الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الملكة وخيال العاشق

الملكة وخيال العاشق
29 مارس 2012
هناك شخصيات تظل قادرة على أن تلهم الكتاب والمؤرخين وتجذبهم إليها، ومن هذه الشخصيات في التاريخ الإنساني كله والتاريخ المصري، كليوباترا، الملكة بحق، فهي إلى اليوم بعد 2043 عاماً من انتحارها (31 ق. م) ما زالت تمتلك سحراً خاصاً، حتى أن الممثلة اليزابيث تايلور خلدت في تاريخ الفن لأنها جسدت دور كليوباترا. وفي القاهرة صدرت الترجمة العربية لكتاب إميل لودفيج “كليوباترا.. سيرة ملكة” ويدهش المرء أن هذا الكتاب لم يكن قد ترجم إلى اليوم، فقد صدر عام 1937، ومؤلفه احد ابرز كتاب السيرة في الأدب العالمي، ففي عام 1920، اصدر كتابه عن الشاعر الفيلسوف الألماني “جوته” وفي عام 1923 كان كتابه عن “بسمارك” ثم في العام التالي مباشرة “نابليون” وله كتاب عن “لينكولن” وآخر عن “روزفلت” وثالث عن “فرويد” صدر في عام 1946، وله كتاب عن السيد المسيح عليه السلام صدر عام 1928 بعنوان “ابن الإنسان”، وترجمت كتبه إلى العديد من اللغات وهذا ما جعل “جوبلز” يعتبره خطرا على الأفكار النازية. غير السير والشخصيات أصدر لودفيج كتابا عن نهر النيل وسماه “سيرة نهر” وكتابا آخر عن البحر المتوسط، فضلا عن بعض الأعمال الأدبية، مسرح ورواية، ولد لودفيج في بريسلاو عام 1881م وهي الآن جزء من بولندا، عمل صحفيا، وكان مراسلا أثناء الحرب العالمية الثانية من فيينا ثم أسطنبول وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1940 وعاد إلى سويسرا مرة ثانية. حكاية طريفة كتابه عن النيل “سيرة نهر” وكذلك عن “كليوباترا.. سيرة ملكة” لهما حكاية طريفة، فقد وجه الديوان الملكي في مصر، زمن الملك فؤاد الدعوة له لزيارة مصر والاطلاع على وثائق الأسرة العلوية، لعله يعد كتابا عن الملك فؤاد أو عن والده الخديو اسماعيل أو جده محمد علي، كان الملك فؤاد شديد الاهتمام بوثائق وتاريخ الأسرة العلوية، ونجح في تجميع وثائق الأسرة وملفاتها، لكن إميل لودفيج حين جاء طلب أن يقوم برحلة عبر النيل، وتم تدبير الرحلة واطلع على ما أمكنه الاطلاع عليه من وثائق حول ذلك النهر العظيم واصدر كتابه العظيم عنه عام 1939، أي بعد رحيل الملك فؤاد بثلاث سنوات وقبله بعامين كان كتابه عن الملكة كليوباترا، الذي أبدى هو دهشته وهو يقدم له “انتمى بحكم جنسيتي وحياتي وثقافتي إلى البحر المتوسط لكن لم أقدم حتى الآن شخصيات إغريقية إلا باعتبارها شخصيات درامية من دون أن أتناولها مطلقاً تناولاً تاريخياً”. يحدد المؤلف في تقديمه منهج تناوله لسيرة كليوباترا، وكتابة السير عموما، هو ينبه القارئ من البداية.. “تتميز هذه السيرة، من بين كل ما كتبت بخلوها شبه التام من الأسانيد، فالوثائق الشخصية، وأعني بها الرسائل والحوارات والمذكرات، تلك التي جمعتها في حالات اخرى لتفصح عن صاحبها من خلال عباراته أو عبارات أصدقائه وأعدائه، هذه الوثائق نفتقدها في حالة كليوباترا تماماً. كان لودفيج شديد الاعتماد على الوثائق والمذكرات الخاصة في تناوله لعدد من الشخصيات السياسية أو زعماء مثل نابليون وبسمارك أو حتى في تناوله للشخصيات الأدبية مثل جوته وشكسبير، وهذا ما اكسب كتبه اهتماما خاصا من عموم القراء ومن الدارسين المتخصصين، وقد افتقد الوثائق والأوراق في حالة كليوباترا والسبب معروف فبعد انتحار كليوباترا، تم تدمير كل ما تركته من أوراق ومذكرات حتى رسائلها الغرامية فقدت كلها وكذلك معظم المذكرات الخاصة بانطونيوس وقيصر، لم يتبق سوى ثلاث جمل من رسالة وحيدة متبقية من رسائل انطونيوس، ويبدو أن تدمير أوراق ومذكرات الزعماء السابقين والمهزومين سمة إنسانية تجدها في معظم الأمم. وإذا كانت الوثائق والأوراق اختفت، فإن حياة كليوباترا، حياتها العامة، قد سجلت تسجيلا وافيا كاملا، وهذا ما أتاح للكتاب ان يتناولوا سيرتها باطمئنان وخيال أيضا ولعل ذلك يفسر التباين التام في بعض سيرها المكتوبة، حتى أن البعض تخيلها مجرد فتاة سوداء، شعرها مجمد لأنها تنحدر من أصول أفريقية تامة، بينما هناك من رآها فتاة إغريقية الأصل، ناهيك عن من أكدوا مصريتها وسوف تجد الخلاف حول كل شيء فيها، من أنفها وشعرها وحجم صدرها وطولها وغير ذلك كثير. حرية ذهنية غياب الوثائق يعتبره لودفيج ـ في هذه الحالة ـ ميزة خاصة “يمنحني مزيدا من الحرية لتعمق حالات الذهن والنجوى، أكثر مما لو كانت مصادري اكثر وفرة” ثم يقول “إنني أجد نفسي هنا، في حالة غياب المصادر تماما، مضطرا إلى استخدام ـ المونولوج ـ وذلك لأن في الحدث ضمانا كافيا” وهنا نجد الكاتب يعلي المشاعر على ما عداها من أحداث وقضايا يقول”.. المشاعر وحدها هي الأزلية والباقية ولها نفس طبيعة مشاعرنا، وفي ضوئها، فحسب نستطيع ان ندرك وجود بشر مثلنا تماما، في هذه الشخصية التاريخية أو تلك، ومع ذلك يؤكد انه لم يتجاوز ابدا، حد الرواية التاريخية. قدمت الأسطورة التاريخية كليوباترا باعتبارها الملكة العاشقة التي لم تستطع ان تحيا لحظة بعد وفاة عشيقها وبعد هزيمته، لذا وضعت بيدها نهاية لحياتها، لكنها في الكتاب الذي بين ايدينا ليست المحبة أو العاشقة فقط، هي “عاشقة وأم ومحاربة وملكة” هي هؤلاء جميعا وكانت متميزة وبارعة في كل شيء، ويستعين لودفيج في بداية كتابته بمقطوعة دالة للشاعر الألماني جوته، حيث قال”.. عندما تكتسب المرأة بعضا من صفات الرجل فلابد لها أن تنتصر، وهي تضيف إلى مآثرها علو الهمة تصبح كاملة كأشد ما يكون الكمال تصوراً”. المونولوج أو حديث النفس هو الغالب على سيرة ملكة، طوال الوقت تتحدث كليوباترا مع ذاتها ولنتأمل ذلك المشهد “دخل أو أكتافيوس مصر من بابها الشرقي، دون مجابهة في أغلب الأحوال، وحدثت كليوباترا نفسها وهي في قصرها بذكريات شبابها، كان نفس القصر، واعدت المدينة مرة أخرى للدفاع ضد جيش كان يقترب عبر الدلتا، ومرة أخرى كان الى جانبها روماني، غير انه لم يكن قيصر، لكن الوقت الآن وقت حرب إذ ليس وقت الذكريات، وقت عمل ما يمكن عمله”. يقدم لودفيج مشهد انتحار كليوباترا بأناة شديدة وتريث تام “لو أنها استرجعت تاريخ فترتها، لوجدت للانتحار أمثلة كثيرة، كان الرومان مدمنين عليه، عندما يبلغ الخطر مبلغه، وكانوا يعتقدون ان الروماني فحسب هو الذي يستطيع قتل نفسه، ومن بين الرجال الذين قتلوا قيصر، سقط أربعة أو خمسة قتلى بسيوفهم” ويرى لودفيج أن كليوباترا كانت على استعداد لأن تتبين أنه ليس ضرورياً أن يكون المرء رومانيا ليقضي على نفسه بالموت، وفي نفس الوقت كانت مصممة على القتال ما دام كان هنالك أمل”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©