وما حولها، فسعيد بن البشارة الذي يقيم من خلال اسمه علاقة تضاد من طراز فريد، لم يعش سعيداً، على الإطلاق، ولم يحمل البشارة التي كان ينتظرها مع قومه، فقد انتقل من النفي والسجن إلى الاستسلام، ومن ثمّ إلى الموت المعنوي الناتج عن الخيبة والندم· إنه شخصية رئيسة تحيط بها ظلالها على شكل شخصيات ثانوية تضيء ماضيها وحاضرها، تلك الشخصيات التي كانت تشكّل على مدى سنوات طويلة حصناً له يقيه من السقوط في خطيئة الاستسلام، وقد كان الخاجة على نحو ممتاز، ليبرر انفضاضها عنه بعد أن وقع صك صمته: فالأم عميت عيونها من البكاء عليه، والحبيبة تجرّأت على البوح بحزنها أمام رجال الأمن والأصدقاء ودعوه والفقراء أنشدوا أنشودته في التمرد وحب الحرية، وهنا تبدو براعة الشاعر السارد الذي أناط بهذه الشخصيات مجموعة من الحوادث، وغدت الحوافز المتعلقة بها مشاجب فنية تتعلق بها النهاية، أو ترسم طريق النهاية لسعيد حيث لا حضن ولا ملاذ: لم تستجب أمّه لم يجبهُ الصحاب، ولا الشجر المشرئبّ وإن اقتصار فضاء القص على مكانيْن عاميْن هما الوطن والمنفى، وعلى زمانيْن هما الماضي والحاضر، يجعل شخصية سعيد تنوس بين المنفى والوطن، وتجعل الشخصيات الأخرى تعيش أزمتها بين ماضي سعيد وحاضره· صحيح أن الشخصيات الأخرى فقدت حاضر سعيد، ولكنها لم تفقد ماضيها ولا حاضرها، ولا مستقبلها في وطنها أيضاً، أما سعيد فقد أضاع الوطن نهائياً إذ إنه تابع مسيرة النفي حتى بعد أن عاد إلى الوطن، وهذا بالضبط ما يرسّخ مقولة الحكاية التي تضمنتها القصيدة، فالوطن يبقى حضناً دافئاً للمخلصين من أبنائه·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©