الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البساطة لم تفارق حياته وكان مثقفاً وعميق الفهم للدين

24 سبتمبر 2009 10:28
البساطة لم تفارق حياته وكان مثقفاً وعميق الفهم للدين عمير اليوسف.. وجه أبوظبي الأليف من أجمل ما أتذكره عن الأيام الأولى التي وصلت فيها إلى أبوظبي بداية عام 1971، أنني كلما مشيت في شوارعها القليلة المعروفة، مثل شارع الكورنيش، وشارع حمدان، وشارع (إلكترا) وشارع الخالدية، كُنت أتبادل التحية مع معظم الذين ألتقي بهم. كان عددنا القليل يسمح بالتعارف وإنشاء الصداقات حتى كأن المدينة كلها بيت كبير تسكنه أسرة واحدة. الآن، حينما أسير في شوارع أبوظبي التي تكاثرت واتسعت وشمخت فيها المباني والعمارات الشاهقة لا ألقي التحية ولا أتلقاها من أحد، لا أحد يعرفني ولا أعرف أحداً تكاثر الناس وصار عصياً عليّ أن أميز واحداً منهم. في هذا يقول الشاعر الدكتور مانع العتيبة: أعود إليك رمال بلادي بحلق مرير ودمع أمر فلا أستطيع التعرف حتى على واحد من مئات البشر بناء يطاول فيك السحاب وخضرة زرع تسر النظر ولكن تغير فيك الرجال وماضي المحبة فينا اندثر أعود إليك بلادي حزينا بدمع على الرغم مني انهمر وأعلن أنك مهدي ولحدي حمى الله أرضك من كل شر كنا نعيش في جو حميمي، نتزاور باستمرار، الأطباء في المستشفى المركزي الوحيد أعرفهم واحداً واحداً حتى الصيادلة كانت تربطني بهم علاقات صداقة قوية جميع الموظفين تقريباً أعرفهم بالاسم، فالعدد كان بسيطاً، أما أعيان البلد والشخصيات الفاعلة في المجتمع فكان اللقاء معهم يدخل الفرحة إلى القلب. من هؤلاء، كان عمير اليوسف، خال معالي الدكتور مانع سعيد العتيبة. ورغم أن الرجل كان من أغنى رجال أبوظبي في ذلك الوقت، إلا أن البساطة التي كان يعيش فيها والتواضع الذي تميز به كان يجعلك لا تفرق بينه وبين أي مواطن عادي بسيط. كان يبادر هو إلى السلام، ولم تكن الابتسامة تفارق وجهه وكأن من يلتقي به هو واحد من أفراد أسرته. وعلى الرغم من كونه الوكيل المعتمد لكبرى شركات الطيران العالمية، خاصة البريطانية، وعلى الرغم من الثروة الكبيرة التي جمعها بكده وجهده مع إخوانه في الزمن الذي سبق اكتشاف البترول في أبوظبي، إلا أن البساطة لم تفارق حياته. فعندما كان يسافر لحضور أي اجتماع مع إدارة شركة الخطوط البريطانية في لندن، كان لا يحمل معه إلا حقيبة يد صغيرة. في تلك الحقيبة ثوب ووزار وغترة ولا يهمه أين يجلس في الطائرة أو في أي درجة، المهم أن يصل ويحضر الاجتماع ويعود. كان عمير اليوسف كريماً، ولكن لا يستعرض كرمه أمام الناس بل يخفي الصدقات بقدر ما يمكنه، كثيراً ما التقيت به في البنك البريطاني يقوم بصرف مبالغ كبيرة من فئة المائة درهم والخمسين درهماً، وعندما كُنت أسأل مدير الفرع وكان الأخ الصديق علي النقي، لماذا يفعل عمير ذلك، كان يجيبني بابتسامة، غداً العيد ولا بد لعمير أن يوزع هذه المبالغ على الفقراء، وفي كل عام كان عمير اليوسف يستأجر طائرة خاصة كبيرة، يجمع فيها عدداً كبيراً جداً من الرجال والنساء، ويذهب معهم إلى العمرة، حيث يقضون طوال شهر رمضان هناك وعلى حسابه الخاص. كانت متعة عمير اليوسف أن يقوم بفعل الخير. ولم يكن يتصور أحد أن يكون ذلك الرجل البسيط، المتواضع من أهم الفعاليات الاقتصادية في الإمارات. ولا أذيع سراً إذا قلت إن بنوك أبوظبي كانت تتسابق لفتح حسابات للرجل وشركاته، فهو ومهما كان المبلغ الذي يودعه في حسابه يرفض أن يتقاضى عليه أي فائدة؛ لأن ذلك من وجهة نظره نوع من الربا وهذا يخالف تقواه وورعه. لم يبن عمير اليوسف ثروة المال، والشركات والعمارات، واللؤلؤ فحسب، بل بنى ثروة أهم وأكبر بنى الرجال، أصر أن يتعلم جميع أبنائه وأن يحققوا أعلى المستويات في مجال العلم فمن وجهة نظره، العلم يبني الوطن والجهل يهدم بيوت العز والكرم. ورغم أن عمير اليوسف لم يحصل على الشهادات العلمية، إلا أنه كان مثقفاً بكل معنى الكلمة، فهو بالإضافة إلى فهمه العميق للدين، خاصة ما يتعلق بالحلال والحرام في الإسلام، كان اقتصادياً من الدرجة الأولى ولا أدل على ذلك من تحقيقه النجاح قبل البترول ووصوله إلى أعلى مستويات النجاح بعد النهضة التي رافقت مسيرة القائد زايد منذ عام 1966. كان -رحمه الله- من المقربين لدى المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -رحمه الله- جمعتهما صداقة امتدت لعشرات السنين، وكان كذلك يحظى بالمحبة والاحترام من قبل جميع أبناء زايد ومن قبل جميع المواطنين. مما أذكره عنه كذلك أنه قام بتقديم قرض يزيد عن أربعين مليون جنيه استرليني لشركة الخطوط البريطانية بدون فائدة، وأن الشركة قامت تقديراً للرجل الذي وقف معها وقت الشدة بجعله الوكيل الوحيد لها في الإمارات. لم تكن علاقة القربى وحدها ما جمع بين عمير اليوسف ومعالي الدكتور مانع العتيبة، بل كان معاليه حريصاً دائماً على زيارة خاله الطيب وحينما شكا ذات يوم من وجود حصى في كليته قام معاليه بنقله بطائرته الخاصة إلى «مايو كلينيك» في أميركا وعلاجه هناك. أذكر أننا زرنا المغرب قبل السفر إلى روشستر في أميركا، وفي مراكش قام عمير اليوسف بزيارة لأشهر ساحة فيها، وهي ساحة جامع الفنا. هناك، وعلى عادته وزع عمير اليوسف صدقاته السخية على الفقراء، وخلال أقل من نصف ساعة وجد نفسه محاطاً بجمع غفير من الناس الذين لم يعتادوا على مثل هذا السخاء، أذكر أنني أسرعت بإخراجه من ذلك المحيط وأنه لم يكن راضياً بذلك بل كان يريد أن يبقى وأن ينال عدد أكبر من الناس من صدقاته. وعندما جاء نبأ انتقال عمير اليوسف إلى جوار ربه كان معالي الدكتور في أكادير، وكان ذلك في الرابع من أبريل 2001. وفي ذلك اليوم الحزين، نظم الدكتور مانع رثائيته التي يقول فيها: يا ليت وعدك كان وعد المخلف يا موت، يا حكم الإله المنصف اليوم تقرع باب خال طيب أرأيت أطيب من عمير اليوسف رجل تحلى بالتقى ومكارم إن كان أخفاه الثرى لن تختفي هذا عمير أيها الموت فلا تعتب على دمعي وقدر موقفي أنا صامد متماسك متمسك بثوابتي، ديني الحنيف ومصحفي لكنه خالي الحبيب وقدوتي في كل فعل ماجد ومشرف كان الغني بدينه لا ماله لم يغره عيش الثري المترف وبنى عمير مساجد وتصدقت يده على المحتاج والمتعفف يا أم مانع لا تنوحي واتركي لله أمرك فهو أكرم مسعف ما مات مثل أخيك فهو بفعله للخير، حي فارأفي بي ارأفي ستظل تذكره بلادي كلما ذكر الوفاء بها ولا ينسى الوفي خليل عيلبوني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©